شجر الأحلام
قـلـم : سـليـمان نـزال

سـليمان نـزال

المخيم الواقع قرب البحر يطلُّ على ذاكرة أبي و البيادر و الصهيل..هناك ولدتْ لأول مرة صرخةُ البداية..و كنتُ أتابعها في سيرها على الشاطىء الجنوبي لمدينة صور اللبنانية حتى مرتفعات الإنتماء و الجذور..و حين أعود إلى" مخيم برج الشمالي", مخترقاً آثار المدينة..عابراً البساتين و المقابر.. و صولاً إلى بيت صديقي" مفيد"..فلا أبرحه قبل أن أجرجرَ قدمَه , كي نستدعي الأولادَ, و نذهب إلى ملعب" العيادة" لنلعب كرة القدم حتى بداية الليل,غير مكترث بإحتجاجات صديقي الذي لا أتمكن من الفوز عليه و تسجيل الأهداف في شبكة فريقه إلاّ بعد غروب الشمس.. و كانت الأهداف كلها محسوبة, حسب رأيي, سواء سجلت في النهار أو في العتمة..

و أعودُ إلى البيت منهكاً. أرتمي بفراش الهم و الشتات,أغمضُ عيني , أحلمُ ..أشاهدُ أشجاراً بأشكال غريبة, لكن جميلة و مُبهرة,لم يسبق لي أن رأيتها في حياتي.. و كنتُ في اليوم التالي, أقصُّ هذا المنام على أمي..فتأخذني من يدي إلى غرفة جدتي, التي تمسح أسئلتي بالبخور و بعيدان الميرمية اليابسة,و تُدخل رؤياي في منطقة التفاؤل, بعد أن تضعَ يدها على جبيني,و تروح تردد على مسامع أمي.." و أنا حاطة إيدي على صباحو..حاسِّي أني ماسكي فروع و أوراق شجرة ما في أحلى من ثمرها" و أضحكُ في سري, فأتذكر بأن صديقي حمدان, حين يريد ان يغيظني يشبِّه رأسي ب"الفتبول". فأنعته بالدب القطبي الذي لا يصلح لأن يكون, بسبب ضخامته و سمنته, أكثر من حارس مرة في فريق مفيد المغلوب بفعل الظلام! و كانت أمي تلوذ بكلمات الصبر و التورية, ثم تصلي على النبي, و تلهج بسور ة الناس..فألتقط المعنى المُراد.. و أحمدُ الله تعالى, على أن جدتي سمعها ثقيل!

ذات يوم..ذهبتُ مع أصحابي, مفيد و خليل و ماجد ,إلى البحر..و في طريق عودتنا إلى مخيمنا, رويتُ لأصدقائي قصةَ الحلم الحافل بغريب الأشجار و ألوانها و فاكهتها التي لم تذقها سنوات عمري الخضراء ..لم أتعرف على طعمها إلا على مائدة الإشتياق..فضحكوا جميعهم بإستثناء "خليل" الذي أخذَ يعدد لي أنواع الشجر و النبات و الثمار من واقع خبرته في العمل مع أبيه " أبو أحمد عوض" في بيع الفاكهة و الخضار..و كنتُ أجيبه بالنفي كلما ذكرَ لي نوعاً يحسب أني لا أعرفه..إلى أن تدخلَ مفيد و باحَ بالسر المكنون لصديقنا أبو الخِل..و أكدَ له بأننا أكلنا كلَّ هذه الأجناس و الطيبات, من دكان والده إما بالشراء..أو بالإستيلاء.. حين يمضي لقضاء حاجة! أو في أوقات ذهاب أبيه للصلاة في الجامع القريب من الحارة.

لكن خليلا سكبَ الماء البارد على مفاجأة مفيد و قال بهدوء أقرب إلى البرود" بعرف..و ما بحكي.. و لا راح أحكي لأبوي.. لأنكو إصحابي و فقرا"

بعد أن عبرنا الدروب القصيرة و المتعرجة, في البيارات و منعطفات الصبا, دخلنا من فتحة الشريط الشائك, و وصلنا حارة المغاربة, في أول المخيم..صَفَّقَ " ماجد العبد" بيديه و قال:-وجدتها!

إقترحَ ماجد أن نقصدَ بيت "سويد" الأعمى كي يفسرَ لنا قصة الأشجار التي تزورني في أحلامي..راقت لنا الفكرة, فتوجهنا إلى كوخ العم سويد..

ناديتُ بصوتي على العم سويد..فخرج يستند على عصاه, قائلا ً: " شو بتريد يا سرحان إين أحمد!"

و إستهجنَ بعض الأصدقاء كيف عرفني من رائحة صوتي دون أن يراني..فأكَّدَ مفيد أن العم سويد يعرف كلَّ الناسِ من أصواتهم و أنفاسهم و حتى من حركة ظلالهم و وقع أقدامهم على الأرض..في حين إتهمه خليل بأنه مبصر يلعب دور الأعمى لإنجاح مهمته!

أقتربتُ من العم سويد و قلتُ له.. "بدي أسالك سؤال.."
أجابَ بسرعة و هو ينظرُ إلى الأعلى: "ما يكون زي السؤال اللي سألني إياه أخوك الكبير , سعيد"
"شو سألكَ أخوي ؟"
قال " خذ الجواب أحسن.."
قلتُ متلهفاً و بإستغراب "إحكي يا عم سويد"
قال سويد " الشجر اللي بتشوفوه بمنامكم..كثار بشوفوه..أنا بشوفه كل ليلة..هذا شجر موجود بس بالبلاد..شجر الأهل و النسل و التلاقي و الأمل..ما بيظهر على سطح الأرض إلاَّ بيوم الرجوع.."

خرجنا من عند عمنا سويد و لذنا بالإنبهار و الدهشة.. و ظهرت تباشيرُ الرضا على وجوهنا الفتية..و ضعتُ يدي على كتف مفيد و إبتسمتُ و هتفتُ بصوت عال:

" بكرا راح ألعب معك يا مفيد..مباراة في عز الظهر..ما عاد في لعب بالليل.."

و منذ تلك الحادثة..إقترنا بالنهار.. و كان الإختيار ساطعاً و الأشجار الباسقة تقترب بضيائها من بعيد.
___________________
سليمان نزال
29.10.2004