إخلاء المستوطنات الإسرائيلية - الدلالات والغنائم

يوسف العمايرة - الخليل


        مع اقتراب موعد تطبيق الخطة المقترحة لإخلاء المستوطنات الإسرائيلية "فك الإرتباط" من قطاع غزة وبعض مستوطنات شمال الضفة الغربية، تتعالى الأصوات في الأوساط الرسمية الفلسطينية منادية بإيجاد آلية لتسلم تلك المناطق المنسحب منها الجيش الإسرائيلي وأرتال مستوطنيه، بحيث تجري العملية في إطار منظم، ليصار بعد ذلك إلى التصرف بغنائم الانسحاب حسب ما تقتضيه الحاجة. وقد تم في هذا الإطار إعداد الخطط الأمنية اللازمة "لمنع نهب أو تدمير" المستوطنات المذكورة كإجراء انتقامي من قبل الفلسطينيين.
الانسحاب المقرر - في حال تم- سيشمل التجمعات الاستيطانية في قطاع غزة المقامة على مساحة (8163 دونم) يسكنها حوالي (1500 مستوطن)، مضافا إليها مستوطنات "غوش قطيف" المؤلفة من (12 مستوطنة)، يقطنها (6000 مستوطن) وتسيطر على نحو (11%) من مساحة قطاع غزة. بالإضافة إلى أربع مستوطنات صغيرة من أصل (120) مستوطنة مقامة على أرضي الضفة الغربية، وهذه التجمعات الأربعة المتاخمة لمدينة جنين هي كاديم ويقطنها (500 مستوطن)، غانيم (540 مستوطن)، سانور (450 مستوطن)، وحوميش (250 مستوطن).
خطة فك الارتباط، لها وقع خاص ودلالات معينة لدى الأطراف ذات العلاقة المباشرة، وهذه الأطراف هي:

رئيس الوزراء الإسرائيلي أرئيل شارون : الأب الروحي للخطة، والذي لن يبرح يستذكر الأيام التي وضعت فيها اللبنات الأولى لإقامة المستوطنات المُخْلاة قريبا. فقراره هذا تاريخي غير مسبوق، وهو الأول منذ 38 سنة تفصلنا عن عام الاحتلال للضفة وغزة 1967، ويتم بغطاء رسمي هو الأول الذي يقبل فيه البرلمان الإسرائيلي "الكنيست" تفكيك مستوطنات يهودية. وإن كان شارون يروج بأن خطته جاءت كبادرة أحادية الجانب، مستغلا فرصة تطبيقها للظهور أمام العالم بوصفه "رجل سلام"، فإنه قد أكدّ مرارا أن الانسحاب يعتبر "القرار الأصعب في حياته" وسيكون "من أجل إنقاذ إسرائيل" و"توطيد الأمن" للإسرائيليين.
وهذا يعني أن شارون والقوة الاحتلالية قد اتخذت قرار إخلاء المستوطنات مرغمة، بعد أن أريقت على حدودها وأسياجها وداخل ثكناتها دماء يهودية غزيرة بفعل العمل الفلسطيني المقاوم الذي لم يشك طوال عقود ماضية بأن أرضها وسماءها حق فلسطيني موروث.

المستوطنون : وهم الطرف الرئيس المتأثر من عملية الإخلاء، جمعهم ساسة الحكم الإسرائيليين من أصقاع الأرض تحت شعار "إعادة إحياء إسرائيل"، ووهبوهم أرضا ليست أرضهم، ومياه لم يتذوقها آباء لهم أو أجداد، وجعلوهم كأداة قمع واستعباد بحق سكانها الأصليين. وها هو شارون وبعد أن نشأ منهم جيل ثان، يأمر بإعادة نشرهم في مستوطنات أخرى أو داخل الكيان، ليوجه لهم صفعة قوية أشار إليها عوزي بنزيمان الكاتب في صحيفة هآرتس بقوله: "لا يتوجب الاستخفاف بمصاعب فك الارتباط خاصة بالنسبة لكل عائلة من عائلات المستوطنين، وليس من الصحيح وصف ذلك بأنه تغيير لعنوانهم السكني، فالإخلاء اقتلاع من الحلم ومن روتين الحياة الاعتيادي، وتبدد لرؤيتهم وفلسفتهم الجماعية".
ولعل ردة الفعل التي واجه بها المستوطنون وجماعات اليمين الراديكالي قرار الإخلاء، بالتظاهر وإقامة الصلوات الدينية والإفتاء بحرمة ما يحصل، ثم التهديد بمس حياة شارون، يعبر عن مدى السخط والشعور بالإحباط. وبذلك يكون شارون، قد أقعد نفسه مجلسا مأزوما ما بين هؤلاء إذا انسحب، وما بين الرأي العام الدولي إذا لم ينسحب.

