من الأهم : مصلحة فتح أم مصلحة فلسطين؟
بقلم : نضـال حمد ـ اوسلـو
لم يكن هناك شك بأن المرشح الوحيد عن فتح لرئاسة السلطة سيكون مهندس اتفاقية اوسلو نفسه السيد محمود عباس أبو مازن. لذلك كنا ننتظر اللحظة التي سيعلن فيها مروان البرغوثي تخليه عن حلمه مقابل تحقيق أحلام فتحاوية أكبر من أحلامه الشخصية أو الوطنية. فحلم مروان الحقيقي يظل في إطلاق حريته المسجونة وأيضا في حرية وطنه وشعبه، لكن الأحلام شيء والواقع شيء آخر. وما بين الأحلام والواقع وقائع كبيرة عرفها الفلسطيني عبر الدماء والآلام والمعاناة ورحلة النضال والكفاح الشاقة والصعبة. وفي تلك الرحلة كان المرء يتخيل الأمور أكثر تفاؤلا وأكبر أملاً وثقة، لكن تجربة الانتفاضة الثانية مع التجربة السابقة جعلت الأمور أكثر تعقيدا وشدة وصعوبة. لأن لغياب الرؤية والهدف والوسيلة دوره في فشل السياسة الفلسطينية الرسمية المتبعة. وما إعادة التجديد لخيار اوسلو القديم ? الجديد متمثلا سابقا بعرفات ولاحقا بعباس سوى صفعة جديدة تضاف للصفعات الكثيرة التي تلقاها شعب الشهداء والعطاء على مر السنين والأيام.
بعيدا عن الأحلام لكن بقرب سلام الشجعان فأن المنطق يقول بأن من جاء باوسلو ومصائبها عليه أن يحصد ما زرعه وليتحمل وحده مسئولية النكبة الأوسلوية. أما نهج اوسلو لسلام الشجعان فقد جاءت به حركة فتح،إذن فلتتحمل هذه الحركة مسئولية ما فعلت بنفسها وبشعب فلسطين وبالقضية الفلسطينية. لأن التاريخ لا يرحم والشعب لا يغفر وسوف يفتح السجلات ويحاسب. ثم إذا كانت مصلحة فتح للفتحاويين أهم من مصلحة فلسطين، في تلك الحالة على الشعب الفلسطيني ان يقول لفتح ولقادتها ولكوادرها ولقواعدها أن فلسطين أهم منكم ومن فتح بكثير. كما عليه أن يذكرهم بأن فتح انطلقت في الفاتح من يناير/كانون الثاني 1965 من أجل تحرير فلسطين ولأجل حرية وعودة واستقلال شعب فلسطين، لا لأجل تجزير وتجزئة و أوسلة القضية الفلسطينية، ولا لأجل استبدال منظمة التحرير الفلسطينية بالسلطة الفلسطينية.
لقد قدمت الحركة الوطنية الفلسطينية آلاف الشهداء والجرحى والأسرى من أجل تحقيق البرنامج الوطني الفلسطيني الداعي الى تحرير فلسطين الكامل أو تحريرها ولو على مراحل، كما جاء في البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وهذا البرنامج الذي روي بالدماء والتضحيات الفلسطينية الكثيرة قبله وأثنائه وبعده هو الذي أوصل القضية الفلسطينية الى كل العالم عبر منصة الأمم المتحدة التي اعتلاها الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات حاملا غصن الزيتون. وهو نفسه الذي جعل المكاتب والممثليات الفلسطينية تنتشر في كل العالم. ونذكر بأنه هو نفسه كان أيضا امتداد للميثاق الوطني الفلسطيني وليس بديلا عنه. أما الآن وبعد اوسلو فقد أصبحت مُنزلات اوسلو التعجيزية بديلا للحدود الدنيا الفلسطينية، فلم يعد هناك حديث عن قرارات دولية أو التزامات عالمية وعربية ولا عن قرارات شرعية ودستورية وقانونية فلسطينية، وأصبح الحديث عن اوسلو وشرم الشيخ والعقبة وخارطة الطريق ولاءات بوش وشروط شارون التعجيزية القائلة بدولة مسخ، يعني اوسلو وما على موائدها من فتات، حديثا متبعا ومنزلا عند بعض الفلسطينيين والعرب والعاربة عداك عن كونه من الأشياء الثابتة والمتفق عليها عند أهل الكذب والنفاق في الشرق والغرب .
