الـقطيـع..
بقلم : سلمـان نـاطور
تاريخ النشر : 13:23 10.09.04


المجموعة البشرية التي تتبنى عقلية القطيع تنشيء أيضا ثقافة القطيع ، والقاعدة العريضة لهذه الثقافة هي أنها لا ترتقي الا الى المستويات البدائية للوعي والقائمة على اشباع غرائز بدائية

هل يجوز استعمال اصطلاح "القطيع" على البشر أيضا؟

يعني هذا الاصطلاح مجموعة بشرية منساقة وراء قائد، بلا وعي ولا تفكير، كأنها قطيع من الماشية، فما الفرق بين الفرد في القطيع الحيواني والفرد في القطيع البشري؟

الانسان عادة يقيس ويقيم كل الظواهر الطبيعية بمقاييسه هو ووفقا لرغباته ، بحيث ينشيء لغة وقاموسا بشريين يقومان على نظرة فوقية نحو الطبيعة والحيوان والنبات، وكل محاولة لقلب زاوية الرؤية ، أي النظر من وجهة نظر الحيوان الى تقييمات الانسان، قد تعطي صورة أكثر موضوعية لشكل العلاقات "القطيعية" لدى الحيوان والانسان.

ليس الهدف من هذه المقالة الدفاع عن الحيوان وكرامته، وهو بحاجة الى هذا الدفاع، وانما هو محاولة خاطفة لفهم العقلية القطيعية البشرية دون تفهمها، والتي تجدها في معظم المجتمعات، حتى تلك التي تبدو متحررة وتحترم حقوق الانسان .

الحيوان الذي ينتمي الى قطيع لا يفعل ذلك الا لأنه لا يملك خيارات أخرى، وهو لا يملك القدرة الذهنية على التفكير بخيارات أخرى، ولذلك فان انتماءه الى القطيع هو أقصى مراحل الحرية في حياته. انه ينتمي الى القطيع ليس لانه لا يعرف الطريق الى المرعى أو الحظيرة، وانما لأنه هو أيضا مخلوق اجتماعي، أي أنه يميل الى العيش مع الجماعة وينسجم معها. انه لا يطلب منها شيئا لنفسه لأن حاجاته محدودة، فهو معها يكتفي بالمأكل والمشرب المتوفر للجميع، ولا يحتاج الى أكثر من ذلك، حتى احتياجاته الغريزية الأخرى منظمة وواضحة وليس له احتياجات ناجمة عن الوعي لأن وعي الحيوان يقتصر فقط على غرائزيته.

الانسان يختلف تماما عنه ، لأن وعيه يختلف ، واحتياجاته تختلف، وفضاء حريته أوسع بكثير، واجتماعياته ليست ناجمة عن ضرورات غرائزية فقط بل عن وعي، أي باختياره، ولذلك فهو الذي يحدد شكل العلاقات الاجتماعية مع الغير ويخضعها لرغباته وارادته، وهو الذي يشكل الاطار الاجتماعي الذي يربطه بالآخرين، وبهذا المعنى هو الذي يكون "القطيع".

القطيع البشري هو اطار اختياري . الانسان مسؤول عنه وهو يحدد قاعدته وشكله وغاياته، وهو أيضا يختار راعيه وقائده، وهو يتحمل مسؤوليته الأخلاقية.

أخلاقيا، الحيوان القطيعي أشرف من الانسان القطيعي، لأن الحيوان لا يملك القدرة على الخلاص من حالته ولا الرغبة ايضا، بسبب فقدان الوعي لحالته، بينما الانسان القطيعي يملك كل القدرات للخلاص اذا كانت لديه الرغبة في ذلك، والرغبة تتحول الى ارادة ، والارادة هي التي تحركه في اتجاه الخلاص .

كيف ترضى مجموعة بشرية بهذا الشكل من العلاقات الاجتماعية فيما بينها؟

اذا اعتقدت أن هذا هو قدرها! أي اذا استسلمت لحالتها وانتظرت مخلصا يأتي من مكان آخر، وبدلا من أن تنشغل بتحرير ذاتها فانها تنشغل بالبحث عن هذا المخلص.

المجموعة البشرية التي تتبنى عقلية القطيع تنشيء أيضا ثقافة القطيع ، والقاعدة العريضة لهذه الثقافة هي أنها لا ترتقي الا الى المستويات البدائية للوعي والقائمة على اشباع غرائز بدائية، مثل الرغبة في البقاء، البقاء بكل ثمن، دون البحث عن كيفيات لهذا البقاء.

الحاكم، ووسائل الاعلام، ووسائل الانتاج، كلها تكرس لتخليد هذه الحالة، لأن هذا هو "مطلب الجماهير"، وهذا ما "يحبه الناس"، وهذا ما يرفع الريتنغ" (نسبة اقبال الجمهور) ، وهذا هو الأدب الذي "يطلبه الناس" ، وهذه هي القصيدة التي تلهب حماس الجماهير"، وهذا هو " المرشح المقبول على الطائفة"، والرئيس "الحريص على وحدة الحمولة" ،مثلما أن هذه هي الأكلة التي "يتهافت عليها الناس" حتى وان كانت كلها من المواد الكيماوية القاتلة ومشبعة بالكولسترول والدهنيات.

ألحاكم الذي يتحول الى راع يحول شعبه الى قطيع فيكثر هو من الكلام معتقدا أن على شعبه/ رعيته أن يصغي فقط، وقد يكون كلامه جميلا ومنمقا ومقنعا، وقد ينمق الكلام فقط من أجل جمهور تعود أن يسمع.

الجمهور ليس بحاجة لأن يسمع، انه بحاجة لأن يتكلم.

حين يصبح صوت الناس أعلى من صوت الحاكم، تبدا الثورة على عقلية القطيع وثقافة القطيع.

سلمـان نـاطور