بـوح صـاخب الأمـواج
بقلم : سليمان نزال
يخدعه طقس الحروف الغائمة,تخدعه مكيدة الأفكار المكررة, كنغماتِ الهروب, تخذله التواريخ المفخخة و التناقضات الحليفة و الصداقات الخفيفة و إئتلافات النهب و التفريط و يستفزه برنامج التراخي و الإستلاب و الشارع الحزين المرتبك الذي لا يجد زقاقاً يحتمي به من صمته و العدو و النوازل
يريدُ أن يكتبَ شيئاً نافعاً في صرختين لا ترتدان إلى نحره كرماح عاصفة مخاتلة..شئ ما في نفقِ صدره الثقيل يود أن يخرجَ الى الضياء, من أحشاء الصدود و الغضب و الغثيان. شيئ ما في زوايا أعصابه يتحرك يريد الخروج كي يسمعَ حفيفَ أوراقِ فكرةٍ جديدةٍ تلحق النصر بكوب ماء قبل أن ترسله أخطاء و كوارث الطريق خارج الحلم و المعنى و الطريق..
كان الوقت في منتصف الذاكرة قبل بضعة أيام و صدمتين.. و كان المكانُ ينسحبُ خجلاً و يجلسُ, مًندداً بالفتن و أصحابها و أجندة الإنتحار الذاتي, تحت شجرة برتقال في غزة هاشم
كيف يصطاد من غابات هذا الضجر عصفوراً لقصيدة..ليرافق صقر الملاحم الفلسطينية في نشيد معافى في تمامه, يطرد كلَّ كلمات النشاز و الفساد من محيطه السامي النبيل ؟
كيف يضيف إلى دمه الأول غصناً من شجرة لبدايات قروية تلهث كي تجده و يلهث هو كي يطوقها بتحيات قلبه و النراجس ؟
هل يجبرُ الحبرَ المتمردَ أن يأتي له يما يتمنى من أيقاعاتٍ غير نادمةٍ؟
يدركُ الأمرَ , يضربه التداعي المتسلط بمنجنيق النبرات المرتعشة, الجافة..
و لن تهبطَ اليه مفردات العزم بمحض إرادتها ,هكذا هبوطا عمودياً أو مترنحاً في الباراشوت السردي و عبر أدغال الأعالي ذات الغيوم الراحلة ..
سيظل يكتب جملاً ثم يرميها الى التوجس حطباً.. كي يغلقَ دائرةَ الشكِ بقبضاتِ البواسل !
طقس هذه المحاولات الفاشلة بارد..يكتبُ ..يمحو..يضغطُ على أمواجِ أفكاره العصية, العصبية..ترميه بسهام الزبد الأعرج..لكنه يحس بتوجعات في الأعماق..
هو يدركُ الأمر أكثر, حين ينزل جمرُ التجارب المرة في يديه, فتتسع الحروق, لا يريد أن يخطبَ يد التكرار ..فيستلهم منها الحنظل في صينية من عوسج و سراب أو يستدرج إليها غزالة غير شاردة, جاهزة للثناء على أرضية المطاردة !
هو لا يريد هذا التصور!
لا يريد أن يمشي كل الوقت على صراط ذات النبرة و عظامها المطقطقة..
نوم هادئ تماما لا يرغب..قد تلامس ريش الدعابة في بعض الليالي الهاربة
أصابعه.. كيف ينام المقهور في أسرة الثلج و الجفاف؟ و هو يحلم و يرجو أن تكونَ النهاية لوزاً و نوارس و أعلام فجر ترفرف فوق مرتفعات رؤاه و فوق قمم السناء السيادي..
يصالحُ الشرودَ أحياناً كي يعثرَ على أطرافِ بداية موفقة لقصيدة بعيدة عن أوراقه القديمة..
كلُّ كنوزِ الأسى العريق و المواجع النافذة.. التي يملكها لا تساعده على كتابة نزيفه في صورة حسنة. ساعديه يا كنوز الإحباطات المرئية و غير المرئية
ساعدوه يا عرب المعلقات!
ينفرُ..يتذكرُ شيئاً و يمضي الى مفازة النفور , دليله زفرات برتقالية و إلتماعات بوح صاخب الأمواج..
قنابل تسقط.. في قلبه تسقط تنفجر..توقع قتلى و شهداء في قلبه
مع ذلك ,تذهب كل محاولاته المتكررة لكتابتها ..تذهب أدراج التمزيق, فيلقيها على رمال بلا شهود و أسرار !
يريد ان يلقنها درساً.. كيف لا تأتيه و هو حزين..قد خُدِعَ من النقاد أيضا ..خدعه القارئ و الطقس البارد و البيانات الرئاسية و خطة الإنسحاب و الفاسدون و قطع الغيار السياسي الوافد من جوار الهزيمة..
