مفاتيح ، أبو سلمى وزنزانة .. تداعيات ما بعد النكبة
بقلم : سلمـان نـاطور

مفاتيح

ليس هناك جسم جامد كالمفتاح يحمل المشاعر التي يحملها، فالبصمات التي تبقى عليه ولا يمحوها قانون التقادم هي رسم خفي لاحاسيس الناس الذين حملوا المفتاح واخترقوا عالمهم او خرجوا منه، كالرسم البياني على جهاز تخطيط القلب، يسجل الغضب والحزن والفرح والسكينة، فكيف يكون المفتاح حين يحمله شاعر غادر البيت حاملاً مفتاحه وديوان شعر وشحن على ظهر قارب في البحر اقلع به من حيفا الى عكا، ثم الى بيروت والى.. والى..الى ان التقينا في صوفيا.

في طفولتي لم يقل لي احد شيئًا عن أبي سلمى.. لا في المدرسة ولا في البيت.. وحين كنا صغارًا نحفظ الشعر ونتبارى فيه، كنا نبدأ المبارزة الشعرية بما اسميناه "المفتاح "، أي البيت الذي نفتتح به وكان :

أنشر على لهب القصيد شكوى العبيد الى العبيد

وكان يصر على هذا المفتاح معلم اللغة العربية، لكنه لم يقل لنا من هو قائله، والحقيقة اننا لم نسأل لأننا كنا نبحث عن أبيات ذات قافية صعبة، و "الدال "هو واحد منها، واما معلم التاريخ الذي كان يستجيب الى الحاحنا لتمضية درس التاريخ الناشف بمبارزة شعرية فقد كان يصر على مفتاح آخر، وهو :

العرب اشرف امة من شك في قولي كفر

ولا اعرف حتى اليوم من هو قائل هذا البيت، لكن معلم التاريخ لم يكمل السنة الدراسية، فقد افتقدناه يومًا وقيل لنا انه يكتب الشعر وقد طرد من المدرسة وسمعنا فيما بعد انه غادر البلاد وصار يتنقل بين مصر وليبيا والاردن ولم يعد الى وطنه، بل تركنا نسخر من أنفسنا ونحن نسأل:

هل حقًا، العرب اشرف امة ؟

قد يعود الينا يومًا ويحكي عن العرب، مؤمنًا او كافرًا، ويعلم الله انه بعد ان تعرف على حالة العرب في الخارج فسيأتينا معتذرًا ليس على كفره بل على يقينه في تلك الايام.

أبو سلمى

بعد ان انهيت المدرسة الثانوية في حيفا سمعت لاول مرة عن ابي سلمى (عبد الكريم الكرمي) ، ويحز في نفسي اليوم انني كنت امر يوميًا، ولأربع سنوات متتالية، قرب بيته ولا اعرف ان في ذلك البيت عاش وكتب "شاعرنا القومي".

لم اعرف في ذلك الوقت ما معنى "الشاعر القومي" لأن معلمة اللغة العبرية، غرزت في رؤوسنا ان حايم نحمان بياليك هو شاعر قومي، ولا يجوز ان يكون هناك شاعر قومي لأمة الا بياليك للأمة العبرية.

عندما كبرت صرت أسأل كطفل صغير :

لماذا لا يكون لنا شاعرنا القومي، مثلما ان لهم شاعرهم؟ وكم اردت ان يكون أبي ومعلم التاريخ شاعرًا كهذا. التقيت أبا سلمى في صيف 1980، في صوفيا مدينة البلقان. جاء ليلقي الشعر وذهبت لأدرس الشيوعية.

هناك تحدث عن حيفا، واذا بها مدينة غير التي تعلمت فيها وأعرفها واقضي معظم ساعات نهاري في غرفة صغيرة من غرف جريدة "الاتحاد" التي احتوت بين جدرانها على طاولة خشبية عريضة، هي طاولة ابي سلمى.

احتفظنا نحن بطاولة مكتبه واحتفظ هو بمفتاح البيت. كنا نتحدث اليه عبر طاولته وكان يتحدث الينا عبر المفتاح. مناجاة عشاق لقمر لا يغيب، ولكنه بعيد، بعيد.

