الأسرى أمانة ثقيلة جداً
بقلم : نضـال حمد ـ اوسلـو

لا بد لي بداية كفلسطيني يحترم فلسطينيته ويقدرها خير تقدير أن أسجل خجلي نتيجة ضعفي امام كلمات أقدم أسرى ثورة فلسطين على الإطلاق المناضل سعيد وجيه العتبة: "إن من عاش تجربة السجن يدرك كم هي طويلة وقاسية لكنه يدرك أنه لا مكان للاستسلام"، هذا الثابت الذي لا يتبدل، الذي مازال أسيراً خلف القضبان، لكنه يقف بوجه سجانه بإرادة تفولذت في ميمعان السجون والزنازين والمعتقلات، فالإرادة الصوانية تكسر صمت الجلاد، وتكسر عنجهية الذين نسوا سنوات الشموخ وتناسوا نسورنا وفهودنا خلف القضبان، فاستسلموا وشرعوا الهزائم وأكثر من ذلك جعلوها انتصارات.

يقف الأسرى بأصواتهم الفلسطينية العربية المرتفعة ، لتعلو فوق أصوات الذين أوصلوهم إلى مجزرة أوسلو السياسية والقانونية. وقد كان عميد أسرى فلسطين سعيد العتبة حكيما في كلمات قليلة قالها وتحضرني هذه اللحظات وهي تعبير حقيقي عن مرارة الأسرى و عن موقف الحركة الأسيرة من عملية توقيع اتفاقيات اوسلو بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، فقد قال العتبة انه لم يعد يفرق بين الوضع في السنة التي اعتقل فيها (1969) وبين العام 1998. ونحن نضيف لكلماته انه لم يعد هناك فرق بين الاحتلال والسيادة ، فجماعة اوسلو كيفوا أنفسهم مع تلك المسألة وأصبح بامكانهم تكييف أنفسهم مع كل مسألة تَجِد عليهم إلا مع مسألة واحدة وهي حرية الوطن والشعب والأسرى، وهؤلاء بطبيعة الحال من أهم أجزاء الوطن والشعب معاً.

بتلك المرارة عبر عميد أسرى فلسطين عن وجع فلسطيني كبير لازال يفعل فعله في جسم الحركة الأسيرة.فهؤلاء الأسرى جنود قاتلوا في سبيل حرية شعبهم و وطنهم وقضيتهم المقدسة، وأرسلوا للقتال لكن بعدما اسروا تم التخلي عنهم من قبل الذين أرسلوهم. وهم ليسوا سوى جزء من ضحايا عملية اوسلو الفجيعة، لأن المفاوض البائس والفاشل واللا مسئول تخلى عنهم وتجاهلهم وكأنهم غير موجودين على الخارطة. ولأول مرة في التاريخ يحدث أن يتم توقيع سلام بين متحاربين ولا يتخلله تبادل أو إطلاق سراح الأسرى. وبينما حافظ الأسرى على المبادئ والقيم الثورية التي اسروا وهم يناضلون في سبيلها، كان البعض من تجار الوطن ومنهم أسرى سابقون تحرروا سابقا يتمتعون بحرية وامتيازات ومنافع ومصالح جلبها لهم سلام الشجعان. إن أسوأ ما في تخلي جماعة سلام اوسلو عن الأسرى هو عدم تثبيتهم مبدأ أن الأسرى ليسوا مجرمين وقتلة وإرهابيين كما يدعي الطرف الصهيوني (الإرهابي) بكل المعايير.

