الحـلال الضـائع
قـلم : سـليـمان نــزال

سـليمان نـزال

آنذاك, كنتُ صغيراً, و كان وجهي الطفولي يرمي ملامحَ من دهشة و تردد على الحصيرة. دمي أيضاً,كان ما زال يحبو على طريق الحكاية, وكان قلبي و صوتي..

آنذاك , أحببتُ الكتب, و النرجسَ البري, تلتقطه أكف صغيرة من بين جنبات الصخور, أحببتُ صوتَ "فيروز" , و إن لم أكن إستوعبت تماماً أبعاد الغضب الساطع الذي كانت تدعونا إليه, و يبشر به صوتها الجميل.

كنتُ أستمع بحزن شديد, إلى قصة البلاد, و قطعان الماشية التي كانت تملكها عائلتي, وكان عدد رؤوس هذا الحلال الضائع , يختلف ما بين حكاية و حكاية, عندما يكون مزاج جدتي صافياً, يكون عدد هذه "الثروة الحيوانية" 700 رأس. و حين يشتد غضب جدتي و تحك الذكريات الاليمة, ترفع العدد إلى ألف و ألفين.

و حين أحتج على ذلك, تنهرني و تقول "أنا مش شاطره بالعد,روح عدها أنت.. روح يا علي عدها غصب عن اليهود"

و في كل يوم, تروي لي جدتي حكاية جديدة, تناديني و تقول" تعال يا علي, أسولفك, و لع لي سيكارة, مليحة لوجع إسناني"

و لم تكن جدتي تملك من الأسنان إلا ضرساً أو ضرسين.

كنتُ أفعل ذلك سعيداً, أضعُ رأسي الصغيرة ما بين حجرها و شريط ذكرياتها..

لكني لم أستطع التخلص من زحف القلق, الذي كان يرقد بين أصابعي, كلص أو مُحتل دخيل.

و لم أفهم لماذا تصر جدتي على مناداتي بإسم غير إسمي, لم أسمع سواها يناديني بإسم علي..

تقول جدتي: "تعال يا علي, أكعد حدي, و سولفني شو عمل حصانك باليهود و الإنكليز"

و عرفت أن علياً هو خال أبي و شقيق جدتي, هو من كان يملك حصاناً و يعمل"مخضرا" أيام البلاد و الثورة.

و أخذتْ أيامي تكبر في اللجوء القاسي المرير, و بدأتُ أكتب شعراً عن حصان جدي" علي" المفقود, و أنشرُ الحروفَ التي أكتبها في هواء مخنوق في غرفة من طين و قش..بدايات أولى و حرائق تحت الجلد و ما بين السطور..

"أنت تكتب هذا اللغو و الكلام الفاضي!, و نحن نقاتل" يقول لي صديق طفولتي" مفيد"..

- ماذا تريدني أن أفعل يا صديقي؟

- ماذا تفعل تسألني.. قاتلْ ضد الذين إغتصبوا أرضك و سرقوا ماعز أهلك. ..يا أخي أكتبْ و قاتل..

و ذهبتُ إلى" الخضراء" التي ما أن رأتني حتى قالت:" شو كصتك, زعلان؟"

فلتُ لها : ما رأيكِ أن أذهبَ لقتال الأعداء , يا جدتي؟

أجابت - :" روح أنت مش أكل من رفكاتك"

إذهبْ و قاتلْ مثل أصحابك, لا تخفْ, عليكَ أن تجدَ حصانكَ الضائع يا علي, و أن تسترد أملاكنا السليبة..

قلت : حسناً يا جدتي أذهبُ .. لكن أنا أسمي سرحان مش علي!

قالت : أعرف يا حما ر!..أو تراك تظن أنني خرفانه كما يقول أبوك.. إنني أتذكر كل شيئ في فلسطين, أريدكَ أن تكونَ مثل أخي علي, قوياً, تقاتل أعداء شعبك , إذهبْ و ناضلْ يا علي و لا تظل سرحاناً..

صعدتُ إلى الجبل مع الشباب, لم أعد متردداً, وكان إسمي الحركي "علي".
___________________
سليمان نزال
تاريخ النشر : 18.09.2004