هو سبب التطرف،هو سبب وجود تيار الغلو والتعصب في عصرنا،هو سبب أحداث العنف التي حدثت في العالم كله باسم الإسلام!! هذا ملخص ما يقوله البعض عن سيد قطب ، دون أن يجد الرجل من يدافع عنه في ظل صخب الاتهامات إلا أصواتاً خافتة وخجولة ، فهل سيد قطب إبراهيم (1906-1966م) كما يقولون؟! وعلى أي أساس يرمى رجل رحل قبل ما يقارب الأربعة عقود بالمسئولية عن أحداث تجري اليوم؟
بثت قناة العربية الفضائية يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين برنامجا وثائقيا حمل اسم "الخطاب الديني" كما أن برنامج "مشاهد وآراء" كان مخصصا للحديث عما ورد في برنامج الخطاب الديني،جرى التطرق إلى موضوع سيد قطب بإيجاز ،وإحدى المتحدثات أكدت على أثر السجن في صياغة الأفكار،ولكن لم يكن هنالك متسع للحديث بإسهاب عن قطب في البرنامج الذي تحدث عن السعودية والاتهامات الموجهة لنظامها التعليمي،وتطرق إلى أفغانستان وغيرها،كان الحديث عن سيد قطب (نظرا لتعد جوانب الموضوع) أشبه بصفحة في كتاب كبير ،من خلال هذا المقال سأحاول إثراء الفكرة بتسليط الضوء لبرهة على موضوع سيد قطب وفكره والظروف التي ساهمت في بلورة أفكاره.
الظروف وأثرها
من المسلمات أن ظروف أي إنسان تؤثر على فكره وعلى طريقة حكمه على الأشياء، وسيد قطب كأي إنسان عاش ظروفاً خاصة بمعنى الكلمة ومن الطبيعي أن يتأثر بظروفه.
ننسى أن سيد قطب صاحب نظرية لها اعتبارها في مجال النقد الأدبي وننسى أنه كاتب للمقالة والقصة وشاعر و أنه درس في المدرسة في قريته (موشا) وحفظ القرآن بجهد ذاتي، وأنه سافر إلى أمريكا، ننسى علاقته بعباس محمود العقاد وطه حسين وكيف أن نجيب محفوظ قام بتقريظ كتابه "التصوير الفني في القرآن الكريم"، هنا قد يقول قائل : إن قطباً تغير تماماً بعد انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين ،وأصبح صاحب فكر متشدد تجاه الآخرين ،وانقطعت علاقته بهؤلاء الأدباء .وينسى هؤلاء سبب تشدده المفترض وسبب جنوح بعض أفراد وحتى قيادات من الإخوان نحو التصلب.
قطب والعنف
كثيرة هي الأقاويل حول كتاب سيد قطب "معالم في الطريق" ولأنه قدر لي الإطلاع على الكتاب وقراءته عدة مرات أستطيع القول بأنني لم أجد في الكتاب ما ينسب إليه من كونه قنبلة موقوتة أو أداة فكرية تخريبية، إن الهالة والضجيج الذي ثار حول الكتاب ستزول إن قرأنا الكتاب بتجرد وأسلوب بحث علمي بعيداً عن احتضان الآراء المسبقة.
البعض يدعم حكمه على هذا الكتاب بتغذية التطرف والعنف بأن الكتاب قائم على فكرة حكم الله التي تناقضها فكرة حكم الطاغوت وفكرة الحاكمية لله المتعارضة مع حاكمية البشر، وسيد قطب في كتابه يحرض على الصدام العنيف بين الفكرتين.ولنناقش هذا الكلام دعونا ننظر إلى الكتاب أولاً :-
يقول سيد قطب في معالم في الطريق ص63-64 :"ومن ثم لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في الأرض لإزالة "الواقع"المخالف لذلك الإعلان العام ..بالبيان وبالحركة مجتمعين ..وان يوجه الضربات للقوى السياسية التي تعّبد الناس لغير الله..-أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه- والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى "البيان"واعتناق "العقيدة" بحرية لا يتعرض لها السلطان.ثم لكي يقيم نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً لحركة التحرر بالانطلاق الفعلي –بعد إزالة القوة المسيطرة-سواء كانت سياسية بحتة، أو متلبسة بالعنصرية، أو الطبقية داخل العنصر الواحد !