احيي الأصالة والانتماء في روح أسرانا كلهم، وفي روح قيادتهم الخبيرة والمجربة على مر سنوات الأسر، حيث أنها قادت النضال في السجون بلا كلل أو ملل. وسعيد العتبة مع نائل وفخري برغوثي واكرم منصور وسمير القنطار ووليد دقة وآخرين أصبحوا رموزا وطنية لأنهم من الذين عجنوا اللبنة الأولى لمدرسة تخريج الرواد من سجون ومعتقلات الاحتلال. وانضم إليهم قادة مجربون مثل مروان برغوثي وحسام خضر وآخرين في الانتفاضة الثانية. هذه الرموز الفلسطينية العربية الكبيرة قد ساهمت مع إخوة وأخوات منهم من تحرر ومنهم من ينتظر في تأسيس وبناء مدرسة الرواد الأسرى والمعتقلين،حيث من تلك المدرسة تخرجت أجيالاً فلسطينية متتالية كانت قد عرفت طعم المعتقل وتذوقت مرارة السجون والزنازين وكسرت وحشة وغياهب المعتقلات، وأوكار التعذيب والإذلال. فمن السجن إلى الحرية كانت تخرج قوافل أبناء فلسطين مثقفة متدربة متعلمة متمرسة وبقناعات قوية وإرادة صلبة وقامات وهامات مرفوعة،تخرج من هناك إلى الحرية لتشارك الشعب ثورته ولتمارس دورها في قيادة الانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة، فالحركة الأسيرة والتي دفع أبناؤها الثمن باهضاً ولازالوا يدفعون هي المصنع الوطني الكبير الذي يزود الثورة والانتفاضة برواد جيل التحرير والمبادئ والقناعات والاستمرارية، هذا بالرغم من سقوط بعض أركان الحركة الأسيرة بعد خروجهم ومن ثم التحاقهم بمدرسة الفساد والأجهزة المخابراتية ومبادرات التآمر على الحقوق الوطنية الفلسطينية.

عند الكتابة او الحديث عن الحركة الأسيرة لا بد لنا أن نعرج على زنزانة العميد العربي،البطل القومي الأسير سمير سامي القنطار ، أقدم أسرى العرب وآخر الأسرى اللبنانيين في سجون الاحتلال الصهيوني. فقد تعلمنا من هذا الرجل الرمز كيف يكون الوفاء للمبادئ والتمسك بالقناعات وعدم الضعف والهوان في لحظة ضعف عابرة خاصة عندما تحدث عمليات تبادل للأسرى فيخرج رفاقه اللبنانيين كلهم ويبقى هو مع انه أقدمهم على الإطلاق.. سمير قائد اسير شجاع مؤمن بمصيره وبحتمية تحرره، لذا فهو يرفض في لحظات سلام مستسلمة للوهن والأوهام أن يستسلم بدوره.فمن صموده كما آلاف الأسرى الأبطال من أبناء شعب فلسطين وأمة العرب نتعلم كيف نعض على الجراح وكيف نبني من موقفٍ رائدٍ دولة الحرية والعشاق، ونختبر كبرياء الكفاح في انتمائنا للجراح، ونشعل شمعة اللحظة الحاسمة في ليلة ظالمة لا بد أن تكون قاسمة. ونعيد البهاء لوجه طفلٍ غاب عنه وجه والده في الزنزانة أعواماً وسنين، أو فقد ابتسامة والدته وصدر أمه لسنوات بسبب سلام " الشجعان" وهزيمة واستسلام الرفاق و الإخوان. ومن صمود وحماسة وكبرياء وتسامح وتعاون وصلابة سمير القنطار وإصراره على رفض الاعتذار من سرقة الوطن وقتلة الأبرياء نتعلم كيف نتواصل ونستمر ونتعاون ونزداد ايمنا بحقنا الشرعي المقدس.

في نهاية شهر آذار المرتبط بالأم وبالربيع وحيث كلاهما يرتبط بدوره أيضاً بالأرض الفلسطينية وبالكرامة والكبرياء.. و على وشك بداية شهر الشهادة والعطاء والانتماء نيسان/ ابريل الأسرى و الشهداء نقف وقفة عز تليق بكل صاحب كرامة وقضية لنراجع مسيرة حركتنا الوطنية وانتفاضتنا الفلسطينية وسلطة اوسلو العتيدة. ونسأل عن الزراعة والحصاد وعن المواسم والقطاف والثمار، ونحسب التضحيات بالإنجازات وبالتغييرات. ثم بعد توقف قصير وبرهة من النظر والإمعان فيما هو أمامنا من أوراق نجد أن التضحيات عظيمة وجسيمة وان الدروب التي أوصلتنا إلى كل بيت إلا بيتنا، قد استبدلت ألوانها الترابية بألوان حمراء تعبر عن قوة تمسك أبناء وبنات فلسطين بدروب الشهادة والانتماء للتراب الفلسطيني الكامل وللشعب المعطاء.

