الخضراء جدة حكايتي..
بقلم : سليمان نزال
كانت الخضراء جدة حكايتي القروية قد زرعت دروب طفولتي بتفاصيل و أوصاف الأمكنة الأولى, الغالية, المقدسة ...
و كأنها أرادت عبر هذا السرد الحميم الممزوج بألم الرحيل و الغصات
و الحسرات, أن تنقلَ اليّ و ديعة التذكار و أمانة اللوز و السنوات المضيئة لأرض ذاكرة لا تفنى و لا تموت.
شاهدتُ أيامَ الينابيعِ في راحتيها تتدفقُ عذوبةً و إنتسابا ...
رأيتُ ساعات القمح و الحصاد و أغاني الفلاحين و أهازيج الصبا و التلاقي
رأيتُ أرضَ الحمى و مرتفعات صلاح الدين .
شاهدتُ ماعزَ العائلة يرعى في سهوبِ الخير و الندى و النساء يحملن الماءَ من حدود القرية المجاورة ...
شباب القرية الشجعان يدافعون عن البلد-لوبية-بكل بسالة و رجولة ...
حفظتُ أسماءَ الشباب الذين أستشهدوا دفاعاً عن قريتهم بفلسطين, و من بينهم أعمامي صبحي و علي, قمراً قمراً, سنديانة سنديانة, زيتونة زيتونة .
أخذتْ غيومُ القصص السارة و الحزينة تتكىء على جبين طفولتي, تتكثف, تشي بقطرات آتية ...
كأن مياه بحيرة طبريا إنتقلت رمزاً لتقف بين صوت جدتي و أذني و إنتباهي الشديد ...
أصغيتُ لكلمات الجرح في تموجات نبرتها, إستمعتُ لقصص نجوم فلسطينية راحلة ...
و أخذنا نشاركُ في معسكرات النضال, برتقالة الوجود الباقية رغبتها في التحرر و السيادة ...
و بقيتُ أعواما استمعُ الى حكايات الخضراء, فازداد إقتراباً من مرقد دمها و سيرة زفيرها ... لمستُ صهيلَ الندى في أشواقها لعنزة و صما و قباطيا و طوباس ...
و ما كانت جدتي تعرف ليخضور الإنتظار تراجعاً و ذبولا.
رحلت الخضراء, بعد أن تركتْ لي حكاية كاملة, زماناً و مكاناً, حقولاً,أشخاصاً, وصايا و خارطة إنتماء ساطع...
و ما نسينا في منافينا سؤالا لحقل و لرابية و حصان و أهدافا لملايين عائدة ...
و بفيتُ أحلم بأن أرى البئر و الصبار و أشجار الزيتون و دروب القرية و هضابها .
و بقي توقي لرؤية البلد بأم عيني يفتش عن ماء و مشاهد حية.
و كانت فرصة كبيرة عندما سافر بعض الأصدقاء لزيارة فلسطين المحتلة و طلبت منهم أن يصوروا القرية , شجرة شجرة ... و ان يلتقطوا أنّات البيوت المهدمة. و أن يقتلعوا الحشائش الضارة من مقبرة البلد.
و رجعَ الإصدقاءُ من رحلتهم التاريخية, كانت السعادة بادية على وجوههم حتى ان أكثرهم عبوساً كان فرِحاً ...
كان يتحدثون عن أشياء أعرفها , شاهدتها من قبل, روتها لي الخضراء ...
و دهشَ الأصدقاء و أنا أشاركهم الحديث عن تفاصيل الأمكنة و اذكرُ لهم أسماءَ مواقع كان ينبغي أن يلتقطوا لها أيضاً صوراً...
إستطعتُ ان أرى و قتي القديم مسجلاً على شريط فيديو.
رأيتُ شجرة اللوز في حاكورة بيتنا في فلسطين ...
و عرفتُ الآن فقط لماذا كانت جدتي حريصة كل الحرص ,على زرع أشجار اللوز في المخيم بعد الشتات.
شكراً للأصدقاء و قد جعلوني أرى الحكاية مصورة , بعد أن شاهدتها و حفظتها مشافهة و إلتزاماً
على لسان جدتي الخضراء الراحلة.
ماتت -ستي- لكني ما زلتُ أرى حق العودة الى جذورنا حقاً مقدساً غير قابل للتفريط و المساومة ... ما زلت أرى هذا الحق موشوماً على وجه الحكاية التي لا تعرف النسيان و الذوبان.
سليمان نزال