إنه لم يكن من قصد الإسلام قط أن يكره الناس على اعتناق عقيدته ..ولكن الإسلام ليس مجرد "عقيدة" إن الإسلام كما قلنا إعلان عام لتحرير الإنسان من العبودية للعباد. فهو يهدف ابتداءً إلى إزالة الأنظمة والحكومات التي تقوم على أساس حاكمية البشر للبشر وعبودية الإنسان للإنسان..ثم يطلق الأفراد بعد ذالك أحراراً بالفعل في اختيار العقيدة التي يريدونها بمحض اختيارهم - بعد رفع الضغط السياسي عنهم وبعد البيان المتين لأرواحهم وعقولهم- …"إهـ
يمكن تلخيص الفكرة والانطباع العام والملاحظات بالنقاط التالية :-
1) ان الأساس هو الدعوة والبيان و اللجوء إلى القوة ليس بهدف إكراه الناس على اعتقاد عقيدة الإسلام بل إزالة النظام السياسي في حالة كون هذا النظام يحول بين الناس وبين سماع البيان وللناس حرية اختيار المعتقد، دعوة قطب لاستخدام القوة لإزالة نظم سياسية لكون هذه النظم تمنع حرية تكوين الرأي وكون تلك النظم غير ديمقراطية ولا تسمح بحرية الرأي وترك الخيار للناس.
2) هناك نقد لصفات اجتماعية وسياسية حتى دعاة الديمقراطية والعلمانية ينتقدونها بشدة عند الحديث عن النظم السياسية العربية فعلى سبيل المثال هناك انتقاد لكون الزعيم يجعل نفسه إلهاً من دون الله وتبحر الكثير من المثقفين السياسيين في هذا المجال، وهناك انتقاد للعنصرية والطبقية ولتحكم فئة من المجتمع بفئة أخرى وهناك استنكار لحالة انعدام المساواة التي تتسم بها كثير من المجتمعات.وأرى أن سيد قطب هنا لم يشذ عن منتقدي النظم السياسية من إسلاميين وعلمانيين واشتراكيين وقوميين وغيرهم .
3) يشدد سيد قطب على ضرورة إبداء الحجة الدامغة وطرح الفكر المستنير لكسب عقول الناس وقلوبهم ولا يدعو إلى الإرهاب الفكري الذي يرميه به بعض منتقديه .
4) الأمر الهام هو أن سيد قطب عند كتابته الكتاب كان سجيناً في ظروف صعبة وكان الرد على أفكاره أشد وأنكى فقطب لم يدع إلى مؤتمر أو ندوة وحضر رجال الفكر وأهل الرأي لمناقشته ومواجهة الحجة بالحجة وتبيان أين أصاب وأين أخطأ ليرد ويحاور، بل قدّم إلى محكمة عسكرية برئاسة الفريق فؤاد الدجوي ولا أظن أن المحاكم العسكرية وسيلة لمواجهة أصحاب الفكر ولا أحسب الدجوي مفكرا ومثقفا و بغض النظر عن ماهية الفكر الذي نتحدث عنه ،ولا أحسب أن تعليق الرجل على المشنقة وقد ناهز الستين قد حل الإشكال بل على العكس زاد الأمر تعقيداً فالمشكلة هي أولاً وأخيراً مع القمع والاستبداد وعدم السماح للناس بالبوح بأفكارهم ومواجهتها بالأدلة الدامغة العلمية المبنية على أسس سليمة ولقد تم التعامل مع الرؤى والأفكار بمنظور أمني صرف!
خطأ التفسير
لقد حمّل أفراد جماعة التكفير والهجرة النص الذي صاغه سيد قطب أكثر مما يحتمل وكان كتاب "دعاة لا قضاة" الذي كتبه المرشد الثاني لحركة الإخوان المسلمين حسن الهضيبي رداً على تفسير التكفيريين لكتاب سيد قطب أو هو رد على أفكار قطب مباشرة ولكن أثر قطب أكبر بكثير من أثر الهضيبي لأسباب عدة أهمها أن قطب قضى مشنوقاً على حبل السلطة التي لم يهادنها ولم يتراجع عن فكره بسبب ضغوطها...ولكن سيد لم يكن تكفيرياً ولم يعادي جميع النظم السياسية بالمطلق ونعلم أن عبد السلام عارف رئيس الجمهورية العراقية السابق قد توسط لدى عبد الناصر لإطلاق سراح سيد قطب وظل سيد قطب يكن لعارف المحبة والوفاء والاحترام ، عارف ليس اخوانياً ولا ينتمي لأي تيار إسلامي معروف ولم يكن كافراً بنظر قطب أما حركة التكفير والهجرة فقد نظرت للجميع بمنظور التكفير حتى الذين وقفوا موقفاً إنسانيا معها؛ فقد كانوا ينعتون الإخوان في السجن بالكفر وحين كان هؤلاء يردون على هذا الوصف بأنهم يقدمون لهم (أي لأعضاء جماعة التكفير والهجرة )الطعام والمساعدة كان أولئك يردون بأن أبا طالب والمطعم بن عدي كانوا يطعمون المسلمين وهم محاصرون في شعاب مكة وهما من الكفار !!