القيادة السياسية والأمنية الإسرائيلية : وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق يغال ألون كان أحد مخلصي الرعيل الأول في عملية تحقيق "الحلم اليهودي"، وقد صرح عام 1969 "إننا نخلق أرض إسرائيل التي تكون موحدة وشاملة في الإطار الإستراتيجي ونحافظ على دولة إسرائيلية من الناحية السكانية". ربما يكون هذا تصريح المنتصر في ذروة التفوق المادي والمعنوي بعد هزيمة حزيران 1967 المنكرة، غير أن قادة الكيان الحاليين الذين كانوا وقتها ضباطا أو جنودا، لم يستطيعوا الإبقاء على جذوة هذا التفوق النوعي في المنطقة رغم الإنفاق العسكري الطائل، إذ تبلغ ميزانية إسرائيل في مجال الدفاع حاليا 30%، وهى أكبر من ميزانية مصر والأردن وسورية مجتمعة.
القيادة السياسية والأمنية الإسرائيلية تدرك جيدا أن خطة شارون، لم تأتِ كموقف سياسي أحادي كما يتم الترويج لها، بل تأتي كحاجة ملحة اقتضها تداعيات المواجهة الشرسة مع الفلسطينيين. وخبرتنا نحن الفلسطينيون مع المحتل الإسرائيلي أنه ليس كريما للدرجة التي تدفعه لأن يقدم أرضا ولو شبرا من "وطنه القومي" لـ"الأغيار"، فمفاوضاتنا معه لا زالت تتراوح في كثير من مفاصلها الهامة بين اختلاف التفسيرات والرؤى للقرارات والمواقف والمبادرات الدولية ذات الشأن، وتباين ترجمات نصوصها ما بين "أراض محتلة" أو "الأراضي المحتلة" وهذا على سبيل المثال.
ولعل أخطر اللحظات في تنفيذ هذه الخطة من وجهة نظر هؤلاء القادة، ليست بكيفية إخلاء المستوطنين، أو مواجهة رأي عام إسرائيلي واسع مصدوم بهذا الانقلاب في الأيدلوجية الفكرية لمسألة الاستيطان وعلاقتها بالحلم اليهودي، وإنما اللحظة الخطرة ستظهر بقوة الانفجار المرعب، أثناء عملية دخول الفلسطينيين تلك المستوطنات عقب الانسحاب، والشكل الذي سيرافق هذا الدخول، وهل سيتم من البوابات الرئيسة لها، أم اقتحاما عبر أسوارها وسياجاتها المحيطة، ليعاد إلى الأذهان تقدم اللبنانيين صوب الخيام وغيره من المواقع التي فرَّ منها الجيش الإسرائيلي وعملائه بليل في ربيع عام 2000. ولهذا لم يكن قادة الأجهزة الأمنية متشجعين للخطة منذ إعلانها، فرئيس هيئة الأركان موشيه يعلون يرى أن "الخروج من غزة سيبث روح إسناد للإرهاب"، أما آفي ديختر رئيس جهاز الأمن العام، فيشير إلى أن الخطة "ستؤدي إلى إحساس الفلسطينيين بالنصر والى تشجيع الإرهاب"، فيما يؤكد رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية أهارون زئيفي أن "الفلسطينيين يرون في خطة شارون لفك الارتباط من طرف واحد انتصارا للإرهاب، والأمر كفيل بأن يشكل عاملا مشجعا لتشديد أعمال الإرهاب في المستقبل". وهؤلاء جميعا يقرأون الخطة على ضوء الأسباب الحقيقية وما تعكسه من نتائج فعلية منطقية الحدوث في المستقبل.
أما القادة السياسيين الذين ولدوا من رحم المؤسسة العسكرية، وترعرعت هي بوحي بنات أفكارهم، فيريدون للخطة أن تنفذ بعيدا عن سجال الأسباب والنتائج. لذلك افتعلوا قضية "آلية التسليم والتسلم"، ليتم استهلاكها إعلاميا في الصحافة الإسرائيلية ووسائل الإعلام كافة، هل ستسلم المستوطنات ببيوتها للفلسطينيين، أم يتم الرحيل بالبيوت والأغطية وذكريات عقود طويلة.. وكأن ما يهم الفلسطينيين الذين أفقدتهم الآلة العسكرية الإسرائيلية خلال السنوات الأربع الماضية آلاف المنازل والمزارع والممتلكات، هو أن تبقى تلك البيوت وأعمدة الكهرباء وشبكات المياه سليمة. إنهم بذلك يريدون مقايضة شعور الهزيمة بمنح الفلسطينيين أطلالا تذكرهم بسنوات القهر والإذلال. وفي هذا الإطار، احتدم الجدل في إحدى جلسات الحكومة بين الوزيرين شمعون بيريز وبنيامين نتانياهو عندما أكد الأول أن مظاهر الهدم ستخلق انطباعا سيئا للغاية في الرأي العام العالمي تجاه "إسرائيل"، وبالإمكان استخدام مباني المستوطنات كمنتجعات استجمام لصالح الفلسطينيين، فرد عليه الأخير أن المستوطنات ستتحول إلى منتجعات لأفراد حركة "حماس" وأن إبقاء المنازل سيكون بمثابة انتصار معنوي للإرهاب.