يدخنُ..يستمع إلى موسيقى صاخبة..يشعلُ القلمَ عوضاً عن السيكارة !
ينتظرُ البريدَ..يخربشُ..يجعلكُ..يبصقُ في المنفضةِ..ارتاحَ قليلا لأن المرأة لم تشاهده و هو يفعلها و يبصق في منفضةِ الألم..
يريدُ أن يلقنَ هذه القصيدةَ درساً لا تنساه..درساً في محو الجفاف و سقاية التصحر
تلاسنَ مع صورها العنيدة,,أمسكَ الرمزَ المعاد من ياقته الكتانية,
شكاه الى البحرِ القديم
فشكّلَ فراراً من الرمل و الطويل و الكامل و المتدارك و سائر أفراد العائلة الشريفة,
اعترضَ على الجمودِ و لم يعدْ عروضياً الاّ بمقدار زفرة في روي هارب.
في لهفةٍ يحاولُ أن يكتبَ , قطراتٌ حارقةٌ..تلسعُ ظهرَ محاولاته غير الموفقة,قطرات مؤلمة تطلقها سماوات غاضبة.
ها هو يجربُ..يتأملُ..يتخيلُ..يطردُ رأسَ المنفى و الصقيع من رأسه الملتهب. يظن أنه تمكَّنَ من إحضارها ,مكبلة الحروف الى حضن أوراقه البيضاء, بعد طول عناء و قلق و انتظارات هاربة.
لكن شيئاً مثل هذا لم يحدث
عيونٌ كثيرة..غير حيادية, تعيده للمربع الأول لهذا العجز المفترض !
فوق الجدار يراها..صور الشهداء ينظر اليها.. يقول :لو كنتُ منهم و لتذهب كل القصائد و المقالات الى الجحيم..يشعرُ أنه واقع في بحيرة الغضب السلبي.
مصاب بحالة حزن لا تنفع الناس.يشعر بتموجات للمرارة و الحنق تلف كيانه المكسور..
يخربش بعصبية
يقفُ, يحدقُ في سقفِ إحباطاته..يطفئُ المصباحَ الكهربائي ..ينادي على المرأة..يطلب منها أن تُحضرَ شموعاً..تنظر اليه في ريبة, تحسبه مختلا..لكنه يصرخ..يشتم إسرائيل المجرمة, يلعن الفاسدين و الغزاة الأمريكان و مقاولي الثورات و لصوصها, تحضر الشموع, يشعل شمعتين ,يذرف دمعتين في نص التداعي.
ها هو يحاول من جديد..
المطرُ يسقطُ. خارج القصيدة .يراه من خلال زجاج اللامبالاة. برقٌ يحيطُ بأسئلته..يأسٌ غير مكتمل العناصر, يطوِّقُ الأجوبةَ..
قلبٌ يستعدُ لمبارزة أنشودة بلا عنوان..عشرينَ لفافة دخن..و جدَ جميعَ أصناف التبغ مخادعة كحجج إحتلال العراق الباسل.. غير أن التبوغَ لا تكذب فهي تتحدث عن سمومها دونما مواربة وتضليل و تضيف شيئاً من الدسم و الكبرياء للقصائد الهاربة من كاتبها !
يريدُ قصائدَ و لو نحيلة..حتى لو كان لها شوارب..و لبست أحذية بلا جوارب !
المهم المواضيع الجيدة و إتجاه القمح في الدلالة..كيف يأتي الخاطرُ ؟
كيف تصبح الزخرفة رماداً و يذهب التكلف الى النهر كي يستحمَ من أدرانه ثم يعود طازجاً مثل قبلة مسافر ,عفوياً كنبتة النعناع, صادقاً كدعاء عجوز, صادقاً كبطولة جماعية ؟
أخبارٌ مزعجةٌ.دائما تأتي على طبق اثيري مزعج.. معدني..ممل
لم يشعر بقدوم الصباح الاّ عندما جاءت المرأة, قدمت له فنجان قهوة بدون سكر و صباح الخير..
أزاحت أكوامَ الأوراق الممزقة و المبعثرة في أرجاء الفشل.
سمعَ صوتاً قرب الباب..
جاءَ عاملُ البريد, رمى من فتحة الباب جريدة عربية..
و أخذَ يقرأ و يقلب الصفحات و لم يُصبْ بأي دهشة عندما رأى صورته و قرأ إسمه الجريح في قوائم شهداء الإنتفاضة المباركة..
كان يتمنى..
كان يستعيدُ الرجاءَ قطرة بعد قطرة.
سليمان نزال
تاريخ النشر : 12:36 21.07.04