قصة قصيرة
لماذا يا "مرجانة" ؟

بقلم الكاتبة : نجلاء محمود محرم ـ مصر

يقولون إن "مرجانة" حين سكبت الزيت المغلى فى القدور.. قتلت أربعين حراميا !
لكننى ـ بقليل من التفكير ـ اكتشفت أن "مرجانة" كاذبة !
واكتشفت أنها أرادت أن توهم سيدها ـ "على بابا" ـ بمهارتها ودهائها.. وأظن أنها أقنعته بأن يستخدم هذا الحدث.. الذى لم يحدث.. ليقنع الناس بقوته وقدرته !

***

فى تلك الليلة..
حين اكتشفَتْ "مرجانة" اختباء اللصوص داخل القدور..
تَسَحَّبَتْ.. وفتحت القدر الأول.. وسكبت بعضا من الزيت المغلى..
حتى هذا الحد "مرجانة" صادقة..
لكن مالم تبح به أبدا.. هو صراخ الحرامى الذى سقط الزيت المغلى فوق رأسه فسلخها..
ومالم تبح به أيضا.. هو اندفاع تسعة وثلاثون حراميًا من باقى القدور..
قفزوا..
جروا..
هربوا من قصر "على بابا"..
تسربوا إلى حارات بغداد وأزقتها..
وتسللوا إلى دروب التاريخ المنسية..
وعاشوا !
وبين الحين والحين.. كان أحدهم يفتح دفتى كتاب التاريخ..
ويخرج فى هدوء..
يقطع مسافاتٍ..
ويطوى بلادا..
يندس هنا أوهناك..
ويحكى حكاية..

***

حكى مساعدُ تاجرِ الحريرِ لسيدِه.. كيف تعرض أهله للاضطهاد والذل.. على أيدى الجبابرة الطغاة..
أهله..
الطيبون..
الضعفاء..
عزوته.. وناسه..
الأعمام والأخوال..
الأنسباء والأصدقاء..
سنده وملاذه..
وصَدَّقَه التاجرُ.. وأشفق عليه.. وضمه إلى كنفه..
وابتسم المساعدُ فى ضميره !

***

كان كتاب التاريخ حصنا حصينا..
يحتمون به..
يعيشون بداخله دون أن يدرى الآخرون..
والآخرون.. يظنون كتابَ التاريخِ مقبرة !
لا يدخلها إلا الميتون..
فلا يحسبون لهم حسابا..
وهل يُحْسَبُ حساب للموتى ؟

***

ويَمُدُّ أحدهم قدمَه..
يخرج من المقبرة التى نظنها..
ويهدى الشيخ مسبحة "يُسْر"..
"لاشئ كثير عليك يا مولانا"
"خذها.. من رائحة جدى المسكين.. الذى بنى للجبابرة قصورهم ومعابدهم.. فطاردوه.. وأغرقوه.. وشتتونا.."
ويرق الشيخ..
يصعد للمئذنة بقلب ممزق.. نازف..

***
أتصدقون ؟
أصبحت سلالتهم.. من خارج دفتى كتاب التاريخ..
تدخل إليه !
إلى المقبرة التى نظنها..
وتكتب.. وتكتب.. وتكتب..
وتتغير ملامح التاريخ..
ويتضاعف عدد ضحايا "مرجانة"..
يدخلون.. حين يحتاجون..
ويخرجون.. ليعودوا إلى حيث اختاروا أن يكونوا !

***

خادمة القس..
اعتادت أن تدخل وتخرج..
ولا تنسى قبل أن تخرج.. أن تضع على وجهها ملامحها الكسيرة الذليلة..
"الجبابرة.. مدوا أيديهم الحارقة بالنار.. ساح جلد جدى وعظامه ولحمه.. وحين قسَّمُوا الناس إلى درجات.. وضعوه فى القاع.. مسكين جدى.. ظنهم أهله.. مد يده إليهم بالخير.. ومدوا أيديهم ودسوه فى فرن يتأجج.. آه يا جدى"
قلبها يرقص..
لقد صدقها القس !
وغاب عن ذاكرته أن جدها ـ هذا المحروق زورًا ـ هو نفسه الذى وشى بجده النبيل.. وأسلمه للجلاد ليقتله.. وتاج الشوك على رأسه !

***
الناس فى المدينة يطاردون الناس..
"هؤلاء هم الذين حرّقوهم"
"أمسكوهم"
"أدركوهم"
"عذبوهم"
الكل صار معرضا للمطاردة..
للاتهام..
آهٍ يا"مرجانة"..
أكان من الضرورى أن تكذبى تلك الكذبة ؟
ويالسوء حظك يا "على بابا" !
أحببت أن تكون بطلا..
رضيتَ أن تنسب إليك فِعْلَة ليست لك..
فَرَضِىَ التاريخ أن يلصق بك مساوئ ليست منك..

***

الناس فى المدينة..
تعاطفوا..
وأشفقوا..
وتلوَّعَت قلوبهم هلعا على (ضحاياكِ) يا مرجانة..
وبقيت صامتة.. خرساء..
وهم يحتلون القلوب المخدوعة..
يتسولون دارا.. وأرضا.. وحماية.. وأمنا..
آهٍ يا "مرجانة"..
أكان لزاما عليكِ أن تصمتى.. حتى تسرق كذبتك عشى ؟
وتبعثرنى ؟
وتشتتنى ؟
وتحتل فراخ (ضحاياكِ) المزعومين بيتى ؟


نجلاء محمود محرم ـ مصر