المقاومة والشعب الفلسطيني : يصرّ الشعب الفلسطيني وفصائله المقاومة، بأن خطة الإخلاء جاءت كثمرة طبيعية لتضحيات جسيمة تكبدها، وكبد فيها المحتل خسائر فادحة في الأرواح والمعنويات. فالجندي الإسرائيلي وهو يحزم ما تبقى من أمتعة وروح قتالية منكفئة قل نظيرها، يراه الفلسطينيون يغادر غزة في جنوب فلسطين وهو يجرّ ذكريات أشد إيلاما في شمال فلسطين على الحدود مع لبنان في أيار من العام 2000. وما بين الشمال والجنوب المتاخم لسيناء، تتيه "شجاعة" الجندي الإسرائيلي ومؤسسته العسكرية ما بين الدفاع عن "الكيان" أو التوسع لتنفيذ أسطورة "إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات". فهي إذن، مرحلة تيه الجيش الذي لا يقهر، وقد قُهِرَ هذه الجولة بشوكة المقاومة التي فقأت بالونا حراريا أسطوريا أحاط به الجيش الإسرائيلي نفسه، وأرهب به جيوش التحرر العربي.
يدرك الشعب الفلسطيني أن "إسرائيل" تحاول اجترار خطة الانسحاب في الأوساط والمحافل المختلفة، محليا وإقليميا ودوليا، وتوظيفها وتضخيمها بشكل يرى فيها غير المتابع للشأن، أن المقصود انسحاب جيش مؤلف من فرق وكتائب وألوية، وإخلاء مساحات واسعة من الأراضي وإعادة سيادة، وهي في الحقيقة مساحة تعادل 1% من مساحة الأراضي المحتلة. والهدف الحقيقي من وراء التمترس الإسرائيلي خلف هذه الخطة لا يعدو أكثر من مسألة مساومة سياسية مع الفلسطينيين لأمد غير قريب، ولتأجيل استحقاقات مستقبلية مطلوب من الإسرائيليين الالتزام بها وتنفيذها.