من واجب الشعب الفلسطيني أن يذكر فتح بالينابيع التي نبعت منها وبالبداية التي بدأتها وبالانطلاقة التي انطلقتها على أساس الميثاق الوطني الفلسطيني الذي جاءت به منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة المرحوم القائد احمد الشقيري مؤسس منظمة التحرير الفلسطينية وذلك قبل بروز نجم فتح والفصائل الأخرى. لقد تبنت حركة فتح نفسها الميثاق الوطني وظلت ملتزمة به لغاية مجلس غزة بحضور كلينتون ومباركة نتنياهو فجاء المجلس العتيد ( سواء كان أو لم يكن شرعياً) وقام بإلغائه كجزء من عملية سلام الشجعان وكان المرحوم ياسر عرفات عراب ذلك الإلغاء ، تماما كما كان هو نفسه عراب اتفاقيات اوسلو. يومها قال الشعب الفلسطيني بأن المصلحة الوطنية والمصيرية لا تقبل سياسة التوازنات التي تتبع في المنظمة وفتح والسلطة، وحذر من فهلوة عرفات ونيته وضع المؤسسات في الجيبة، ورغبته في إلغاء الدور الحقيقي للمنظمة وحتى لفتح. وقال البعض ان فذلكة وفهلوة "العرفاتيين" لن تمر لا على كلينتون ونتنياهو ولا على الشعب الفلسطيني نفسه. فالمجلس عقد ولم يكن جلسة تمت لملمة الحضور فيها بشكل عشوائي، وتم التصويت بشكل بدائي، كانت جلسة خصصت لاغلاء الميثاق تماشيا مع شروط سلام الشجعان وقد تم ذلك بالفعل. ورغم الموقف الشعبي الرافض لتلك اللعبة إلا أن عرفات واصل نهجه المعروف ولعبته المكشوفة بحيث وضع كل شيء في جيوبه وأصبحت المنظمة في خبر كان وفتح مئات الفتحات في الداخل والخارج، بينما ظل هو نفسه مثل المغناطيس يجمع كل المعادن الفتحاوية بكل تناقضاتها الى أن مات مؤخرا تاركا خلفه الكثير من المعادن الصدئة.
أن الذي يحدث الآن في الحركة الوطنية الفلسطينية بعيدا عن النظرة الشمولية للوضع يجعل المرء يفكر جليا بمستقبل الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة. صحيح أن عرفات الذي كان بمثابة المغناطيس في حركة فتح قد رحل، وأن كل المعادن الفتحاوية المنوعة التي كانت مشدودة إليه قد تفرقت وأصبح كل معدن على حده و لوحده. لكن الأصح ان خليفته في السلطة والمنظمة المهشمة والمغيبة محمود عباس أبو مازن لن يستطيع السير بغير الاتجاه الذي خطه هو نفسه بالتنسيق مع عرفات سابقا. وأبو مازن سوف لن يكون رجلا آخرا في منصبه الجديد لأنه سوف يواصل سياسته يوم كان رئيسا للوزراء حتى استقالته. وكلنا يعلم أن تلك السياسة كانت مرفوضة من قبل غالبية أبناء وفصائل شعب فلسطين. مما اضطر محمود عباس يومها وبعد خلافات علانية حادة وسرية أكثر حدة مع عرفات لتقديم استقالته ومقاطعة الرئيس الفلسطيني لأكثر من سنة ونصف،حتى انه قال بانه لم يعد عضوا في حركة فتح. لكنه بعد موت عرفات أصبح آليا منتدبا عن فتح و رئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بالرغم من انه كان مقاطعا اجتماعاتها ولا يحضرها، وبالرغم من قوله انه لم يعد عضوا في فتح.
هذه هي فتح كما عرفها الناس على مر السنين وقد اجتمع مؤخرا مجلسها الثوري العتيد (الدورة 24) الذي لم يعد منه ثوريا سوى الاسم وأعلن ببيان صحفي مقتضب أن مرشح فتح الوحيد هو أبو مازن. وأشاد المتحدثون من قادة فتح والسلطة بحرص الزعيم الخالد (عرفات) على الديمقراطية والمؤسسات. فقد قال ربحي فتوح (رئيس السلطة مؤقتا) أن "الزعيم الخالد ياسر عرفات كان حريصا على إرساء دعائم دولة القانون والنظام والديمقراطية". هذا شيء عجيب وغريب فعلا، عن أية ديمقراطية ومؤسسات وقانون يتحدث هؤلاء ؟ هل نسوا التاريخ هكذا وبهذه السرعة وأين هي المؤسسات وأين هو النظام الديمقراطي والقانون؟ يا سادة لم يكن عند الشعب الفلسطيني مؤسسات ولا قانون.. كانت هناك مؤسسة منظمة التحرير الفلسطينية وبقيت تسير بشكل من الديمقراطية العرجاء حتى شطبها الزعيم الخالد (عرفات) وأقام مكانها سلطة أوسلو الفلسطينية التي أصبحت بديلا عنها ومنافسا قويا لها من خلال دعم الغرب والشرق وكل الذين أيدوا سلام الشجعان. وقد رأينا كيف أصبحت مناطق السلطة الفلسطينية بعد الانتفاضة والسور الواقي جزر وبؤر أمنية للوقائي هنا وهناك وللتنظيم و وللاستخبارات العسكرية والمخابرات العامة وغيرهم، حتى أصبح المرء يظن انه في إحدى الدول العربية الشقيقة. ثم أن فتح كادت تمزق بعضها إرباً.. لكن ورغم هذا لم يتوان أعضاء المجلس الثوري عن الإشادة بالسلطة الوطنية القاعدة والنواة الصلبة لدولة فلسطين المستقلة كما قال في الاجتماع رئيس الوزراء الصلب مثل الاسمنت ابو علاء احمد قريع.
