نـم يـا مـحمد
بقلم : نضال حمد ـ اوسلو
(الى الشاعر الغرائبي الراحل محمد حمزة غنايم)
في شهر أيار نام الشاعر ولم تنم شمس قصائده الساهرة.
في شهر أيار سهرت الكلمات على ضريحه،لم تنم طوال الليل واستطابت الجلوس عند شاهد قبره..
في شهر ايار و طوال النهار الذي تلا آخر نهاراته، وحيث كانت تكسرت نسمات الموت على ضريحه، كتب فوق الرخام بخط عربي: هنا يرقد الشاعر محمد حمزة غنايم ...
في شهر الحب حيث يحلو للعشاق تفعيل القبلات والعناق ، قالت لنا السماء خذوا ما طلبتم من شمس وتلقفوا وردة من سماء علقت فوق بيوتكم،خذوا ما تمنيتم من نجمات ليلكم الطويل، وعلقوا غسيلكم على حبال غسيلكم قبل ان تهرب شمس الأصيل...
خدوا قصائده ودواوينه التي عبرت يونيو وبعضا من يوليو، خذوا تموز ولوز بيارته الصامدة، خذوا ملابسه التي تركها في الخزانة،معلقة على صليب الفدائي الأول،وفتشوا جيوب سترته فقد تجدون بعض السكاكر المخبأة للأطفال، وأقلام رصاص وورقات بيضاء لكتابة نهج المكابرة.
رحل الشاعر قبل ان يكشف لنا أسراره، لم يقم بحركات جديدة ولا بتنويعات مستجدة، فقد كانت كتاباته بقديمها جديدة، تجعل شعر البدن يقف احتراما لأبيات القصيدة، وتجبر السنابل على الانحناء للفراشات العابرات من باقته الى باقتنا...
ترى كم من محمد حمزة يوجد الآن في باقة التي ضمت شاعرها بباقة حب وورد ؟ وكم من طفل سيحمل اسم محمد حمزة، ثم يتعلم من الأصل كيف ينفخ في الروح لهب القصيدة؟ هم أقرانك يا صديقي سوف يرفعون الشعر بصوتك، ويقرأون أبياتا جديدة بصوت صوتك... ترى كم من بطاقة حب ستأتي من باقة محملة شعرًا من باقات عطاءاتك يا محمد ؟
كان لا ينام سوى سويعات من زمن الحطام، يصل ليالي العطاء بليالي الأحلام وإن حصل وتجاوز في راحته وقت النوم عدد الدقائق التي خصصها لنفسه بعد سهر الليالي الطويلة فوق ركام مكتبه، سرعان ما توقده قصيدة أو ترجمة قادمة من جحيم المعركة، فيترك سريره ليمضي مع أساريره على خط النار يترجم أسرار الخليقة في وطن التكوين وبدء الحقيقة، فيدخل أسفارهم ويطلع من أساطيرهم محملا بعبء التاريخ ولغة الجغرافيا المقسمة حسب الذبيحة وشرائع الأديان والقبائل وأشباه الشعوب و الأمم.. يفتش في عليق بلدته عن الغرائبي العالق في شبكة اللغة، وعن غرائب الخلق في مأساة الحياة، يدور حول الجمل المكورة كنهدين من طين الحياة و الموت، كنهدين مغمسين بالعسل البلدي، يبحث في بيت العنكبوت اللغوي فلا يجد الفواصل ولا النقاط ولا آل التعريف، يفتقد همزة الوصل، ترى أين أنت يا همزة الوصل؟ هل وصلت القاهرة بسلام ؟ وهل التقيت بنون النسوة وما سطرت في الطريق الى عمان ؟ وأنت أيتها الفتحة التي لست ككل فتحة، هل لا زالت عداوتك مع الكسرة مفتوحة للتاريخ والحاجة؟ بلغي سلامي لبغداد، للشام ولبيروت، كم كنت أود زيارة قبر صلاح الدين في المسجد الأموي ، كم كنت أحب مقابلة المنصور او الرشيد في الرصافة، و وكم كنت ارغب بالاستلقاء على رمل ذهب الخريف البيروتي ؟؟؟...
يقول صاحب صاحبه ان الشاعر علمه ما لم يكن يعلم من سر مهنة المتاعب، كان يحرص على النقد، وعلى توجيه النصائح، كان يهتم بكل صغيرة وكبيرة، لكن صاحب صاحبه الذي تنقصه خبرته وتجربته واصل تعلقه بالشدة التي ما عادت شدة ، وبالضمة التي كانت في بعض الأحيان تفتح أبوابها لضم الأحبة، فقد حافظت على ضمتها وبقيت ضامنة للرفع، رغم ان باقي الحركات لم تبق من حركاتنا سوى ما تكسر بعد اعتماده الكسرة، لقد كسرت الكسرات ظهورنا، وجعلت من الفتح سكونا،مما عجل في نوم الشاعر ، وعزز من غرائبية قصيدته...