زوبعة الغنائم :
يبدي الإسرائيليون قلقا غير مبرر على مكونات البنية التحتية للمستوطنات، فهم وإن أعلنوا حرجهم من هدم مبانيها أمام الرأي العام الدولي، فالحقيقة تثبت غير ذلك، إذ أنهم لم يشعروا بالخجل أو الحرج عندما كانت طائراتهم ومدافعهم وبوارجهم تدك المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية وتمحو بعضها عن الوجود، بإنسانها ومساكنها ومزارعها. والثابت قطعا هو الإجماع الإسرائيلي حول حقيقة "مشاعر الرأي العام الإسرائيلي" "من مشاهد يرقص فيها منفذو العمليات على السطوح" كما يقول أطيلا شومفيلبي في صحيفة يديعوت أحرونوت، وهذا مكمن القلق الحقيقي. الطروحات الإسرائيلية المتداولة، هو أن يتم تحويل المستوطنات إلى معسكرات لرجال الشرطة الفلسطينية دون عوائلهم، أو تحويلها لمنتجعات سياحية حسب وجهة نظر شمعون بيريز الذي يظهر هذه المرة كما في السابق بسحنته التنموية كذاك الذي يستطيب الاستحمام بالندى، وهو يدرك جيدا أن مشاريعه لا تدخل قائمة الأولويات الفلسطينية على المدى المتوسط على الأقل. أما فلسطينيا، فالمستوى السياسي يتفاعل مع القضية بجدية بالغة وهو بصدد وضع الخطط الأمنية اللازمة لاستلام المستوطنات ببناها التحتية، وربما تتدخل أجهزة الأمن الفلسطينية للحيلولة دون حدوث مصاعب حفاظا على سلامة المباني والممتلكات. الشارع الفلسطيني يدرك أن شعور الانتصار لا يروق للإسرائيليين، لكنه وتحت وطأة ردة الفعل الطبيعية في مثل هذه المواقف، يميل إلى إبداء مظاهر الانتصار.. لن نتفاجأ إذا تقدم العامة، شيبا وشبانا، باتجاه "المستوطنات المحررة" وأعلنوا على الملأ أن دعونا نحتفل ولا تفسدوا علينا نصرنا.. كل جيوش العالم تشرب أنخابها عند الانتصار، فلنشرب نحن أنخابنا على طريقتنا.. نخبنا ليس كأسهم الذي احتسوه مع تشييع كل جنازة شهيد وقائد، بل قميصنا الذي لا نملك غيره، عندما يتمزق إربا ونحن نقتحمها من غير أبوابها عنوة، أسوة بأولئك الشهداء الذين قضوا برصاص قناصيها عندما كانوا يقومون بمهامهم.. من حقنا أن نضحك بملأ أشداقنا، ومن حق ذوي الشهداء والأسرى أن يدخلوا هذه المواقع بعزّة وكبرياء، علّ الموقف يشف صدورهم وقد أفقدتهم هذه المستوطنات وثكناتها العسكرية أعزّاء وممتلكات.. ليس من حق أحدهم أن يضبط عملية دخول هؤلاء، وإن كان المبرر الحفاظ على الممتلكات والحيلولة دون نهبها، فلنوقن أن أحد منا لا يطمع بما يخلفه الاحتلال، سوى أن نسترد ترابنا وماءنا وهواءنا، وأن عدونا إذا رحل لن يترك خلفه ما ينفع أحدا، بل سيسعد الكثيرون عندما يدخلون تلك المستوطنات وقد دمرها سكانها بأيديهم.. نحن نعشق أرضنا وهي تعود لنا بذات التراب الذي سلب منا منذ زمن.. ما السبب الذي يدفع البعض إلى اختزال مظاهر الانتصار بمقاييس ربح وخسارة الدولار؟! لماذا يطلب منا أن نكتم مشاعر انتصارنا احتراما لأحاسيس المحتل الذي امتهن كرامتنا، وذبح مشاعرنا بنصل آلته العسكرية الأكثر وحشية في العالم؟! غير أنه من الواجب - بالمقابل- اتخاذ الحيطة والحذر، فضحايا الألغام لا زالوا يتساقطون تباعا في كل بقعة غادرها المحتل الإسرائيلي طوعا أو كرها في لبنان وسيناء والضفة وغزة.. والمساكن والمنشآت المقامة لا تلائم الحالة الديمغرافية في قطاع غزة الأكثر كثافة في العالم، ناهيكم على أنها بيئة معروفة للجيش الإسرائيلي، ومن السهل التعامل معها في حال وقوع أية مواجهة في المستقبل.

الخلاصة :
يمكن القول، أن التفوق العسكري الإسرائيلي يمر بمرحلة أزمة حقيقية، فهو وإن نجح في إخماد قوة الجيش التقليدي العربي في كافة أماكن تواجده من المحيط إلى الخليج، إلا إنه فشل في التعاطي مع قوى تحررية، خرجت من رحم المعاناة المتولدة بفعل ضغط الاحتلال الإسرائيلي وممارساته في فلسطين ولبنان على وجه الخصوص. وإذا كان الإسرائيليون حريصون على أن لا يتحول الانسحاب المتوقع إلى معركة حول وعي في مفهوم المواجهة تمهيدا لتحول تاريخي غير مسبوق في معادلة الصراع القائمة، وهو ما يختصرونه في عبارة "حتى لا يتحول الانسحاب إلى محفز للإرهاب"، إلا أن الواقع ثبت نجاعة الفعل الشعبي المقاوم ضد قوى الهيمنة والاحتلال، في لبنان بداية وها هو في فلسطين مرة أخرى.. وإلا، فما يعني شيوع اصطلاح "الإنعتاق من غزة" في الأوساط الإسرائيلية، مقرونا بالانسحاب المنتظر. لقد فشلت "إسرائيل" في تفكيك القرار الفلسطيني الموحد بالمقاومة والمدعوم من كافة فصائل العمل الوطني، الأمر الذي اضطرها إلى تفكيك مستوطناتها في خطوة هروب وإنكفاء.


يوسف العمايرة - الخليل / فلسطين
yamayreh@yahoo.com

تاريخ النشر : 14/5/2005