سأل عن شارع الملوك وساحة الحناطير وقال ان بيته في شارع البساتين، في حي الالمانية.

سأل:

هل تعرفون البيت؟

هل هناك احد يحرسه ؟

كان ابو سلمى يعاتبنا لأننا اكتفينا بطاولته ولم نحرس البيت، حتى اننا لم نعرفه، ولم نجرؤ على السؤال:

"لماذا ذهبت"

غجر

بين حيفا الأمس وحيفا اليوم درج من حجر.

الماضي من تحت والحاضر من فوق.

بحرها يتراجع وقممها تفقد خضرتها يومًا بعد يوم.

اصبحت مدينة شاحبة مشحونة بدخان المصانع وزعيق البواخر في الميناء.

بكى وهو يحكي وبكينا نحن على بكائه.

"خرجت مع مفتاح وقصائدي.

وقعت قصائدي في البحر وظل المفتاح لأنني ربطته بخاصرتي.."

في طريقي اليه في فندق البلقان جلست على الارض امرأة غجرية وضعت في حضنها رضيعا والى جانبها وقف طفل في السابعة مادا يده للتسول. أردت ان أعطيه لكن مرافقتي البلغارية قالت:

"لا. انهم ليسوا بحاجة، فالدولة توفر لهم كل شيء وهم يرفضون هذه النعمة!

الغجر يرفضون النعمة ويفضلون التسول! هذه هي حياتهم! لقد بنينا لهم المساكن وسلمناهم مفاتيح الشقق، فباعوا المفاتيح وتركوا البيوت فارغة وانتشروا في الشوارع.. يغنون ويرقصون ويتسولون..

(شو هالحكي؟)

لماذا تضحك يا رفيق ؟"

خذيني الى فندق البلقان واتركيني هناك مع الشيخ الغجري الفلسطيني !

انه شاعرنا القومي؟ هل للغجر شاعر قومي ؟

"لبلغاريا شاعرها!"

قالت الرفيقة نانا، وودعتني عند مدخل الفندق، ولما عانقت ابا سلمى لم يتسلل الى اذني الا شهقاته وطقطقة صرة المفاتيح التي حملتها موظفة جميلة وغابت في الردهات الطويلة.

تلة رضوان

رحلة البلقان كانت كالخرافات الموروثة، لا يحيكها سوى القضاء والقدر والمصادفات الجميلة، وفي صميمها انسان تتقاذفه الاقدار، كهذا الشاعر العجوز الذي يحلم بالعودة الى بيته ويصفه حجرًا حجرًا، ويسأل عن الدرج وعن غرفة "سعيد "وعن الحديقة ويعاتبنا لأننا لم نحرسها. وحين يبدأ رحلته يختار الاسطورة : "يحكى عن راع في تلة رضوان كان يغني لجواميسه ويعزف على الناي، أحب ابنة شيخ القبيلة واحبته فبعث يطلب يدها.

غضب والدها على هذا الراعي "الوقح "الذي يجرؤ على مجرد التقدم اليه بطلب كهذا، فأمر بقطع اصابع يديه عقابًا له.. وكان هذا أقسى حكم ينزل على شاب ترقص انامله الجواميس في المراعي.. في اليوم التالي رفضت الجواميس الخروج لأن الراعي لم يأت ولم يعزف.. وما كان من أهل القبيلة الا ان قصوا اعواد القصب وركبوها في مكان الاصابع وعاد الراعي ليعزف على الناي فخرجت الجواميس الى المراعي وتزوج ابنة الشيخ..

قال ابو سلمى انه تأثر كثيرًا بهذه الحكاية وظلت ترافقه ومنها بدأ يكتب الشعر، كانت هي المفتاح للالهام، مثلما كانت اصابع الراعي المقطعة المفتاح للموسيقى التي اطربت الجواميس، وهل هناك اقتحام لعالم روحاني او مادي دون مفتاح ؟

في عام النكبة فقدت عشرات الوف المفاتيح، منها ما ظل في الابواب المشرعة ومنها ما وقع على الطريق الوعرية او في البحر، اذا لم يربط في الخاصرة، وها هم اصحابها ينتظرون أكثر من خمسين عامًا صابرين على فراقها مؤمنين "ان الصبر مفتاح الفرج "مستبدلين مفتاح البيت الحديدي بمفتاح الأمل الذي تبدد بعد ان قامت الجرافات واخذت البيت والمفتاح..

