أنا وأنتِ وسان فرانسيسكو ..

نـاصر ثـابت

(1)
اليومَ ارتكبتُ خطأً كبيراً جداً
عندما زرتُ سان فرانسيسكو وحيداً
أخذتُ شارعَ "فانيس" نزولاً
واتجهتُ إلى رصيف الصادين
"الفيشار مانز وورف"
تمشيتُ هناك لا ألوي على شيء..
الساعة في يدي أشارتْ إلى الخامسةِ مساءً
قفلتُ عائداً
باتجاه "البرودوي"...
شارعِ الملذات
ومررتُ بقرب مطعمِ الثوم الشهير
وتذكرتُ يومَ التقينا مع الأصدقاء هناك
ثم تابعتُ المسيرَ باتجاه "الإمباركاديرو"
لكنني لم أصله
فرأيتُ إحدى المومساتِ شبهَ عارية
وقد رسمتْ على ظهرها نجمة داوود
نظرتُ إلى ماءِ المحيطِ الذي يجلبُ الرياح
فرأيته هادئاً
على غير عادته..
ربما لأنك (يا حبيبتي) لستِ معي...
ورأيتُ الجسرَ الكبير
جسر الخليج "الباي بريدج"
خجولاً يختبئ بين الضباب...
فاتجهتُ إلى أعلى التلة الشاهقة
كانت الطريقُ كأنها جدارٌ مدهونٌ بالشيكولا
تسلقتُها
وتذكرتُ يومَ كنتِ معي
وأخذنا نصعد هذه الطرق شديدة الانحدار
وأنت ترتجفين من البرد وليس من الخوف
فدثرتكِ بمعطفي...
وحملتُ يدكِ على كتفي
وأنتِ تحدثينني عن يومكِ الأول في أمريكا
يوم حملتكِ في عناقٍ طويل لأنني كنت بانتظارك
وكنتُ مشتاقاً لك كثيرا..
واليومَ ها نحنُ نفترق
مثلما توقعنا في أول يوم التقينا فيه
هل تذكرين؟
لا اعتقد...
لكنني أذكرُ تلك القشعريرةَ الخفيفة
التي هزتْ جسدكِ عندما قلتُ لك أحبك
أولَ مرة..
كانت رائعةً
لماذا لا يستطيع الإنسانُ
أن يقول "أول مرة"
إلا عن مرة واحدة...؟
كم تمنيتُ أن تتكرر
لكن لذتها لا تسمح بذلك
مثل كل الأشياء المقدسة

(2)
اليوم اكتشفتُ أنني لستُ طاهراً
مثلما أخبرتكُ من قبل
ومثلما أقنعتُ نفسي..
لانني قمتُ بفض بكارة المدينة
مع انك أنت حبيبتي الوحيدة..
لكنك مَن علمني أن أعشقَ سان فرانسيسكو
اتجهتُ إلى شاليمار
كما كنا نفعل دائماً
فنظر الناس إليَّ هناك باستغراب
وسألتني عيونهم عنك
فجلستُ وحيدا
انتظر ذلك النادلَ غير الرقيق
الذي يجلبُ لنا الطعام الرائعَ عادةً
وقفتُ امامَه مثل طفل ضائع
وأجبته قبل أن يسأل
"لقد افترقنا"
فلم يقل لي أي شيء..

(3)
رسمتُ الطريقَ بالسيارة
وطليتها برائحة شهية من الأرز الهندي الفاخر..
حبيبتي، أنا لم أجد اليوم طبقك المفضل..
لكنني على أي حال لن ألتقيك..
ولن يكون لنا موعد اليوم
وسأعودُ لأجدك تبكين
أو على الشرفة لا تنتظرين أحدا
ولا تشربين إلا فنجان القهوة البائس..
وسأجدُ الفراشةَ نائمة..
بكيتُ
نعم
بكيتُ على قدميها
لقد أضعتُ يومي في الخارج
بين أزقة سان فرانسيسكو
وفي نفق "البرودوي"
وفي شارع تسعة عشر
وها أنا ذا أعود لاجد نفسي مشارفاً على الموت
اليومَ سأحفر لنفسي قبراً
وسأجلسُ فيه منتظراً شيئاً لا أعرف ما هو..
وسأقبّلُ ساقَ إحدى النساءِ الغريبات
حتى أثبتَ لنفسي أننا افترقنا..
وأنني أصبحتُ حراً

