مـحمد رمضـان

حركة حماس و رؤى استراتيجية :
حرمة الدم الفلسطيني (1)
بقلم : محمد رمضان


في كل يوم يمر و مع كل حدث يمس القضية الفلسطينية تثبت حركة حماس التزامها و بما لا يدع مجالا للريبة أنها تسير وفق رؤى استراتيجية واضحة المعالم و الأطر و الأهداف و ذلك قبل و بعد استشهاد قائدها و مؤسسها الشيخ الشهيد أحمد ياسين, و خليفته القائد الرباني الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي. أهم هذه الرؤى هي حرمة الدم الفلسطيني.

مرت العلاقة بين حركة حماس و حركة فتح و بعد ذلك السلطة الفلسطينية بمراحل متعددة من المد و الجزر و ذلك ربما قبل أن تأخذ حركة حماس هذا الاسم, أي قبل الانتفاضة الأولى في عام 1987. و هي الأحداث الموثقة في أكثر من نشرة من أدبيات الحركة و لعل أهمها ما جاء في شهادة مؤسس الحركة على العصر و التي بثتها قناة الجزيرة قبل عدة سنوات و أعادت بث أجزاء منها عقب استشهاده.

ومن خلال ميثاق الحركة الذي صدر في بدايات الانتفاضة الأولى رسخت الحركة و جذرت مفاهيم العمل الوطني و التعامل مع كافة الفصائل الفلسطينية و خصوصا فصيل فتح و اعتبرت الحركة أن هؤلاء هم الأخ و الأب و الابن و الصديق و بالتالي فانه لا يجوز بأي حال من الأحوال استخدام السلاح سواء في فض المنازعات أو الخلافات السياسية و لجأت الحركة إلى عقد مواثيق شرف عديدة مع مجمل الحركات الوطنية و ذلك حقناً للدم الفلسطيني و حفاظاً عليه و من أجل توجيه كافة الجهود و الموارد صوب عدو حاقد يتربص بالشعب كافة الفرص من أجل الإيقاع به في أتون حرب أهلية لا تبقي و لا تذر.

و لقد كشفت كثير من التصريحات السياسية و الصحفية الصهيونية أن الهدف الأكبر من اتفاقيات أوسلو و ما تلاها من اتفاقيات سياسية فرعية إنما كان يهدف أول ما يهدف إلى محاولة ضرب الفصائل الفلسطينية ببعضها البعض.

و لقد كانت خارطة الطريق من أحد أهم الخطط الأمريكية لضرب المقاومة الفلسطينية ممثلة في حركتي حماس و الجهاد الإسلامي و فصائل أخرى تتخذ من المقاومة المسلحة منهجا و طريقا.

و يوم تم اعتقال الكثير من قيادات و نشطاء الحركة في بدايات السلطة كنوع من إرضاء الصهاينة, كان ذلك و بكل المقاييس ضربة عنيفة للحركة, و لقد ساموا قادتها سوء العذاب, و لعل اعتقال القائد الشهيد إبراهيم المقادمة و تعذيبه بطريقة وحشية و كي صدره بالمكواة الكهربائية و حلق لحية الدكتور محمود الزهار و غيرهم من القادة و النشطاء المخلصين, كل ذلك كان يعتبر مؤشرا صريحا على النية المبيتة لإشعال حرب أهلية, من خلال تطبيق الاتفاقيات و ايقاع حركة حماس في فخ الحرب الأهلية و من ثم تحميلها المسئولية التاريخية.

و لقد استطاعت الحركة بصبر قادتها و تحملهم و حكمتهم أن تتجاوز هذه المحنة المُرَّة و الفترة الكئيبة التي كلفتها الكثير من ضياع الجهد و الوقت و الصحة حيث خرج الكثير من المعتقلات و قد تأثرت صحتهم و كذلك قدرتهم على العطاء و مواصلة العمل كما كان قبل فترة الاعتقال.

و ضمدت الحركة جراحها بنفسها من أجل صيانة المجتمع و حمايته من حرب تأكل الأخضر و اليابس و لا ترحم طفلا و لا شيخا و لا امرأة, خصوصا أن المراهنات الصهيونية كانت تقوم على أن معظم القادمين مع السلطة الفلسطينية كانت لديهم الخبرة في الحرب الأهلية و حروب الشوارع في لبنان و الأردن, و بالتالي فان لدى السلطة القدرة على إدارة هذه الحرب و لسان حال الصهاينة يقول نحن معكم قلبا و قالبا و إن أردتم المساعدة فلدينا جاهزية عالية.