ألبيت

مات ابو سلمى بعيدًا بعيدًا عن وطنه، بعد شهرين من لقائنا في البلقان. مات في امريكا ودفن في دمشق وترك المفتاح لأبنه سعيد..

عدت الى البيت في شارع البساتين، لأبحث عنه ولأسأله ان كان هو ايضًا يشتاق الى أهله مثلما يشتاق أهله له، وقد كنت امر يوميًا بجانبه ولا أراه، وربما لأن معلمة المدنيات اليهودية قالت لنا:

"العرب في حيفا هربوا خوفًا من البراميل التي دحرجناها في نزلة ستيلا مارس وعلى الدرج الذي يفصل بين حيفا من فوق وحيفا من تحت ففكروها طائرات ودبابات.. وتركوا بيوتهم وهربوا، ويقال ان امرأة حملت وسادة بدلا من ان تحمل رضيعها الذي نام في السرير.. وعندما دخلنا كان الطبيخ على النار.."

عدت الى حيفا بعد رحلة البلقان وذهبت الى حنا نقاره، صديق أبي سلمى، وطلبت منه ان يأخذني الى البيت..

وقع خطانا على السلم الخشبي لم يوقظ أهل البيت..

انتظرنا ان يفتح احد بابًا ويقول:تفضلوا !

كنا كمن يتحرك في كهف مهجور.

"هذه غرفة النوم"..

وضرب حنا بكفه على جدار اهتز هزات خفيفة واختفى رجع الصدى، وفي عينيه علقت دمعتان.. اما السقوط على ارضية "الكوريدور "الخشبية واما البقاء في عناق طويل مع الرموش الذابلة.

طرقنا على الباب.. لم يسمع صوت.

"ربما انه مهجور"

طرقنا مرة اخرى.

"من هناك"؟

ردت علينا امرأة كأننا ايقظناها من سبات عميق.

لم نعرف كيف نعرف عن انفسنا، ولو عرفنا لأثرنا خوفها في مدينة عندما يطرق غريب وصل بلا موعد على ابواب منازلها، فاما ان يكون حراميًا واما ام يكون شرطيًا وكلاهما يثيران اشد احاسيس الخوف.

"سلام عليك ايتها السيدة"

وجوم..

"هل تسكنين هنا منذ زمن بعيد؟ منذ عام1948 ؟

عجوز في الستينات وقفت خلف بابها المشقوق وحدقت بنا حيرى ومرتبكة ونحن القينا بنظراتنا الى باطن الغرفة.

"اسكن هنا منذ عام 1949"

اشار حنا الى الغرفة الواسعة وقال، هذا هو الصالون.. كان يستقبلنا هنا.. وسألنا السيدة :

"هل تعرفين من كان يسكن الدار قبل مجيئك"؟

فاجابت السيدة :

"لا اعرف!عائلة بولونية.. قبلها سكنت عائلة المانية.."

قال حنا نقارة :

"هذا البيت لقريب لي توفي قبل شهر.. نزح عنه قبل 32 عامًا..

سألت السيدة :

"هل هو عربي ؟"

امرأة عجوز قدمت من رومانيا عندما كان صاحب هذا البيت يحمل المفتاح وقصائده ويركب قاربًا ابحر به في محاذاة الشاطئ من حيفا، الى عكا، الى طرابلس..

"هل تعلمين ان صاحب هذا البيت هو شاعر فلسطيني كبير توفي قبل شهر ؟

هل تعلمين انه ظل يحتفظ بمفتاح البيت على أمل العودة؟"

حركت رأسها كأنها تقول:

مسكين هذا الشاعر!

ثم واصلت :

"البيت قديم وقد طلبت من البلدية ان تعطيني بيتًا آخر، ولكن لا يوجد فلوس.. اسكن في غرفة واحدة، هنا مطبح وهنا حمام وهنا غرفة مسدودة بالباطون.. سدتها البلدية، انها تدلف، جدرانها مشققة وشبابيكها محطمة..

