في حضن أبيها
بقلم : محمد رمضان


بينما كان القمر يسكب أنواره في بيوت المخيم فيتسرب إليها هادئا من نوافذها و شقوق جدرانها و مما تكسر من اسبستها, و من خلال أبوابها المصنوعة من صفيح مهترئ, فيملأها عذوبة و صفاءا, و ذلك برغم كل ما في جنباتها من شقاء... هاهي حنان تحل واجباتها المدرسية, تحضر دروس الغد, ترتب كتبها و دفاترها و ملابسها, تستعد لصبح مدرسي جميل, تصلي العشاء وأمها جماعة, أبوها يدخل البيت بعد أداء صلاة العشاء, تجري نحوه كعادتها كل ليلة منذ خروجه من السجن, و كعصفورة صغيرة تقبله, تتسلق على صدره الحاني, يحملها في قلبه و بين الضلوع, يطوف بها أنحاء البيت الصغير, يرسم على صفحات خديها أجمل اللوحات من أروع القبل, فكم كان مشتاقا إليها و هو يتنقل في غياهب باستيلات بني صهيون, كم كانت تزوره في أحلامه و رؤاه, و تبادله هي خرابيش الأطفال و رسوماتهم السريالية على وجنتيه, و قد غدا شعر ذقنه ينغرس في وجنتيها شوكا لذيذا, و كم كانت سعادتها و هي تداعب هذه الأشواك الجميلة براحتيها الورديتين حيث يزداد لون الورد فيهما نضرة و حسنا كلما داعبته أكثر....

من بعيد تأتي أصوات هادرة تقتحم البيت بلا استئذان لتكون ضيفا غير مرغوب فيه, تتسرب بين ثنايا فراش حنان و تتمترس على وسادتها الجميلة, أصوات قبيحة تخلع النوم من العيون, و تطرد الراحة من الأبدان, و تقتل الهدوء في الآذان, فلا يسمع الإنسان سوى حديد يُجر على الإسفلت جرا. تتقلب حنان في فراشها, يهرب النوم من جسدها الرقيق, تتشتت أفكارها في غير مكان و غير زمان, كما الريح العاصفة تطارد حبات الرمل الذهبية في صحراء شاسعة,
-   أهي دبابات الاحتلال قادمة لاعتقال والدها الذي لم يمض على خروجه من السجن سوى أسابيع قليلة؟؟
-   أم هم هنا في نزهة ثقيلة كما يفعلون أحيانا في استعراض للحديد الأمريكي فوق ثرى مخيمنا؟
-   أتقوم من فراشها لتدرس دروسها للتخلص من هذا الكابوس؟ لكن هيهات أن يصد هذه الأصوات شيء !!!

تخشى إن هي أضاءت غرفتها أن يتسرب بعض ضوء إلى الخارج من عشرات الشقوق التي تملأ النافذة الخشبية, أو من فراغات كثيرة في سقف غدا كالغربال, فيرى الجنود الهائجون الضوء, فيتوجهون إلى البيت و يوسعون أهله ضربا و عذابا لا يطيقونه كما اعتادوا أن يفعلوا مع كثيرين من أهل المخيم ...

تقترب الأصوات الكريهة المقيتة, أصوات عبرية غريبة عن هذه الأرض تملأ المكان و تلوث فضاءات المخيم, رائحة نتنة تفوح من أجساد دخيلة, ضجيج بساطيرهم يكاد يخرق الأرض, يبدو أن بعضهم صار يمشي مترجلا في أزقة المخيم, تقرأ كل ما تحفظه من كتاب الله, سمعت جدتها يوما تقرأ آية الكرسي حينما تدلهم الخطوب, هاهي تقرأها, و تدعو:
-   يا رب أبعدهم عنا, أحبك يا أبي, اللهم احفظ أبي,
-   لم أشبع منه بعد يا رب, أمضى عشرة أعوام في السجن, من قبل أن أولد بأيام, الهي... الهي.... و تنهمر دموعها و تعرف أن أباها و أمها يسمعان كل ما يجري, تخجل أن تذهب إلى حضن أبيها للتدثر في كنفه و الذوبان بين ذراعيه في هذا الليل الطويل الطويل....
-   الهي احفظ أبى و أمي و جيراني, احفظنا كلنا يا رب من هؤلاء الأوغاد..... ماذا يريدون منا؟؟

