خليل .. لن ننساك
بقلم : سـري القـدوة *

سـري القـدوة

لم يكن عامك بالعام العادي بالنسبة لنا ولم يكن رحيلك إلا صوتاً يحلق في سماء الوطن يلاحق القتلة الجبناء..
لم يكن ربيع عمرك إلا صحوة لهذا الضمير الذي ما زال غائبا في متاهات الزمان الفلسطيني..
ولم تكن سوى ذاكرة للوقائع والأحداث الفلسطينية التي تناثرت على مدى الزمن الذي لم يأتي بعد..
في غزة خرجنا لوداعك وفي مقبرة الشهداء وضعنا ثرى تراب غزة على جثمانك وودعناك..
أعترف أن يومك هو الذي عاد بي إلى ذكراك المتناثرة لأنني اشتقت إلى حوارك.. اشتقت إلى كلماتك التي طالما داعبت أحاسيسي بصدق مشاعرها وانتماؤك وفلسطينيتك..
أعترف أن القدر كان يلاحقنا فقد رحل عنا الزعيم.. رحل عنا الياسر وتركنا وحدنا..
أعترف أن البقاء الفلسطيني الآن بات دون معنى.. بات يعني شيء واحد فقط.. هو أن ينهض هذا الشهيد أنت تعرفه تماماً ينهض "فارس عودة" من بين جفون تراب فلسطين.. ينهض ويعلن ثورة الغضب هذا الشعب اليوم يحتاج إلى فارس عودة إلى هذا الحلم الفلسطيني القادم فينا وحتماً سيكون..
حبيبي خليل..
أنا هنا أمامك.. أمام روحك الطاهرة.. أمام قبرك والحجارة التي تتناثر، أقف وأقرأ الفاتحة خمسة مرات.. ويدي ترتعش خوفاً من هذا الطوفان القادم الذي يلاحق هزائمنا..
أعترف أننا فشلنا في ملاحقة القتلة وسجلت القضية في ملفات المباحث العامة ضد مجهول.. وتراكم الغبار على صفحات الورق وما بقيت سوى تلك الصور للرصاص الحاقد الذي اخترق جسدك ..
حبيبي خليل..
لم أرثيك هذا العام لأن جرحي وبكائي عادة لم يعرف الرثاء ولأن الرثاء هزيمة ندب تلاحقنا منذ أن تركنا المرأة العجوز وحيدة وهي تقف حاملة منجلها على بوابات قرية كفر قاسم تركناها وذهبنا وقلنا يومها أننا عائدون..
هكذا تعودنا أن نرثي بكلمات الدموع والألم والحسرة تعلمنا منذ ذلك اليوم أن نفتح أبواب الفداء ونقيم المآتم ونوزع الشراب والحلوى والتمر ونقول أنه عرس شهيدنا فتحول الوطن إلى أعراس للشهادة وتراكمت مذكرات الأجيال وتزاحمت الأسماء ونحن غير قادرين على مواجهة القدر.. أصبحنا نعلق جيشنا ونقاوم هزيمتنا ونقول إننا لمنتصرون.. إننا لعائدون.. وإننا لصامدون.. وإننا لمتحررون..
هكذا تناقلت الانتصارات من جيل إلى جيل.. وهكذا تعلمنا أن الضربة التي لا تميتنا تزيدنا قوة.. هذه هي التراجيديا الفلسطينية العقيمة ..
أن يرحل عنا خليل ويتركنا وحدنا.. فهذا لم نكن نتوقعه.. وأن يكون خليل اسم في الذاكرة الفلسطينية ومجرد كلمات نكتبها وإعلان حالة الاعتصام أمام مقر النائب العام بغزة هذا ما نستطيع أن نفعله حقاً في زمن الردة هذا الزمن الرديء زمن البكاء والخنوع والذل..
أرجوك معذرةً أن تسامحنا.. أرجوك أن تتقبل دعواتي وترحمي.. تتقبل صمتي وحزني وألمي..
أرجوك معذرةً أن لا تحزن وأنت هناك.. لا تحزن لأن وصيتك ما زالت بيننا وأنت تعيش فينا..