مد حنا يده وصافح السيدة العجوز..

الدمعة التي تراخت على الرموش الذابلة انقسمت وتساقطت على خده..

عدنا الى السلم الخشبي.. والكوريدور.. وخرجنا من المدخل.. هناك بيت فوزي بندر.. كان وكيل شركة تأمين.. وهذا بيت زكي التميمي.. وهذا لحسين عبد الصمد.. وهذا للدجاني وهذا للعنبتاوي، وهناك نصار الفرمشاني.. وهذا بيت المحامي عيسى هزو..

هل حملوا مفاتيح بيوتهم التي بنيت من حجر وما زالت قائمة حتى اليوم ؟

زنزانة

رهيبة صكصكة المفاتيح حين تجتمع وتتراقص على خاصرة راهب يمشي في دهليز الى غرفة معتمة في الاديرة القديمة، او حين تصطك في يد سجان تسمع وقع بسطاره عندما تكون منقبضا في زنزانة، وتعلو شيئا فشيئا الى ان يتوقف، فتقف على رجليك لتصغي بترقب وتوتر الى معركة حشر المفاتيح في الثقب الوحيد الذي يربطك بالعالم الخارجي، وعندما تسمع "طقة "وتتلوها اخرى اقوى منها تتنفس الصعداء لأن السجان يفتح الباب ويأمرك بان تخرج الى ان يعيدك ثانية.

ليس بيني وبين المفاتيح علاقة عشق , وقد جاء مفتاح ابي سلمى ليحررني من حقد على المفاتيح كان اشتد في نفسي في ليلة من ليالي ايلول 1977.

في منتصف تلك الليلة حرقت كل سجائري، ولم يكن من عادتي أن لا ابقي سيجارة لقهوة الصباح، لكنني فعلتها في تلك الليلة، فتبين لي فيما بعد ان السيجارة في البيت كالحجاب يطرد "الوسواس الخناس "ويبعد الشياطين واولاد الحرام والا كيف حدث ان في تلك الليلة وبعد ان اقفلت الباب واسترخيت على سريري وما كدت اغمض عيني حتى سمعت طرقا شديدا على الباب وهرجا ووقع خطى ايقظ طفلي وزوجتي فقاموا مذعورين وانا معهم، ولما فتحت الباب واذا بثلاثة رجال واربعة وخمسة وعشرة تجمعوا في المدخل بلباس مدني وبوليسي وقال اولهم: "جئنا لنفتش البيت!"

وناولني ورقة لم اقرأها، ودخلوا بقوة وانتشروا في اركان البيت وفتشوا في المكتبة وفي الخزائن وفي الثلاجة وتحت الفراش، ووصل عددهم الى اكثر من ثلاثين رجلاً ضاع بينهم طفلاي وهما يبكيان ولا يفهمان ما يدور في البيت..كان على طاولتي مفتاح كبير لبوابة قديمة ورثته عن جدي.حين كنت أتأمل فيه وأقرأه كان يعيدني الى تلك الأيام وذلك الجيل والى الحالة الفلسطينية التي تجمعني بهذا الجيل المعذب، ويبدو أن ضابط العملية بذكائه المخابراتي الخارق أدرك عمق العلاقة بيني وبين هذا المفتاح فبدأ يحقق:

من أين لك هذا؟

وأمرني بأن آخذه الى البوابة الكبيرة، ولما أقنعته أن مثل هذه البوابات كان في زمن البيوت الحجرية الكبيرة التي هدمتها جرافاتهم، عندها سحبه بعصبية وقال:

سيكون شهادة ضدك، وأمرني بأن أصعد الى السيارة واختفى المفتاح...

أمضيت ليلتين في زنزانة "الجلمة "ولم تكن المرة الاولى التي اعرف فيها السجن والزنزانة، ولكنها المرة الاولى التي شعرت فيها ان السيجارة تصبح في السجن وسيلة تعذيب، قلت للسجان: اعطني سيجارة!

