حكـاية قصـة
قـلم : سـليـمان نــزال
طلبَ مني صديقي أن أكتبَ قصةً في صحيفته التي ُتعنى أيضا بقضايا الأدب.
أجبته بصراحة أن مهنة الكتابة في أيامنا هذه تشبه مهنة العاهرات في بعض جوانبها... ضحكَ و لم يشاركني رأيي.
أعتذرتُ, ألحَّ, أظهرتُ عيوبي و مثالبي عمداً, غطاها بمأزر صبره و بعباءة تواضعه الجم..
قلتُ له : لا تحاول..لن أكتبَ قصة, انا لا أحب القصص.. و أمقتُ الروايات.. و لا أقرأ لأحد, و لا أشاهد الأفلام.. و أنام حتى الظهر تهرباً من شخوص هذا الوقت العنين اللعين..
-لكنكَ تستطيع..فلا تخذلني..إتفقنا, الآن سأقفل الخط !
-لا تقفل.. لا . إسمع.. أنا..لا أريدُ أن أكذبَ عليك..أشعرُ بأني آخيتُ العجز..كأنه أخي في الرضاعة..هل تفهمني ؟
-لا. .أنت تبالغ, لم أعرفك من مريدي الإحباط..أنتَ عندك موهبة وتتهرب من الكتابة في مجلتي!
-: صدقني..لا أتهرب..لكن عندي مشاكل...أنا فاشل في الحوار مع جرحي..كيف أستدعي شخصيات لم أتشرف بمعرفتها ثم أجرّها إلى المونولوج و الحل و العقدة والحوار..
أخذَ صاحبي يشجعني و يُنزل عن ظهري, عبر الهاتف, أحمالَ و أثقالَ الحزن و الخيبة..وجدتني مطوقاً بالخجل..و أدركتُ أن منافذَ الإعتذار قد سُدَّتْ جميعها بطيبِ كلماته..
قال بنبرة دافئة : - إنتهينا من الموضوع..أنا بإنتظار قصتك..مع السلامة.
- حسناً.. إقفلْ الخطَ من عندك و أنت مطمئن.. الله يسلمك.
تورطتُ في وعدي..أيقنتُ أنني في ورطة حقيقية لن ينقذني منها أنطون تشيخوف و لا يوسف إدريس..هل أتراجع؟..غيري يكتب أحسن مني, لماذا إختارني أنا ؟ ..أنا بالذات..الذي يكره القصص و كتابتها و لا يطيق أن يجلس مع شخصياتها على طاولة واحدة في مقهى.. ما كان علي أن أوافق..عشر كلمات في الهاتف..ثم سقطت قلعتي بعد مقاومة ضعيفة..كان علي أن أتمسك بموقفي..
"لكنه أحرجني..خجلت منه.. حدثني بأدب.."
"أنتَ الذي أحرجت نفسك..من أين تأتي له بقصة"
"القصص كثيرة..تجدها في كل طريق..كيف أكتبها, بأي لغة و أسلوب.. و بطيخ أصفر!"
"تكتب أو لا تكتب..لا فرق عندي..اليوم السبت و الطقس جيد و صيف بديع..سأذهب و أصطاد فراشة سياحية"
"لن تذهب..ستبقى معي..تساعدني على تأليف قصة..أحضر لي الأوراق..أو بلاش.. إفتح الكمبيوتر"
"أنا مجرد طيف..الطيف لا يحمل أقلاماً.. و لا يفهم في الإنترنت و لا يرد على تعليقات و.. أنت الذي.."
"حسناً أن الذي سأبحث عن عقدتي ثم أحاول حلها.."
"حِلْ عني! أنا ذاهب"
خلعتُ قميصي..الدنيا حر!...أصبحت بمفردي..بمفردي ذهبتُ إلى الحمام..غسلتُ وجهي في الماء البارد..غسلت وحدتي بالصابون..أخذتُ أنظرُ في الفقاقيع..شاهدتُ ما يشبه قوس القزح..لم أعد وحدي.. شاهدتُ بعضَ الشخصيات تخرج من بين الفقاقيع..بعضها كان يُسلِّم عليّ..بعضها يزجرني و يمضي..إحدى هذه الشخصيات إتهمتني بالتحريض على العصيان..لم إبال..
أحضرتُ مجموعةَ أقلام..منها الأبيض و الأسود و الأخضر و الأحمر... و كذلك الرصاصي.. أفضل دائما الرصاصي..و يُخيل إليَّ أني أرى بقية الألوان تصدر عنه, تتبعه في حالات الحزن و الفرح..أتخيلُ فقط..
أحضرتُ دفاترَ بيضاءَ..أخذتُ أنظر في بياضها كما ينظر الصيادُ إلى فريسة مشاكسة..أخذت أردد : البياض فريستي..أعجبتي الكلمة..كدتُ أتخلى عن مشروع محاولة كتابة قصة و أهرب إلى الشعر بعيداً عن طيفي الذي تركني و ذهبَ يرواد الفراشات السياحية عن لياليها..
