أقـواس أخـرى مـن سيـرتـي الـذاتيـة

د . فـاروق مـواسـي

- الجـزء الثـانـي -

مسـابقـة القـرآن


في آذار سنة سبع وستين أعلنت الإذاعة عن مسابقه في حفظ القرآن الكريم تحمست لها لأسباب لغوية محضة ، وقررت المشاركة فيها . ويبدو أن غرض القائمين على المسابقة لم يكن نزيهًا تمامًا ، فقد تزامنت مع حزيران سبع وستين ، فأقبل الناس على البرنامج ، واستمع إليه كذلك أهلنا في الضفة والقطاع - ممن ستحتل إسرائيل أراضيهم بعد أقل من ثلاثة أشهر ، فأخذت الإذاعة تعيد بثّ المسابقة مرة تلو المرة ، ولسان حالها يزدهي بالحرية الدينية المتاحة للعرب الذين بقوا في ديارهم عام ثمانية وأربعين ، فلا تخشوا يا عرب السبع والستين !!!
وزار بيتك بعد الاحتلال بعض الأقرباء وغير الأقرباء ممن جمع بينكم الاحتلال ، وسألوا عن هذا الفتى " رجل القرآن الكريم " ، وكنت كأنك في عرس آخر فيه جلالة ومهابة ، لم تكن قد نعمت بهما يوم عرسك . (قيل لك إن المسابقة كانت أصلا لاختيار قاض للمحكمة الشرعية ، ولكن طابعها تغير عندما وصلت إليك ، ولم تهتم ولم تغتم) .
سأعود بك إلى مسابقة القرآن الكريم وكيف بدأت :
رشحت نفسك للمسابقة الإذاعية التي أشرف علها الإذاعي أبو جرير ، فقد تم تسجيلك متأخرًا بناء على رغبة مشتركة لك ولوالدك . أما أنت فكانت رغبتك أن تخوض بحر اللغة العربية ، فلا فهم لغوي حقيقي دون تدبر آيات القرآن وبلاغته ، وأما والدك فكانت بغيته تشجيعك على العودة لله - على طريقته هو ، فقد أغراك بأنه سيضاعف الجائزة المالية وتكون الجائزة من حظك جائزتين .
تقدم للمنافسة نحو خمسين متسابقًا ، منهم الإمام في المسجد ، ومنهم الفقيه المتعبد ، ومنهم من لا ينثني عن ترديد الآيات التي يصعب حفظها - ليل نهار - ، و عجبت لبعض الأسماء المشاركة ، مما لا يحسن بك الإفصاح عنها .
في الامتحان الشفهي للتصفية الأولى ورد لك السؤال :
اذكر ثلاث آيات تبدأ بقوله تعالى "الله لا إله إلا هو ..." ؟
كنت تحفظ آيتين هما آية الكرسي ، والآية الثانية من آل عمران ، فارتأيت أن تحسن التخلص أولا ، فتبدأ بما هو ليس متوقعًا ، فأخذت تجمع بين أجزاء آيات ، ولم تتلجلج ، فإذا الأمر يمر بسلام ، ولم يعترض أي من أعضاء اللجنة خشية من اتهامه هو بأنه لا يحفظ ، وإذا بك تفوز في التصفية .
في مسجد الجزار كانت المسابقة النهائية ، وقد دعي إليها مئات الضيوف من علية القَوْمين ، وانطلقت الأسئلة تترى ، والإجابات على إثرها ، وبدأ المشاركون يقصّرون في السباق الواحد تلو الآخر حتى بقي اثنان : أنت وأبو فاروق من قرية مجاورة لبلدتك .
أغراك أبو فاروق بأن تحظى بالجائزتين معًا - وأقسم - على أن تفسح له مجالا بالفوز ، فهو يخشى ألسنة أهل بلده ولذع سخريتهم فهو مدير المدرسة ، وهو في عمر متقدم ، و لن ينسى لك صنيعك .
قلت له وأنت تنظر إلى والدك ونخبة من أصحابه ، وقد حضروا لسماعك :
"وماذا نقول لأبي فاروق الآخر الذي يبتسم من بعيد مزهوًّا ؟"
وأعلن عنك أنك "نجم الشهر" و "حافظ القرآن" و "رجل القرآن الكريم" .
هنأك الناس من كل حدب وصوب ، وسرت على بركة الله رغم قصيدة كفرية غاضبة أطلقتها في أعقاب النكسة ، ولم تنشرها ، وكأن الله هو الذي ساق إلينا الهزيمة ؟ وكأن الشاعر فيك قد نسي "...لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" .

* * *
سمحت السلطات - ولا يهم من هي - للعرب في الداخل أن يؤدوا فريضة الحج ، ومع الفوج الأول سنة 1978 كان وداع أشبه بمهرجان متواصل طيلة ثلاثة أيام ، وكان لك القدح المعلى - أنت ونخبة من زملائك - في إدارة دفة المهرجانات ، بل ألقيت قصيدة عبرت فيها عن مشاعرك الدينية قلت فيها :
ودع حجيج الله واسأل ركبهم       أن يقرئوا أرض الحجاز سلامنا
إنا لفي لهف نحن ونرتــجي        أن يرفع الإسلام صوتًـا بيّنـــا
.... ، ولم تنشر هذه القصيدة كما لم تنشر عشرات غيرها ، لأنك اعتبرتها خطوات أولى في مسيرتك الشعرية .
ثم ألقيت قصيدة في الترحيب بالحجاج بعد عودتهم ، قلت فيها :
رحب بحجاج بيت الله   والحرم       أهلا وسهلا بكم من معدن الكرم
كيف الرسول وأهل البيت عترته       إني أحبهم في خاطري   ودمي
.........
ليست ديانتنا قشرً ا يزيننا       بل جوهر صوغه من ثورة الهمم
ما الشكل إن لم يكن مضمونه دركًا
                                  للبر والأمر بالمعروف والحكم

* * *
تاريخ النشر : 15:36 11.08.04
 الجـزء الأول