نظر الي وابتسم ابتسامة خبيثة عبر الفتحة المربعة في وسط الباب وقال : "بعد قليل "، واصطكت مفاتيحه وغاب.. وكانت هذه "البعد قليل "ساعتين واكثر عاد بعدها وفتح الطاقة وناولني سيجارة وقال:نسيت علبة الكبريت , سأذهب لأحضرها بعد قليل.

وكانت "البعد قليل "الثانية اطول من سابقتها , وادركت ان طقوس التعذيب قد بدأت... ولم أشعر بالانفراج الا عندما كان السجان يفتح الباب ويقودني الى غرفة التحقيق...

ثلاثة محققين كانوا هناك:

طيب وشريروبشع..

الطيب عرض علي سجائره والقهوة وكان مؤدبا وحاول اقناعي بان ارتدع عن خطي السياسي المناهض للسلطة وعرض علي المال والوظيفة وحتى عضوية الكنيست..وفتح ملفا كبيرا وقال:كل ما كتبته ونشرته وقلته محفوظ عندنا... وهو مترجم حرفيا...

قلت له:

انا سعيد ان هناك من يهتم بما اكتب... وسعيد اكثر ان كتاباتي تترجم.. حبذا لو تقومون بنشرها بلغتكم...

اغاظه هذا الكلام "الصقع ", فهب من مكانه وغادر الغرفة وتركني وحيدا ثم دخل علي الشرير وقال انه يستطيع ان "يخرب بيتي "وان يجعل حياتي جحيما وان الدولة التي انتصرت على مائتي مليون عربي لا تحسب حسابا لواحد مثلي...

قلت له:

اعرف انكم اقوياء وانا لا اتحدى دباباتكم..

قال:

اذن ستظل مشاكسا ؟

وغادر الغرفة وتركني وحيدا ثم دخل البشع. شاب طويل وضخم ومفتول العضلات صار يبرم حولي ويلف ويدور وينظر الي نظرات مرعبة , وقال :

من انت؟ ماذا تساوي؟

انت لا تساوي الرصاصة التي ستخترق دماغك..

لا.. لن نخسر عليك رصاصة..

نحن سنطلق سراحك..

سنقول لك انت حر , اذهب اينما شئت , وستركب سيارتك.. وتسافر وفجأة تأتيك سيارة شحن كبيرة.. سيمترلر.. وتدوس عليك كما يدوس الفيل على النملة .. وبعدها ستركض زوجتك خلف شركة التأمين لتدفع التعويضات ..

وتكررت هذه الجولة الثلاثية... لمدة 48 ساعة.. تعلمت منها درسا واحدا: ان لا أنام ليلة دون ان اترك سيجارة لقهوة الصباح..

أطل عليه..

وصرت اكره المفاتيح وصكصكتها.. الى ان كان ذلك اللقاء مع ابي سلمى في فندق البلقان في صوفيا..

صار للمفتاح معنى آخر في حياتي..

علمني مفتاحه ان ليلتي ويومي في سجن الجلمة كانت المفتاح الى عالم من المواجهة ليس فيه تنازل ولا مساومة ولا التفاف على الحق..

"سنلتقي في حيفا"

قلت لأبي سلمى..

بعد شهرين رحل تاركا المفتاح.. وقد أشبعت قصائده الضائعة بملح البحر...

بعد سنوات قليلة أخلت العجوز الرومانية البيت، ربما انتقلت الى بيت آخر أو الى العالم الآخر..

ظل البيت مهجورا لعدة سنوات أخرى. لم يقم أحد بزيارة البيت.. مررت يوما من هناك، كانت الجرافات قد أنهت عملها، والبيت تحول الى ركام صارت الجرافات تحمله على شاحنة كبيرة وتطاير غبار كثير..

لم يبق لبيت شاعرنا القومي أثر ، هناك في حيفا، حي الألمانية ساحة كبيرة هي موقف سيارات.. أطل عليها من مكتبي في "معهد اميل توما"، فتأخذني بعيدا الى فندق البلقان والى مفتاح على خاصرة شاعر لم يقدر على حماية قصائده فسقطت في البحر ولم نقدر على حماية بيته فمسحتها الجرافات..

سلمـان نـاطور
تاريخ النشر : 28/04/2005