لا .. هذا ليس خطأ مطبعياً أو زلة قلم ، أنا أعني ما أقول .. لماذا ؟ لأن واقع الحال لدينا مبني على هذه القاعدة المعكوسة لدى من يحترمون أنفسهم ويعرفون معنى الأمانة ومقتضيات التعامل مع المنصب بالحقوق والواجبات ، وليس بالأولى دون الثانية !
هل سترشح نفسك في انتخابات المجلس التشريعي ؟ سؤال بات على ألسنة كثيرة ومنها لساني بلا فخر ، فلان ينوي ترشيح نفسه ، خبر تتناقله الألسن في كل مجلس وفي كل مناسبة أو حتى بدون مناسبة ، فلان يطمح بتولي منصب وزاري ، سواء وزير أو وكيل أو وكيل مساعد ، وفلان يريد أن يحصل على رتبة مدير عام أو مدير من فئة A أو فئة B أو فئة C ، وقس على ذلك ما تتناقله الألسن بخصوص انتخابات البلديات والهيئات الإدارية للجمعيات والمنظمات غير الحكومية.
إنه سُعار (بضم السين) منفلت يجتاحنا ، ولا أجد حرجا في استخدام هذا التعبير لأن الأمر بات أقصى مما توقعه خيال أكثر المتشائمين سوداوية ، الأنانية والفردية دمغتنا من أولنا إلى آخرنا وبتنا كحبات سبحة تبعثرت في كل اتجاه لا تلوي على شيء ، اللهم إلا السكون في المنصب النيابي أو الوزاري أو الإداري بل لربما الرئاسي !
راتب محترم يوازي راتب عشرة موظفين ، سيارة حديثة الصنع ، هاتف نقال تتكلم به كما تشاء لأن فاتورته مدفوعة ، ولائم في المطاعم تسدد فاتورتها من قوت المواطن المغلوب على أمره ، سفريات إلى الدول العربية والغربية والآسيوية والإقامة في الفنادق الحاملة للوصف المعروف (خمس نجوم) ، تدريس الأبناء والبنات في الجامعة الأمريكية في القاهرة أو أي جامعة في أوروبا أو أمريكا بأقساط مدفوعة أيضا من قوتنا وفقرنا وبطالة خريجينا وعمالنا ، الذهاب لتأدية فريضة الحج في أي سنة تكون بها على قيد الحياة وراغبا في ذلك وطبعا التكاليف من أولها لآخرها مدفوعة سلفاً ، هذا في الوقت الذي يتمنى فيه الكثير من أهل الورع الفقراء زيارة الحرم الشريف ودموعهم تذرف وهم يشاهدون الكعبة على شاشات التلفزة ، هذه إضافة إلى "النفخة" و "الجاهة والوجاهة" هي مزايا المنصب في السلطة التنفيذية أو التشريعية أو القضائية عندنا !
لا أريد أن أكون في خانة من يحسدون الناس على ما وفرته لهم مناصبهم من مزايا وأموال ، فأنا أعرف أن النائب في المجلس التشريعي مثلاً تلزمه سيارة قليلة الأعطال كي يتنقل من منطقة إلى أخرى ، كما أعلم أن من يتولى منصباً يجب أن تكون حاجاته مقضية كي يؤدي واجباته دون أن يكون ذهنه مشوشاً وفكره معطلاً ، أعلم هذا وأضعه في صميم الصميم لاعتباراتي ، ولكن ، وهي أداة استدراك أحتاجها في هذا المقام؛لا يختلف اثنان على أن كثيرا من المزايا زائدة جداً جداً جداً عن الحاجة ، وبأن هذه المزايا والتكاليف على حساب أمور ضرورية وتثقل كاهلنا ، ففي الوقت الذي نحرص فيه على أن يكون ذهن القاضي صافياً حين يقضي في أي قضية من خلال إراحته ماديا ، يجب أن نطمئن أن المعلم لا يفكر في توزيع راتبه الشحيح أثناء شرحه للدرس في الحصص الدراسية والانشغال بجمع ما سيبقي في جيبه بعد شراء "البامبرس" للطفل ، وما ينطبق على المعلم ينطبق على غيره من مساكين الموظفين ، ويجب أن لا ننسى طوابير الخريجين الذين يمدون أيديهم قائلين : "لله يا مسؤولين وظيفة !" والعمال وأصحاب الحرف الذين غدو جوعى أو شبه جوعى !
أعلم أنني لست أول ولن أكون آخر من كتب عن المزايا والرواتب ذات المنازل الخمسة أو الأربعة "الدسمة" ، المهم أن الجميع نظروا إلى هذه المزايا مقارنة مع ما يبذله صاحبها من جهد فطمعوا بها والنفس يا إخواني أمارة بالسوء! فأصبح الكثير منا يريد المنصب لا ليخدم مجتمعه من خلاله بل ليحصل على مزاياه المغرية وقد زُين للناس حب ما تعلمون !
من أجل هذا كله غدا المنصب تشريفا بكل ما في الكلمة من معان ودلالات وغدا المتسابقون عليه أكثر من الراغبين في الاستظلال أو التمتع بخدمات صاحبه الجليلة وأياديه البيضاء على المجتمع والوطن المغصوب المتآكل يوما بعد يوم بفعل "أولاد العم" ، الكل يفكر بما يحصل عليه صاحب المنصب لا بما يقوم به ، لأنه - ومع الأسف الشديد - لا يقوم معظم أصحاب المناصب بما يفترض أنهم مكلفون به !
لنتذكر قول المعلم والقائد الأول محمد صلى الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري رضوان الله عليه : "إنها لأمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة" ، ليس الطموح عيباً ولا الرغبة في تسلق سلم المجد عاراً ، ولكن المجد يتحقق بما يبذل لصالح جيوش الفقراء والعاطلين عن العمل والذين أخشى أنهم غدوا في حالة اغتراب لا تحمد عقباها ، فيما يقضي بعض النواب وقتهم خارج دوائرهم التي انتخبهم أهلها وان حضروا يكتفون بإلقاء الخطابات التي سئمتها آذاننا ، أما الوزراء فأخبارهم في الصحف هي ما بين "رحب" و "اجتمع" مرورا بـ "استقبل" و "زار" و "أكد" و"شدد على ضرورة" ، لا أريد أن أنهي كلامي بالسؤال الذي بات تقليديا وهو : إلى متى ؟! ولكن وللصدق والحقيقة أشعر حين يقال "المنصب تكليف وليس تشريف" أن الأمر عكس ذلك مئة بالمئة !!