كأنه حرف النون وقبله الميم يقولان لنا من أين لهم ذاك ؟ كيف لنا أن نرد وقد أصبح النوم الأبدي في هذه الأيام سيد الساعة، ومن علامات القيامة، فبعد القيامة ينام الذي سطر بأبيات قصيدته درب الصعود الى جبال الزلزلة...
في شهر أيار زارتنا في حديقتنا التي أصبحت حديقتنا بعد موت صديقنا وميلاده الحقيقي، فراشة بلون العتمة، حطت على شجيرة تفاح حملت للتو بضع زهيرات من فاكهة حواء وآدم، تحدثت بلغتها وعلى طريقتها مع زهيراتي،كانت تستطيب الحديث، كانت تنشد قصيدته، ترى هل عرفت قبل السفر انه الآن نائم في عالم بعيد داخل قبره الشهيد، القريب من بيته الوحيد.
قررت سؤالها عما اذا كانت جاءت إلينا بعد سفر من باقته الى مدينتنا الجديدة، وان كانت رأته ممددا على دوواين الشعر وكتب الترجمة وتاريخ وطن مصلوب باسم غيبيات النظريات الدنيوية والعقائد الدينية، وجماعات المؤرخين القدامى والجدد.
قلت :
هل رأيته يا فراشة ؟
هل أوصاك تبليغي رسالته الأخيرة ؟
أتدرين ؟
كان يرسل لي كتبا مثلما كانت عمتي ترسل لي زعترا جليلياً وقهوة عربية قد تكون عبرية، من يدري فقد اختلطوا معنا في بلادنا التي صارت بلادهم، وصرنا أقلية معلقة على حبال غسيلهم، لكن قهوة عمتي لذيذة، ذات نكهة جليلية رغم أنها مجهولة المصدر والهوية وقد لا تكون عربية، وقد لا يجوز تسميتها عبرية، و من يدري قد تكون من غير الجنسين..كانت كذلك قهوته، يصنعها في ركوة عرب، يرتشفها على ألحان وغناء مارسيل خليفة في ركوة عرب.
كان يزودني بكل ما ترجمه مركز "مدار" من كتب وتقارير ووثائق متسلسلة، وكنا نعد لمستقبل يليق بمشهده الفلسطيني " الإسرائيلي" التخصص والتوجه والدراسة والبحث، كان يؤسس لمركز أبحاث يبحث عن الحقيقة والذات في أزمنة انعدام التوازن وانكسار القوافي على أعتاب بيوت الأمم.
هل رأته هذه الفراشة الزائرة وهو يزهو بألوان الخليقة ؟ وهل قال لها ما لم يقله لنا قبل انكسار الإرادة ودخول الروح جسدا في غيبوبة الألم ؟
في شهر أيار نام صديقي الذي لا تنام ذكراه ، فقلت له وانا البعيد الذي لم يره ولو مرة واحدة، نم يا محمد ، حتى لو نمت فأنت صاحٍ فينا صحوة الحراس على أطراف مخيمنا المحاصر بالأعداء والأمل، وانت يقظ لا تغفى كأنك حارس الروح في قلعة الألم، كأنك صاحب قلعة برج الصبر وذو العين التي لا تغفو، لكنك بالرغم من هذا استسلمت في لحظة مرض فنمت يا صاحبي رغما عنك، نمت يحيط بك الصبار البلدي ، الطبيعي،صبارنا الذي لا ينسجم مع صبارهم الغريب، الغربي،لقد صدقت جدتي يوم قالت ما للشرق للشرق وما للغرب للغرب... كأن التربة يا صاحبي تميز بين القريب والغريب حتى في أنواع الصبار والقبور، فأصبر على وعدك وانتظر عودتنا لزيارة قبرك. فقد نعود في أيار مثلما كنا هجرنا الديار في أيار، وقد نعود قبله أو بعده، فلا تقلق على أحلام الأطفال الصغار وأفكارهم الطيبة، ماداموا يحلمون بفلسطين فأنت باقٍ مثلما هي باقية وجهتنا التي لا تتبدل ولا تغيرها السنين.
نم يا محمد
فأنت الصاحي
وهم النيام
وأنت الطيب
وهم اللئام...
صديقك نضال (أوسلو)
نضال حمد
تاريخ النشر : 23:49 21.07.04