بعد مداولات عدة أكد اعضاء المجلس "ثقتهم المطلقة بمحمود عباس رفيق نضال ودرب ياسر عرفات" في سلام الشجعان وقد صوت لأبي مازن 105 أعضاء من 107 وهذا يدل على ان مصلحة فتح فوق مصلحة الوطن والجميع. لكن ليس بالضرورة ان تتلاقى مصلحة فتح مع المصلحة الوطنية الفلسطينية. واذا ما نظرنا الى التصويت في المجلس الثوري سنجد ان فتح بمجلسها الثوري مع الاستمرار بعملية اوسلو. لكن هل هذا المجلس الثوري لا زال يمثل إرادة فتح ؟ هنا السؤال وهنا يجب الإجابة بدقة. اذا كان المجلس لا يمثل إرادة حركة فتح بقواعدها وتنظيمها يجب الجهر بذلك والدعوة لانتخابات في صفوف فتح والتحضير بجدية ومسئولية لمؤتمر الحركة المزعم عقده يوم ميلاد عرفات في الرابع من آب 2005، وأن يحدد المؤتمر مصيرها ومسارها. أما إذا كان المجلس يمثل رأي فتح فعلى الرافضين لذلك الرأي البحث عن دربهم وخلاصهم بعيدا عن فتح وقريبا من فلسطين وشعبها ومصلحته العليا.
الملفت في الاجتماع ان نفس محمود عباس ألقى كلمة قصيرة أكد فيها على التمسك الكامل بالثوابت الوطنية الفلسطينية والتي اعتبرها التالية: دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشريف، تأمين الحل العادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194، إطلاق سراح الأسرى والمعتقلين ،تعزيز الديمقراطية وإقامة دولة القانون والنظام. هذا كلام جميل لكن وقت التطبيق وعلى الأرض يصبح العسل بصلا والبطل أرنباً، ويتم نسيان القرارات ويبدأ التعامل الفردي على طريقة الرئيس عرفات مع الثوابت الوطنية وفي المفاوضات. وكلام ابو مازون يعتبر نسخة طبق الأصل عن بيان المجلس الثوري لفتح الذي أكد بدوره على تمسّك حركة فتح " بالوحدة الوطنية الفلسطينية، وبمواصلة الحوار الوطني دون إبطاء بين فصائل وقوى شعب فلسطين بما يعزّز الوحدة الوطنية الراسخة على أساس برنامج الإجماع الوطني الذي أقرّه المجلس الوطني الفلسطيني، وإعلان الاستقلال الوطني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، وتأمين حق العودة للاجئين الفلسطينيين وفق القرار 194 الصادر عن الأمم المتحدة". لكنه لم يغب عن بال المجلس التمسك بخارطة الطريق وخيار السلام كما رآه وسار عليه قائده الراحل ياسر عرفات، واستحضر المجلس قرارات المجالس الوطنية الفلسطينية المتعاقبة ، لكنه بنفس الوقت لم ينفض الغبار عن منظمة التحرير الفلسطينية ولم يطالب بإعادة الاعتبار لها وبتفعيل مؤسساتها وأطرها كي تعود حاضنة حقيقة للوحدة الوطنية الفلسطينية، وعندها لا يكون هناك دواعي للحوار الوطني في القاهرة او غيرها من الأمكنة.
واضح ان أعضاء المجلس الثوري واللجنة المركزية لفتح قد التفوا حول شخص محمود عباس كمرشح قوي ووحيد لرئاسة السلطة والمنظمة في المستقبل القريب. ويتضح مما ذكرناه أعلاه أن فتح يهمها بيتها الداخلي الخاص أكثر مما يهمها البيت الفلسطيني الشامل والعام. لذا كانت قرارات المجلس فتحاوية التوجه وفتحاوية الأهداف ولم تكن فلسطينية شاملة، وقد تغلبت فيها مصلحة الحركة على مصلحة الوطن. وقد يكون انتخاب ابو مازن رئيساً للسلطة وللمنظمة بمثابة المسمار الأخير في نعش تلك الفئة التي هيمنت طويلا وبلا فوائد وطنية على كل المؤسسات الوطنية الفلسطينية من مؤسسة منظمة التحرير الفلسطينية حتى السلطة الوطنية الفلسطينية في أراضي الحكم الذاتي المحدود والتي أعاد الاحتلال الصهيوني احتلالها من جديد... ومن يدري رب ضارة نافعة..
نضـال حمد ـ اوسلـو
28-11-2004