حين إتسعَ الجرح
قـلم : سـليـمان نـزال

سـليمان نـزال

عندما إختارني الحزن دون سائر العباد من البلدان الأخرى, كصديقٍ حميم, كان كل شيء يؤكد لي خروج المسألة من يدي إلى حنطة يديها و أقداري, وقد سبقتني حشود من إيماءات غير يائسة و أخذت تشرح لها إنتقال صوتي من حمل جمر المحاولات الرصاصية إلى لغة لا خنادق حقيقية فيها, فتماسكت أحلامي, فعالجت صبري العصبي بخداع البصر, وأقنعتني بأن أوحي لها, أن صورتها الجريحة في التلفاز تشبه صورة الأمل الموروث, الذي جاء إلى القلب منتسبا إلى كل نبضة من قلبها, قبل ولادة أيامي بعشر سنوات وخيمة خضراء جنوب المخيم الباسل. إرتضت لي التقلبات الصفراء, أن أجلس في براري الصمت, لكن أعماقي تحركت صخورها, وكان أن عشت على الطيف المقدس, تراثاً من الرؤى المحاطة بالجنود والطعنات و المجازر, التي لم توفر في جسد أحبتي تلالا أو هضابا إلاّ حاولت إنتزاع هويتها وأسنانها و سلاحها البرتقالي. حين إتسع جرحي كثيرا في الشتات و"المقاهر"

إمتطيت بعناد سلم المكابرة درجة درجة, وحسبت الجرح طريقا وسط تشجيع و مباركة صديقي الحزن الحميم.. لكني, أخذتُ أرى لدمي خطوات تمشي, تركض صهيلا.. صوب رائحة اللوز و الحناء وقرى الأقمار الشريدة, و كانت تصعد روح المرتفعات الجليلية وتلتقط الزعتر الأخضر..

رأيتني أقاوم.. أقاوم وقتي المسافر قهراً, بدأت أكتب لزيتونة جدتي- قدمتني إليها قبل موتها بعام- مذكراتها وخواطرها وأقرأ لكل ورقة زيتون, قصيدة كتبتها زيتونة مجاورة, ومن الوريد إلى الوريد كنت أتلو براعم الرموز الفلسطينية مقروءة, ومسموعة, و ملتصقة على شفاه الرجوع حتى يوم الرجوع.. ولم أنس شرياني أقرأ له ما شاء من وثبات مساندة.. كنتُ كلما نسيت نبتة سهو النزوح والحصار, تناهت إلى سمعي صلية باسل منتفض, تعيد إليّ مفردات الإنتساب المكين و الجموح الثائر. وأحيانا كانت ضلوعي نفسها من تقوم بالمهمة, فأكتب ما لا أنساه, محفوراً على مسلات الضلوع.. فتبقى كلمات البلاد, طليقة اليخضور, محفوفة بقلق إصراري على بعثها ثانية ,مزروعة في تراب حريتها اليانعة.

كان كل شيء لا أحبه يشير إلى "خطأ" تعلقي بغصن البقاء والتذكار في الأرض المحتلة, وما زلت أفعل هذا التوق.. وأقاسم هذا الوله العنيد عذابات كل مرحلة لا تنتج بلحاً وبيارات, فإستغربَ الغرباء تمسكي مع عدة ملايين من أهلي بغصن فريد وحيد, منذ خمسين سنة ومائة فرس وعشرين بركان غير حيادي, فأنافح عن عشقي لهذا الغصن المبجل, وأدفع "الخطأ" نحو صدري وأضمه كأمٍ رؤوم.. وكثيراً مع كنت اتفق مع أخوتي المجاهدين, وأترك هذا النوع النادر من الأخطاء النشيطة يصلح بعض عثرات وأخطاء في الطريق.. وينتقد الخارجين عن الطريق بفعل العواصف الخارجية المحمولة في أساطيل, والمنقولة عبر طائرات تعبر المحيط الأطلسي, كي تؤذي محيطي العربي والإسلامي و تغزو و تهدد أماكن العزة و الحضارة و الشموخ..بماذا ستنفعني تحالفات الحيتان حتى لا أقول فيها غضباً مناسباً؟

ما همني! حنطة يديها كانت بوصلتي, ما زالت هي هي, إلى الشروق والينابيع وكروم الأناشيد و أعراس الفلاحين.. بوصلتي, حنطة المكان الأثير, قدري الحبيب, ثقتي بالنسور, رغبتي في عزل هذا الوقت الجرثومي عن دائرة المجد والرشقات .. إبعاد قطراته الشريرة عن ضفاف أشواقي والجداول الفدائية. ثقتي بالمكان السيد, والصقور, جعلتني أدرك أن التوهج لم يترك يدي, ما زال ملتصقاً بيد كل فلسطيني عربي, مثلما هو في يديها الفلسطينيتين, بداية نهوض وعودة وإستقلال وسيادة.
___________________
سليمان نزال
تاريخ النشر : 09.10.2004