تتذكر المرات العديدة التي زارت فيها أباها في السجن, كيف كانت تدخل أصابعها من الشبك الحديدي لزنزانته, كيف قبَّل أبوها أصابعها و عضها واحدا واحدا !! و كيف كانت تخرج إصبعا و تدخل الآخر لتنهمر دموع أبيها على وجنتيه, و تداري أمها أمواجا من دموعها المخزونة خلف ابتسامة ظاهرة من قلب مكبوت منحوت, و كيف بكت هي في زيارة لاحقة حينما وجدت أن الشبك الحديدي قد تم استبداله بزجاج مُصفَّح, قبَّلت خد أبيها من وراء الزجاج ألف مرة و قبل أبوها خديها آلاف المرات, و كيف كانت دموعهما تسيل على الزجاج من الداخل و الخارج... و لا تزال تذكر يوم قالت له:
-   سنرى دموع من تسبق هذه المرة: دموعي أم دموعك؟؟
فيضحك أبوها بهذا الشقاء و التفتح الباكر, لكن و بعد ثوان تضيق كل الدنيا بأبيها, و يغمض جفنيه و تتلاشى شموس عينيه وراء غيوم من دمع.. حتى صرخ السجان بلكنته اللعينة الوقحة :
-   انتهى وقت الزيارة
هنا يفتح أبوها عينيه, فترسل غيومهما الدمع من بحرهما مدرارا..... هكذا تسقط الكلمات على سمعه و سمعها و سمع أمها كما الصاعقة, يفرقون بين قلوب يكبر فيها الحب و يتعاظم, وان من وراء أسوارهم الخبيثة المجرمة...

توقظها من ذكرياتها المحزونة, هذه الأصوات اللعينة التي تقتحم هدوء الليل الجميل, و تفض سكونه القمري, هم يقتلون الحب و النسائم و الندى في الليل, حتى النجوم شرعت تبتعد عن هذا المشهد فغارت بعيدا في السماء, طرقٌ شديدٌ على الباب, تقفز حنان كالمجنونة من فراشها, تصرخ, تخرج من باب غرفتها, جنود مدججون بالسلاح يملئون ساحة البيت الصغيرة, يقفون في كل جانب, يطلق أحدهم النار, تقع حنان على الأرض خوفا و رعبا من زخات نار صالية,
أبوها مصلوب على الجدار و يداه مرفوعتان إلى أعلى, تماما هو المشهد المروِّع لعراقي مصلوب في سجن "أبو غريب".... تعود ذاكرتها الغضة الطرية لمشاهد مقززة عُرضت قبل أسابيع في تلفاز الجزيرة تفضح تعذيب المجاهدين في العراق, هو هو , نفس المشهد, هم هم , لا يختلفون.... هنا و هناك المشهد واحد... و القيد واحد... و السجان واحد... و العذاب واحد...

عيناها تتجهان نحو أبيها المزروع إلى الجدار كأشجار النخيل صامدا صامتا, هاهم قد ربطوا يديه و قدميه و عنقه بالسلاسل, وضعوا كيسا أسود في رأسه, ربطوا الكيس حول عنقه, قفزت من مكانها, تعلقت بعنق أبيها و طفقت تصرخ:
-   أبي... أبي .... حبيبي ...إلى أين يأخذونك يا أبي....أخرجوا... أخرجوا..... من بيتنا.... أريد أن أعيش في حضن أبي.....

و تزرع نفسها في حضنه كما الزيتون و اللوز و البرتقال في حضن الأرض بل في رحمها, و تتشبث بجسده ..... و تغرس جذورها في قلبه, تقبله من فوق الكيس كريه الرائحة و تبكي, و تختلط دموعها بدموع أبيها المتسربة من الكيس النتن كروائحهم الطافحة, يحاول أبوها أن يحرك يديه ليلمسها, يودعها, يطيب خاطرها.... و لكن......

يتقدم نحوها جندي حاقد, قد نُزعت كل الرحمة من سويداء قلبه... يشدها شدا... تزداد هي تشبثا بأشجار أبيها, يشدها مرة أخرى بهمجية لا تخطر على قلب بشر..... تتمسمر يداها و رجلاها حول جدار أبيها, تشبِّك كفيها حول عنقه, و تأبى الفكاك من حضنه....من حصنه.... من جسده ... من عنقه... من قيده... من قلبه, من الكيس الأسود الجاثم فوق رأس كانت بالأمس تقبله و تداعب شيبا يزينه كخيوط القمر و قد نما قبل الأوان....
يأتي جندي آخر يساعده.... يقتلعان قلب أبيها من قلبها... كما نجار يقتلع مسمارا ..... لطمت أحدهما على وجهه و خربشت الثاني بأظفارها, يقذفان بها في ساح البيت مضرجة في دموعها, صرخت :
-   أخرجوا... أخرجوا..... من بيتنا.... من أرضنا... من بحرنا ... أريد أن أعيش في حضن أبي..... أبي ... اطمئن يا أبي... سألحق بك غدا... يا أبي.....

محمد رمضان ـ خانيونس

mohammadramadan2000@yahoo.co.uk

05.12.2004