أين سيد قطب من هذه النظرية التكفيرية ؟وما ذنبه إن أسيء تفسير كلامه وحمل أكثر مما يحتمل ؟ فحتى القرآن الكريم هناك من فسره فأساء تفسيره ونذكر الخوارج كمثال على ذلك وهم أصحاب الاستشهاد بآية (إن الحكم إلا لله) التي رد عليها الإمام علي كرم الله وجهه بأنها كلمة حق أريد بها باطل فإن كان كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يساء تفسيره من قبل البعض أحياناً فكيف بكلام البشر ؟
وحتى العلاقة بين الإخوان و قطب ونظام الحكم في مصر فإن قطباً قال في وثيقته الأخيرة (معنونة بـ :لماذا أعدموني؟!! ) أن العلاقة بين الطرفين(الإخوان والدولة) يمكن أن تأخذ منحىً آخر غير العداء والصدام إن أعيد النظر بانتهاكات خطيرة ارتكبت في السجون المصرية بحق الإخوان المسلمين وأبرزها مذبحة ارتكبت في صيف سنة 1957م وأدت إلى قتل وجرح العديد من أعضاء الإخوان وإصابة آخرين بحالات جنون ! وأعود للتأكيد أن هذه الظروف تنمي الكراهية والحقد أو في أحسن الأحوال التمسك بالفكر المتشدد الذي يريد الانتصار لفكره في وجه محاولات الإقصاء المستندة إلى أجهزة المخابرات والأمن والسجون التي تنعدم بها الظروف الإنسانية بكل المقاييس.
قطب وابن تيمية والإخوان
هناك إصرار لدى البعض على إيجاد علاقة أو رابط قوي يصل حد الوصف بالامتداد للعلاقة بين أحمد بن تيمية وسيد قطب ولا أرى في ذلك إلا مبالغة ونوعا من الخلط، فابن تيمية فقيه مجتهد له آراؤه التي قد يختلف معه الفقهاء فيها أو يوافقونه عليها وعاش ابن تيمية في ظروف سياسية تختلف عن ظروف سيد قطب صحيح أن الرجلين سجنا وأصدرا أبرز كتاباتهما في السجون ولكن الربط الفكري غير مقبول، فسيد قطب ليس فقيهاً أو محدثاً أو مجتهدا يتبع مدرسة فقهية محددة، هو صاحب فكر ورأي ولا تجد له في المسائل الفقهية بصمات واضحة.
ومن ناحية أخرى فإن سيد قطب يصفه البعض كأشعري ومعروف موقف ابن تيمية من الأشاعرة وكان لابن تيمية موقفاً غير عدائي تجاه معاوية ابن أبي سفيان وبني أمية بعكس سيد قطب ؛ففي كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" الذي يعتبره الإخوان المسلمون هدية من قطب إليهم انتقد سيد قطب السياسات المالية للخليفة الثالث عثمان بن عفان ولمعاوية ابن أبي سفيان ويعتبر المتشددون من المدرسة السلفية أن أي نقد أو مراجعة لموقف أي صحابي يعتبر من المحرمات وهؤلاء امتداد لابن تيمية في موقفه فلم الإصرار على الربط بين الرجلين من الناحية الفكرية ، قد يتذرع البعض بالمواقف التي صدرت عن ابن تيمية وفتاويه بخصوص بعض الحكام وتأييد سيد قطب لإزالة نظم سياسية بعينها.