(4)
ربما تتعجبين أنني لم أكتب عن هذا الحدث الهام شعرا
الشعر يا حبيبتي هربَ مني
عندما اتفقنا على الفراق
ولم أعد اتذكر أوزانَ البحور
ولا موسيقى بحر الكامل
الذي كتبتُ لك باستخدامه كثيرا..
حتى القوافي
والأفكار
والضروب والأعاريض
لم تعد تستجيب لي
ولم يعد هنالك متسعٌ من الوقت
لكي أقول شعراً مرة أخرى
فمثلما لن أراك مرة اخرى،
لن يكون بإمكاني أن أكتب
أعدك أن احاول ترجمة هذا الكلام إلى شعر
وإن استطعتُ
فسأعتبر نفسي فاشلاً في الفراق
مثلما أنا فاشلٌ في الحب...
لكن لا يوجد أية بوادر لا لهذا
ولا لذاك...

(5)
أنظرُ إلى صفحة السماء،
فأجدُ الطائراتِ على شكل نقاطٍ من الضوء..
دائماً كنا نجلسُ معاً ونبدأ بعدِّ هذه النقاط
ونكرر ذلك حتى تلتقي عيوننا
وندخلَ في عناقٍ حار
يحكي قصة حب عمرها أكثر من تسع سنوات

(6)
اليوم افترقنا كما كنا نتوقع
وكما لم يتوقع الذين كانوا يروننا معا
وانا اكتشفتُ ان الحب لا يلتقي مع الأحلام
إنما يصنعها
ثم يخذلها..

(7)
الآن سأجلبُ لنفسي السعادة
وسوف أكررُ القسَم الذي قرأناه معا
أمام الله
في الصخرةِ المشرفة
قبل أكثر من تسع سنوات
ولم يكن يشهدُ علينا إلا رشيد
صديق عمري الذي رحل
ونستطيعُ اليوم أن نخونه كما يحلو لنا
فهو في مكان لا يوجد فيه أي ألم أو غضب
حتى الأحاسيس والعواطف المؤلمة..
غير موجودة هناك
ولن يغضب منا إن افترقنا..

(8)
عدتُ إلى "بيلمونت"
متخذا الشارع رقم مئة وواحد جنوبا
رأيتُ على جانب الطريق حادث سير
علمتُ أن سرعة السائق الذي تحطم دماغه
لم تتجاوز السبعين ميلا في الساعة
وأنا الآن أقود سيارتي بسرعة مئة ميل
وقلبي محطم إلى فتات
السيارة لا تستجيب لأوامري
أضغط الفرامل..
فتزداد السرعة أكثر
أحرك المقود باتجاه اليمين
فلا يتغير مسارها..
يبدو أنني نسيتُ قوانين السير
ولم أعد أتذكر كيف يعشق الإنسان
أو يمارس الحب
كانت سان فرانسيسكو اليوم كئيبة
أظن أنها حزينةٌ لفراقنا...
وعندما حلَّ الظلام على الدروب والطرقات
واختفت وجوه الناس خلف ستائر سوداء..
أحسستُ بقلبي يتوقف عن النبض...
فجلستُ على مقعدٍ لم نجلس عليه معا
وأخذتُ أتهربُ من عيون الناس
الذين اعتادوا أن يروك معي..
في هذه اللحظة
بكيتُ وقلتُ لهم
لقد افترقنا...

ناصر ثابت / كاليفورنيا - 5 حزيران، 2005
  • موقع الشاعر على شبكة الإنترنت nasserthabet.com