مـحمد رمضـان

هـويتـي
بقلم : محمد رمضان


قبل بزوغ الشمس, حمل فأسه على كتفه, وضع يده في جيبه, اطمأن انه يحمل "مصحفه" حيث اعتاد أن يقرأ بعض الآيات عقب أدائه صلاة الظهر في مزرعة الزيتون ......
تداعبه نسمات غربية تهب من جهة البحر الذي يطل على القرية بعينيه,
تتقاطر على رأسه جواهر الندى الخجولة,
تنساب على صفحة جبينه الرقراق,
يحس ببردها سلاما في القلب و روحه,
تسير عجلات الندى ببطء جميل متراقصة على شعيرات رمادية تزين لوحة وجهه الصبوح
تتمايل كإبل الصحراء تحمل على كاهلها سنين الوهن, لكن بقوة و عنفوان, و هاهو اليوم يكاد يودع ثمانين ربيعا قضاها بين زيتوناته, يربيها كأعز و أغلى أبنائه ....

هاهو يسير كغزالة تبحث عن وليدها المفقود, يحني ظهره حينا, يلتقط عودا من حطب, أو مسمارا تائها ... فكل ذلك ينفع وقت الحاجة... يضع المسامير و الأسلاك في جيبه, يسير... يتذكر رؤياه قبل أسبوعين أو حولهما, يوم رأى الشهيد أسامة في منامه - الشاب العابد الرقيق , رآه يسبح في أنهار الجنة و يطير على أشجارها.....
-     شهران فقط هما الباقيان على موعد قطف الزيتون و عصره ...
-     ترى هل ستكون الأسعار هذا العام متردية كما كانت في الأعوام السابقة ؟؟
-     هل سأعيش لأدرك موسم هذا العام؟؟

أزيز الرصاص يأتي متقطعا من جهة "المغتصبة", ينحرف "الحاج" إلى يمين الشارع, يتوارى بجذع زيتونة أخيه المرحوم و التي زاد عمرها عن مئة عام, زرعها أبوهما قبل أن تخلق "دنيا هذه الأيام" ....
بينما هو في ذكرياته... يصل ابن أخيه صاحب الزيتونة و يسلم عليه, أحس أن في الأمر شئ, حاول أن يخفي عن ابن أخيه أحاسيسه و مشاعره ... تذكر رؤياه.... قال مبتسما :
-     "الله يطرح لك البركة" في هذه الزيتونة....
-     لقد طرحت في العام الماضي خمس عشرة تنكة زيت و هي على "حطة إيدك" لم نبع منها و لو بدرهم واحد..
-     كان الله في العون, إن شاء الله البركة تيجي هاي السنة...
-     و الله يا عمي الحاج شكلها ما بدها تتحسن ها الدنيا..
-     إحنا ما علينا إلا نعمل و الباقي على الله...و اللي بتنزله السما بتتلقاه الأرض.....
-     إنها الشجرة المباركة ....
-     "لا شرقية و لا غربية"
-     "يكاد زيتها يضئ"
و بينما هما يتجاذبان أطراف الحديث ريثما يهدأ أزيز الرصاص الهادر حولهم, كانت أوراق الزيتون المعبقة بالندى تتساقط على رؤوسهم و ملابسهم, حبات زيتون جميلة استحمت بماء الندى تضرب رؤوسهم, يمسك الحاج واحدة منها, يشمها, يقبلها, يضعها في جيبه مع مسامير و غيرها كان يجمعها في طريقه... حبات أخرى تتقافز حولهم يجمعون بعضها و يتركون تلك الشقية التي تتصرف كطفلة رشيقة تنط الحبل بساح الدار أو بالقرب من الباب..

و يتذكر الحاج حفيدته التي كان ينهرها و هي تلعب بالحبل و ترقص لاهية عابثة, طالبا منها أن تأتي معه لتجمع ما تساقط من زيتون قبل موعد "الجد" .....

لم يهدأ أزيز الرصاص, و بينما هما كذلك, فوجئا بجنود الاحتلال و قطعان المغتصبين يضربون عليهما طوقا شديدا و يطلقون الرصاص من كل حدب و صوب, و يصرخون عليهما :
-     "هوية.... هوية...."
لم يتعود الرجلان على حمل هويتهما الشخصية
زادت الصرخات و اقترب الجنود و تعالى صوت الرصاص
-     "هوية.... هوية...."
وضع الحاج يده في جيبه, ليس فيها إلا المسامير و الأسلاك و بضعة من حبات الزيتون....أخرج حبات زيتون من جيبه وقال :
-     هذه هويتي.....
-     صرخ المغتصبون بغضب.... "بنكول .. هوية" بلكنة غريبة دخيلة..
-     نظر اليهم الحاج و حبات الزيتون بيده
-     "أقول.... هذه هويتي"
وضع يده اليمنى في جيبه و أخرج "المصحف" و قال :
- هذه أيضا هويتي....
لم يتمالك المغتصبون أنفسهم ....
إنهالوا على الرجلين بزخات الرصاص....
سال دمهما في كل مكان....
روى دمهما الطاهر زيتونة عمرها مائة عام و أكثر......
و زخرف دمهما غلاف "مصحف" كريم......
رسم الدم لفظ الجلالة "الله" على الغلاف.......

محمد رمضان ـ فلسطين
تاريخ النشر : 20:00 24.08.04