إن موقف ابن تيمية هو موقف فقهي يستند إلى مصادر الفتوى التي تخصص بها فهو يستند إلى القرآن الكريم والسنة النبوية ويبني عليهما اجتهاده،أما موقف قطب فهو نابع من قراءته لمختلف الآراء والفتاوى ومصادرها وعلى رأسها القرآن الكريم مع قراءة تاريخية استنتاجية كما نلحظ في كتاباته، غير أنني أستطيع أن أقول أن ابن تيمية مات في سجنه نتيجة إرهاب فكري ساد زمانه بناء على اجتهادات فقهية يؤخذ بها في عصرنا في معظم بلدان العالم الإسلامي!وسيد قطب شنق بعد أن ترك أمر مجابهة فكره لمحكمة عسكرية بدل محاورته للوصول إلى نتيجة ترضي الجميع ومنع ابن تيمية في سجنه من مواصلة الكتابة والتأليف مثلما حالت المشنقة بين سيد قطب وبين إكماله لمعالم في الطريق كما ذكر في مقدمة الكتاب أنه سيكتب معالم جديدة كلما هداه الله ولكن العمر لم يسعفه وكانت المشنقة له بالمرصاد.هذا وجه الشبه الذي أراه بين الرجلين.
أما عن وجود سيد قطب داخل حركة الإخوان فهو وجود تكتنفه ملابسات عديدة...
فسيد قطب لم يتول أي منصب داخل مكتب الإرشاد وهو الهيئة القيادية العليا للإخوان، وأفكار سيد قطب لم يتم تبنيها فعلياً من قبل حركة الإخوان التي اكتفت بنشر تراثه وإحياء ذكراه والبكاء على أطلاله دون أن تجد لفكر قطب كبير أثر في سيرة الحركة وفي أواخر أيامه انتقد نقداً شديداً من قبل أفراد وقادة داخل حركة الإخوان في السجن، وحتى سيد قطب نفسه اعتبر في وثيقته الأخيرة (لماذا أعدموني)أن حركة الإخوان حركة يمكن أن تقوم عليها الدعوة ولم يعتبرها منزهة عن الأخطاء وأنها بلغت ما يراه وما يبتغيه من التربية والفكر، وهناك من ينتقد حركة الأخوان المسلمين على اعتبار أنها رمت فكر قطب وراء ظهرها ولم تلتزم بما قرره الرجل من مواقف ومع ذلك يتم الحكم على الإخوان بسبب مواقف قطب فقط؛ وهذا ابتعاد عن المنهج العلمي أيضا!
موقف المثقفين
أعتقد أنه آن الأوان لأهل الثقافة والفكر المستنير والرأي الحر أن يعلنوا دون لبس أو تردد أن إعدام سيد قطب كان خطأً جسيماً ولا مبرر له مهما كان حجم اختلافهم مع الرجل وحتى لو كانوا لا يوافقونه بأي حرف كتبه لأن إعدامه لم يأت بخير، فالفكر يواجه بالفكر والحجة بالحجة لا بالسجن والتعذيب والمشانق.
وعندنا من التاريخ مثال لا زلنا نذكره فالمعتزلة الذين كانوا يتباهون بأنهم أهل علم الكلام وأنهم يواجهون الرأي بالرأي المضاد المدعم بالحجة والبرهان،ناقضوا ذلك حين لجأوا إلى السلطة فيما يتعلق بقضية خلق القرآن فبدل الحجة والبرهان والمواجهة الفكرية والحوار العلمي انهالت السياط على جسد الأمام أحمد بن حنبل فحتى لو كان رأي ابن حنبل باطلاً لأصبح بما انهال على ظهره من سياط صاحب مدرسة لها أتباعها فكيف وهو على حق ومزقت السياط جلده؟! ان ما يجعل لفكر قطب نوعاً من القداسة وعدم الجرأة على النقد والمراجعة لما جاء به إنما هو نتيجة لما رافق سيرة الرجل من سجن وتعذيب وإعدام في نهاية المطاف كل هذا يجعل الكثير من الإسلاميين وغيرهم يتردد ويحجم حتى عن مجرد نقد الرجل وان فعل لم يكن لكلامه أثر بل لربما ووجه بالتشكيك أو بالقول "كن مثل قطب في تضحيته وصبره ثم انتقده".
ان قام المثقفون بمختلف مشاربهم وميولهم بإعلان صريح يعربون فيه عن استنكارهم لإعدام قطب فسيكون من السهل عليهم مراجعة فكر الرجل بشكل علمي ومنهجي لا أن يستمر اتهام الرجل وتحميله أكثر مما يحتمل من أوصاف وأفكار وكأن كلام المثقف صدى لوثائق أجهزة الأمن والمخابرات!