كل يوم في الصباح نفتقد خليل.. نفتقد للمساتك وتعليماتك وصوتك وتوجيهاتك.. نفتقد إلى هذا القادم من هناك في لحظات كان فراقك الأصعب علينا..
بكينا ورائك عندما لم يعرف الرجال البكاء.. وخطبنا خطب عصماء.. وتعودنا أن نضع صورك في مكاتبنا.. فعشت بيننا.. هذا كل ما فعلناه.. ولكن سامحنا حبيبي خليل القتلة ما زالوا يغتصبون الوطن.. القتلة ما زالوا طلقاء.. سامحنا خليل إن ذكراك تدفعنا وتدعونا إلى أن نذهب أمام مقر النائب العام لنطالب بالكشف عن القتلة وتقديمهم إلى المحاكمة.. وكأن النائب العام في يديه وبين يديه العصا السحرية حيث سيعلن فور انتهاء اعتصامنا إلقاءه القبض على القتلة وتقديمهم إلى المحاكمة.. سامحنا يا خليل لأننا نحن المهزومين نجتمع ونطالب ونبحث ونكتب وكأن الكلمات ستحرق بلهيبها من أطلق الرصاص عليك.. عذراً هذا ما نمتلكه إنني أعترف أمامك بأن الهزيمة تلاحقنا إننا نعيش الهزيمة مهزومين.. إننا ما زلنا نفتش في يوميات الذاكرة الفلسطينية عن موعد آخر للقاء..
إننا ما زلنا نحاول أن نترجم لغتك إلى كلمات الحب والوفاء..
فأنت يا خليل أنت معلمنا وروحنا وأنت كما تعلمنا من روحك سنتعلم من دستورك وستكون كلماتك هي الدافع القوي لبقاءنا واستنهاض الحالة الفلسطينية للخروج من الأزمة والتعبير عن حالة الرفض للهزيمة..
إن الضربة التي لا تميتنا تزيدنا قوة.. واليوم نحن الأقوياء لأننا في حضرة خليل الزبن.. لأن اليوم هو يوم رحيلك.. يوم أن بكيتك يوم أن وقفنا لوداعك وكانت صورتك هي موعداً لنا إننا الأقوياء يا أبا فادي لأن الوطن كله اليوم يتذكر خليل الزبن.. وكم كانت الرسائل التي انهالت على البريد ووصلتني اليوم في مكتبي وبأسماء وعناوين مختلفة منها أصدقاء عرفتهم ومنها أصدقاء لم أعرفهم كلهم يتذكرون خليل.. كلهم يكتبون عن خليل.. كلهم الأوفياء لخليل كلهم يرفضون الهزيمة ويعلنون حالة التحدي للقتلة والخونة الذين باعوا أنفسهم وارتضوا أن يكونوا عملاء جبناء وينفذون تعليمات أسيادهم ويقتلون جسدك لتذهب عنا وتبقى روحك الطاهرة تعيش معنا نستلهم منها الحب والبقاء والاستمرارية والحياة..
أنت اليوم يا خليل تعيش بيننا لم ولن تموت.. ستبقى إلى الأبد عنواناً للتحدي.. وعنواناً لمقاومة الهزيمة وعنوان للصمود والشموخ كشجر النخيل.. ستبقى جبارا في تحديك وعنوانا للبقاء والإصرار والانتصار .
إلى أبناؤك إلى أم فادى وفاطمة وأسماء وزينب... إلينا جميعاً إننا على عهدك ماضون وبصوتك وروحك سائرون نتحدى هزائمنا ونواجه قدرنا بإيمان مطلق بحتمية الانتصار واستعدادنا للتضحية والفداء.
فعهدنا لك أبا فادي عهدنا أن نبقى على دربك نواجه قدرنا ونتحدى بروحك وعنفوانك وشموخك.. ونعيش بحرية وكرامة وعزة وشرف لا نعرف الذل ولا نعرف الهزيمة ولا نعرف الخنوع.


* سري القدوة : المحرر المسؤول رئيس تحرير جريدة الصباح - فلسطين
للمراسلة : alsbah@alsbah.net
ALSBAH.NET
تاريخ النشر : 02.03.2005