و لقد اجتاز المجتمع الفلسطيني هذه المحنة بنجاح منقطع النظير, و ذلك مقابل تضحيات صعبة و قاسية من قبل قادة و نشطاء في الحركة, و كان ذلك بفضل وعي و حكمة القادة و على رأسهم الشهيد المؤسس رحمه الله تعالى و الذي قاد المواجهة السياسية مع السلطة بكل صلابة و دونما تنازل عن ثوابت الحركة الأصيلة المنطلقة من إيمان راسخ أن كل المسلم على المسلم حرام.

أما الحدث الثاني و الذي أثبت بقوة انحياز الحركة إلى خط الحفاظ على الدم الفلسطيني فهي أحداث غزة الأخيرة, حيث فاجأت الحركة العديد من المراقبين للوضع الفلسطيني بتصريحاتها الصحفية و بياناتها سواء تلك الصادرة من الداخل أو الخارج, حيث أعلن كل من رئيس المكتب السياسي خالد مشعل و الناطق باسم الحركة في غزة سامي أبو زهري أن الحركة ليست مع استخدام السلاح لفض الخلافات أو الدعوة إلى الإصلاح إذ أن هناك العديد من الطرق و الوسائل الممكنة للوصول إلى هذا الهدف.

و لو كانت الحركة حركة ذات مصالح سياسية آنية و عاجلة لوجدت أن هذه هي فرصتها في إشعال فتيل النار داخل فتح أو السلطة, لكنها و برؤيتها الاستراتيجية وقفت موقفا رائعا و بما يمليه عليها حسها الوطني و الديني و الإقليمي, فهي ليست الحركة المحدودة جغرافيا بل لها امتدادها في المنطقة العربية و الإسلامية, ولو وقفت الحركة موقفا غير هذا لأدى ذلك إلى كثير من الشكوك حول مصداقيتها الوطنية و الدينية و القومية في منطقة هشة تعج بفائض من التيارات ذات الاتجاهات المختلفة.

و لئن كانت بعض التقارير الصحفية قد أفادت أن هناك حلفا أو تحالفا نشأ بين فتح و حماس وأن السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي قد اتصل بالعديد من قادة فتح و مسئولي السلطة الفلسطينية و على رأسهم الرئيس ياسر عرفات و السيد هاني الحسن و غيرهم, فان هذا يدل على نضج ووعي في التعامل مع القضايا الخطيرة و ذات الطابع الاستراتيجي و على رأسها الوحدة الوطنية و حرمة الدم الفلسطيني, و هو الأمر الذي يجب أن يكون درسا و عبرة لكافة الفصائل الفلسطينية سواء تلك المنضوية تحت منظمة التحرير أو التي لا تزال خارجها.

ولأن الشيء بالشيء يذكر فلا بد من تسجيل مواقف رائعة و مسئولة لمسئولين فلسطينيين رفضوا الإذعان لمطالب صهيونية و أمريكية و ذلك بالقضاء على المقاومة حسب خارطة الطريق و على رأسهم الرئيس عرفات و أبو مازن و رفضوا تكرار مسلسل الاعتقالات و المداهمات و مصادرة الأجهزة و الحواسيب من المؤسسات التابعة للمقاومة كما حدث قبل سنوات, حيث سعى أبو مازن إلى عقد هدنة, و ساعدت الشقيقة مصر في جهود مشكورة في هذا الاتجاه.

و لعل هذا الموقف في الأحداث الأخيرة في غزة إنما يعطي بعض الإيحاءات حول استمرار الحركة في السير على نهج قائدها و مؤسسها الشهيد الراحل. و هو الأمر الذي ارتاح له الكثيرون من المراقبين للشأن الفلسطيني مما أدى إلى اطمئنان الشارع الفلسطيني حول استحالة نشوب حرب أهلية كما تود بعض الأطراف. و اليوم هاهم الصهاينة يئنون تحت ضربات المقاومة و يصرخون للرحيل من غزة, و يعترفون أن ضربات المقاومة في غزة أكثر من قاسية كما يقر بذلك قادة عسكريون منهم.

محمد رمضان ـ فلسطين

تاريخ النشر : 20:26 16.08.04