هذه الأيام لا بد من التذكير حتى تنفع الذكرى ففي سجون الاحتلال بقيت هناك ذكريات مشعة ومنيرة لـ 177 أسيراً استشهدوا في السجون والمعتقلات منذ 1967،ومن أبرز الشهداء الأسير المقدسي عمر القاسم أحد أوائل ورواد الحركة الأسيرة. وبالمناسبة فان تقارير وزارة شئون الأسرى الفلسطينية تقول أن 69 اسيراً استشهدوا تحت التعذيب او نتيجة له. وأن 71 آخرين استشهدوا جراء القتل المتعمد بعد الاعتقال. وهنا تحضرنا واقعة المجموعة الفدائية الفلسطينية التي اختطفت شاحنة إسرائيلية في صحراء النقب في الانتفاضة الأولى،وتم إعدام أعضاءها بعد أسرهم من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي. هذا وهناك أقاويل عن قيام الصهاينة بإعدام القائد الميداني أبو جندل أحد أبطال ملحمة و معركة مخيم جنين بعد أسره.

بعد التذكير بالشهداء لا بد من التذكير بالأحياء حيث هناك أكثر من 8300 أسير فلسطيني ومنهم بعض العرب من لبنان والأردن ومصر لازالوا رهائن القيد والمعتقل والعذاب في سجون الاحتلال. ومن هؤلاء الأبطال من مضى على وجوده في الأسر أكثر من 25 عاماً، مثل سعيد العتبة 1977 و نائل وفخري برغوثي 1978 وأكرم منصور 1979 وسمير القنطار 1979. وهناك أبطالاً أسرى آخرين مر على اعتقالهم أكثر من عشرين سنة وهم محمد إبراهيم محمود أبو علي 1980 وفؤاد قاسم عرفات 1981. إضافة ل 11 أسير آخرين جلهم من فلسطينيي الخط الأخضر مناطق ال48. ولا بد من التذكير أيضاً بالأسيرات وبالأشبال الأسرى الذين يتعرضون لإهانات ومضايقات واعتداءات يومية..

مرة ثانية نترك الكلام للعميد سعيد العتبة الذي يقول :
"إن من عاش تجربة السجن يدرك كم هي طويلة وقاسية لكنه يدرك أنه لا مكان للاستسلام، وأنا عندما أقف اليوم وأعطي شهادتي هذه وأنظر إلى سبعة وعشرون عاماً من الأسر فإنني أرى صورة كاملة ذات وجهين: حالة وحشية وسادية وقمع يجسدهما السجان وحالة صمود وبطولة يجسدها الأسير الفلسطيني الذي استطاع أن يحفظ بقاؤه كإنسان ويصون هويته كمناضل ويواجه هذه الظروف ويحولها إلى مدرسة ثورية حقيقية.لم تتعبني هذه الرحلة الطويلة مع أن التعب صفة إنسانية وقد أكون مكابراً لو أنكرت ذلك لكن التعب مسألة نسبية فإذا كنت تعبت من السجن فهذا لا يعني أني تعبت عن حمل قضيتي وقناعاتي التي قادتني إلى السجن، لا زلت أملك الطاقة لأكمل، نحن كشعب لا نملك الكثير من الخيارات، المسألة هي أن نكون أو لا نكون، فإما أن تكمل بنفس الروح وإما أن تسقط وتنتهي كإنسان وكقضية".

يا أبناء فلسطين أينما كنتم قضية تحرير الأسرى أمانة ثقيلة ومقدسة فليحملها كل من يستطيع حفظها وصيانتها و رفع رايتها أينما ذهب وحيثما وجد... فالقضية معقدة وصعبة وتحتاج لكل إنسان يؤمن بإنسانية الإنسان فكيف الحال والأسرى هم أكثرنا تضحية من اجل الإنسانية في بلادنا والعالم أجمع. هؤلاء لازالوا معتقلين في ظروف صعبة ومعقدة ولا إنسانية،حيث أن السلام لم يحررهم ولم تحررهم الأنظمة العربية المطبعة ولا سلطة اوسلو العتيدة، ولا قمم شرم الشيخ والعقبة، ولا قوانين الدنيا كلها، فهم كانوا في معتقلهم الأكبر من ضحايا الاحتلال ولازالوا في معتقلهم الأصغر من ضحايا قوانين الغاب الصهيونية التي يسنها الاحتلال. وأعدادهم لا تنقص ولا تقل، بل تزداد تصاعدا مع كل يوم احتلالي جديد.



نضـال حمد ـ عضو تجمع الكتاب والأدباء الفلسطينيين
31-03-2005