البياض يكشفُ عجزي يا صديقي..يفضحني..ينفرُ من شخصياتي..فلا يسمح لها بالدخول إلى أرض مواجعه..لماذا ورطتني يا صديقي ؟
أمسكتُ سماعة الهاتف..قررتُ أن أتصلَ بصديقي صاحب الصحيفة و أحلف له بأغلظ الإيمان..بأني فشلتُ.. جربت..إشتريتُ ثلاثَ علب سجائر..دخنتُ كثيراً..أغلقتُ بابَ غرفتي..و وضعتُ في أذني نوعاً من القطن يمنع عني ضجيج الجيران و خلافاتهم المستمرة حول أهداف الحرب الأخيرة..لم أفلح في شيء..
رغم القطن سمعت صوتاً..أعرفُ هذا الصوت..
"جئتُ لأنقذك..لم أجد فراشات سياحية و لا حتى جرادة !"
"أنتَ فشلتَ أيضا و عدت"
"عدتُ ومعي الحل..ستكتب القصة"
- كيف أيها الطيف المشاغب ؟
-تذكرْ قصة فيلم عربي.. و يمكن أن تمزجَ بداية فيلم مع نهاية فيلم ثم تختار الشخصيات من فيلم ثالث..
-لا أفعل ذلك..سأُتهم بالسطو الأدبي..
-عديدون من الكتاب يفعلون ذلك..أنا صديق لأطيافهم..ينقلون لي كلَّ أسرارهم و فبركاتهم..
- أرجوك..أتركني..إذهبْ و شاهدْ نشرةَ أخبار عربية..ثم تتركني..و أخذتُ أفكرُ..و بدأتُ أكتب..أمزقُ..أكتب ثانية..الورقُ يطردُ كلماتي..الكمبيوتر يصاب بفيروس لم يعرفه أحد من قبل..لكني وعدت صديقي.. فتحتُ علبة السجائر الثانية..دخنتُ بشراهة.. شربتُ خمس فناجين قهوة..توصلتُ إلى فكرة تشبه ما.. فكرة طيفي التي سبقَ لي أن رفضتها..
شاهدتُ الطيفَ يغلقُ التلفاز.. ثم مدَ يده الصيفية على علبة سجائري..أخرجَ واحدة..أشعلها بزفرة.
قلتُ : - وجدتها !
قالَ و هو ينفث الدخان في وجهي :
- لا أصدق..سيغضب صديقك و لن تكتبَ قصة..
:- إجلسْ على الكرسي قربي و إسمع هذه.. :
- رجلٌ يحبُ زوجته الجميلة..ثم يكتشف بالصدفة, أنها تتخابر مع جهات معادية لنظام بلده..يعيش في صراع..هل يُبلغ عنها السلطات أم يحافظ على عائلته..لكنه أخيرا بعد طول تردد و سهر ليالي و قلة نوم و عذاب..يذهب إلى المخابرات و يخبر عن زوجته..يرحبون به..و يستعد للحصول على وسام مكافاة نظير خدمته لأمن البلد..و فجأة, ينتبه الضابط إلى الكنزة التي يرتديها فيجد الرجل نفسه معتقلا..يتعرض للضرب..للتعذيب..لا يعرف السبب, يفقد وزنه..يصاب بمرض خطير..يُجبرون على أخذه إلى المستشفي بعد أن عرفت وسائل الإعلام بالخبر و إنتشرَ.. و تدخلت منظمات حقوق الإنسان..
في المستشفى و قبلَ أن يلفظَ النفسَ الأخير.. يجد الضابط في جواره, يسأله عن سبب تعذيبه بدل من مجازاته..فيقول له الضابط :
-كان عليكَ أن تخلعَ كنزتك التي تحمل صورة أحد الزعماء الثوريين المعادين للوطن و للرئيس..قبل أن تأتي و تفتن على زوجتك و التي وجدت بالمناسبة بريئة, و لعلمكَ فقد طلقناها منكَ و أنت في السجن و هي متزوجة حالياً من قريب لي يعمل في شركة إسمنت كبيرة و مشهورة و..
, أحسستُ بالراحة..سأرسلُ للصحيفة هذه القصة كيفما كانت.. لن أصلحَ فيها أي خطأ..
نظرتُ في عيني طيفي العزيز و سألته :
-ما رأيك ؟
- قصة مملة و مكررة و مفبركة !
- "هيك يعني"
- "أكيد..هلكتني"
"و أنت كسفتني..الله يكسفك, و خدعتني و خذلتني"
-مع السلامة.. سأنام.. وحدك المسئول عن الفشل..
فتحتُ علبة السجائر الثالثة..أخرحتُ القطن من أذني مزقتُ السطورَ التي حسبتها قصة.. و كتبتُ :
"آسف..صديقي..فعلتُ كلَّ ما في وسعي..لم أتمكن من كتابة قصة"
سليمان نزال
تاريخ النشر : 23:39 08.08.04
