أقـواس أخـرى مـن سيـرتـي الـذاتيـة

د . فـاروق مـواسـي

- الجـزء الأول -

رحـلتـي فـي مـذهبـي


- إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حُمل على الإيمان ، ولا يجوز حمله على الكفر -
محمد عبده

في الدين - كل دين - بحث عن اليقين . ولكنك - مع ذلك - كنت تستصعب التسليم بأي يقين ، ولسان حالك- فيما بعد- ما قاله أبو العلاء المعري : -
أما اليقين فلا يقين وإنما       أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا

وبسبب هذه الازدواجية: يقين- لا يقين، سأدعك تتذكر حكاية ما جرى لك في هذا الباب أو المشرع ، وما فكرت به ، وما اتُّهمت فيه ، إلى أن غدوت معتمرًا وتكتب قصيدة "الحج الأصغر" ، وحتى وصلت إلى قناعة ما، رغم ما ينتابها من موجات القلق الفكري والوجودي بين الفينة والفينة.
تذكر في طفولتك أنك حفظت جزء عمّ ، وكنت تتردد على الزاوية الصوفيّة القريبة من منزلك تصحب والدك المتدين آنًا، وتدركه آنًا آخر في عتمة الليل عند صلاة الصبح - دون أن تخشى أحدًا- رغم منع التجول . كنت تقرأ الأوراد مع الدراويش، وتقيم معهم حلقات الذكر ، بل تترنم وأنت تردد :
نحن بالله عزنا       والحبيب المقرّب
بهما عز نصرنا     لا بجاه ولا منصب
كل من رام ذلنا        من قريب وأجنبي
سيفنا  في  قولنا        "حسبنا الله النبي"


صليت تسع سنوات ، وصمت حتى النوافل، بل أذّنت لصلاة العصر مرتين ، وخلا الميدان لك بعد غياب المؤذن ، وكيف تنسى أنك صليت في الناس إمامًا ذات مرة.
وحفظك الدين من بضعة أخطاء أو موبقات وقع فيها بعض أبناء جيلك، وذلك لأنك كنت تؤمن أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ، ولذكر الله أكبر .
وبسبب الاتصال بالكيبوتسات أو المستوطنات مرة وبسبب اشتراكك في الخلية الشيوعية أحيانًا ، اصطدمت بآراء أخرى مباينة، وأفكار دُهشت لها أولاً، ولكنك سرعان ما أخذت تسائل نفسك: وأنًى لي أن أثبت لهؤلاء إن هناك إلهًا بكل أسمائه أو صفاته التسع والتسعين ؟!
مضت سنوات عشت فيها في شكٍ مريب، لا تجد في يفاعتك من يوجهك أو يشرح لك أو يجيبك عن تساؤلك عن حقيقة الله والملائكة والشياطين والجن والبعث والنشور والعقاب والحساب ويوم القيامة، وعن دور الأنبياء، ومن هم؟ ومن هم الأولياء؟ وما هي حقيقة الإسراء والمعراج، وما هو القضاء والقدر؟ وهل الشر هو من صنع الخالق أيضًا ؟ وهل أنت مسير أم مخيًر ؟
وكانت الأسئلة تزداد كلما طالعت القرآن وكتب الحديث، فتخضع ما تقرأه للمساءلة، وتسأل :
لماذا سمح الإسلام بالرق؟ وما هذه الأحكام التي يعاقب فيها السارق أو الزاني أو القاتل أو الذي يريد طلاق زوجته ثم العودة إليها ؟
وتظل الأسئلة حول المرأة أكثر ما يضايقك، فأنت لا تعرف كيف تجيب، ولا تجد مرجعًا جادًا يوجهك، فلماذا للمرأة النصف في الميراث ؟ ولماذا الرجال قوامون على النساء؟ أليست هناك نساء أقدر على تصريف أسباب الرزق - خاصة إذا كن بمستوى تميّزٍ عن بعض الرجال؟ ولماذا شهادتها لا تعادل شهادة الرجل؟ ولماذا يمكن أن تُضرب إذا لم تطع زوجها؟ ولماذا أصلاً يمكن للرجل أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع ، ويحق له الطلاق متى شاء بينما لا يحق لها قرار الطلاق متى شاءت - وبنفس التساوي ؟ وهل طلب منها أن تضع على رأسها النقاب؟ في أية آية حصرًا؟ وهل يعني قوله "يدنين عليهن من جلابيبهن" أو قوله "يضربن بخمرهن على جيوبهن " يعني أن يغطين شعورهن، و.... ؟!
أسئلة وأسئلة لم تجد من يفهمك أو يوضح لك، وكان أبوك قاصرًا عن الإجابة رغم محاولته المخلصة في الذود عن حرمات الدين وعن المسّلمات.
فإذا ما قرأت بعض الردود من الكتب المتيسرة على هذه المسائل وجدت الظلع في الإجابات ، فتؤثر أن تسكت خوفًا من الهجوم الكاسح أو الاتهام من هذا وذاك بأنك كافر مارق ...فرحم الله امرءًا قال خيرًا فغنم أو سكت فسلم .
اعترف الشيخ (ع) لأبيك أنه أوقف تعليم ابنه في المدرسة الثانوية خوفًا من فساده كما " فسدت" أنت، فالتفكير يؤدي به إلى التهلكة ، ولا يزيد ه ذلك إلا خسارًا أو تبارًا ، بل إن والدك طلب منك الابتعاد عن كتابات خالد محمد خالد التي كانت " شركة الكتاب العربي " تسوقها فهو الذي "أتلفك"، وكان أبوك يلعنه دون أن يقرأه . وألح عليك أن تجالس الشيخ سعيد الجتّي الشيخ الأزهري لتسأله ما يعن على بالك.
ولم تجد لدى الشيخ الذي أحببته لدماثته ما يشفي غليلك ، وكان في بعض إجاباته تكرار لجمل أو نمطية في الفكر ، ولكنك أحببته .... فرثيت الشيخ يوم أن توفي ، وقرأت على ضريحه قصيدة طويلة ،فخلعت عليه شعرًا قلت فيه ما يراه الناس فيه ، و منها :
يا مرجعًا للعلم من سيؤول فينا مرجعا
نأتي إليه فنهتدي ونعود نكسب منفعا
خلفت أرض العلم هذا اليوم تبكي مدمعا
وجعلتنا أيتام هذا الدين والدنيا معا

فتواك يا شيخي لتنطق " كان فذًّا أروعا
والهيبة العظمى على نور تألق بالطيوب
بقيت تحلق فوقنا وتضيء في كل الدروب

ثم أخذت تتهرب من مجابهة المسائل الدينية، حتى ظننت أنّك تستطيع أن تعيش مستقلا دون اللجوء إليه ، ولتترك للناس معتقداتهم وعاداتهم . وقلت :- لماذا من الضروري أن تحمل نفسك ما لا طاقة لك به ؟ ومن قال إنك مسؤول عن إجابة كل معضلة .
* * *
تاريخ النشر : 15:36 11.08.04
  مقـدمـة