مـحمد رمضـان

مونيكا لوينسكي على حواجز غزة
بقلم : محمد رمضان


تمثل الحواجز الصهيونية المقامة على الأرض الفلسطينية سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة أحد أهم مظاهر "العنصرية الصهيونية" المتجذرة في الفكر الصهيوني, و هي قضية هامة من الناحية الإعلامية لفضح الممارسات الصهيونية على الأرض, و لكن إعلامنا الفلسطيني و العربي كان الله في عونه, فليس لديه الوقت لمثل هذه القضايا الجانبية, حيث أن حركات و سكنات و أنفاس "الزعيم الملهم" لها الأولوية, فكان الله في عون مولانا و نصره على جيش المماليك!!!.

قبل فترة من الزمن ليست بالطويلة, قررت أن أجتاز حواجز منصوبة في الطريق الرئيسي الذي يربط شمال قطاع غزة بالجنوب, و ذلك لقضاء العديد من الأمور التي تتطلب المرور خلال هذه الحواجز الإجرامية. هذه الطريق يفتحها جندي لا يتجاوز عمره العشرين عاما متى شاء و يغلقها متى شاء و هو يجلس خلف الجدران الإسمنتية السميكة و يطل على الجمهور الغاضب من برج يزيد ارتفاعه عن عشرة من الأمتار, و تطل من نوافذه الصغيرة رشاشات أوتوماتيكية جاهزة للاستخدام في الحال و أحيانا لسبب و في معظم الأحيان بلا سبب, و إن كان ليس هناك أي مبرر على الإطلاق لاطلاق النار فضلا عن نصب الحواجز. هذا الجندي يستأسد على أطفال و شيوخ ونساء و يطلق النار أحيانا في الهواء و أحيانا أخرى على طوابير من السيارات, و تارة ثالثة على الآدميين الذين يكون قد مضى على وقوفهم ساعات طويلة تحت شمس حارقة ليستمتع ابن صهيون على هذا المنظر "الإنساني جدا" و ذلك وفق التصانيف الحضارية الحديثة و المعاصرة حسب المصطلحات الأمريكية الجديدة ك "العولمة" و "حقوق الإنسان" و الديمقراطية", أما نحن "الواقفون" على الحواجز ننتظر أن يطلق الجندي رصاصته إيذانا بفتح الطريق ف"متوحشون" و لا نمت "لإنسانيتهم" بصلة لا من قريب و لا من بعيد فهذا جنس بشري أما الآخر فهو جنس قادم من بلاد أخرى تختلف عن بلاد بني البشر من "اللي حالتهم على الله" أمثالنا طبعا. و هذا لعمري إنما هو شهادة على براءتنا و براءة أحلامنا و أطفالنا.

وقفت تحت الشمس المحرقة ساعتين أو حولها, و كان من جاء قبلي قد وقف ساعتين أو أكثر, فيكون المسكين قد أمضى أربع ساعات و نيف في انتظار الدخول و ذلك ليقطع مسافة مهما بلغت فهي لن تتجاوز على أقصى تقدير نصف ساعة يستطيع أن يجوب فيها الشريط الغزاوي شرقا و غربا و شمالا و جنوبا و ذلك في حالة رفع الحواجز أو عند زوال الاحتلال البغيض الجاثم على قلوبنا و الصدور.

أطلق الجندي رصاصته التي أصبحت "معهودة" لمرتادي الحواجز من الموظفين و طلاب الجامعات و السائقين, فانطلقت السيارات كل في اتجاهه, و بأقصى سرعة ممكنة, و هي بطيئة جدا بالطبع, و ذلك للازدحام الشديد في المكان, و الغبار المنطلق من دوران العجلات, و الذي يصنع غيمة تكاد تحجب الرؤيا و تخنق المواطنين, حيث يتدافع البشر, في كل اتجاه, و في كل حدب و صوب. فهذا يركب في سيارته, و ذاك يقفز على ظهر شاحنة تحمل حيوانات و يجلس بينها, و السيارة تحمل فوق طاقتها أضعافا مضاعفة من البشر و الآدميين, و ثالث على سطح سيارة, و رابع يفتح "دبتها" الخلفية و يجلس فيها مستمتعا بأنه سوف يقطع هذا الحاجز اللعين.

بعضهم يغني "على عيني...على دوي...أو سواح... الخ" و الآخر يسب و يشتم في اليهود لأنهم السبب, و ثالث يشتم السلطة و من فيها, و رابع يشتم الحكام العرب عن بكرة أبيهم و لا يستثني منهم أحدا و ينشد شعر مظفر النواب الشاعر العراقي المعروف, أو يقرأ أبياتا لنزار قباني يلعن فيها أنظمة عربية جائرة تحيط بنا من كل جانب, و خامس يمسك مسبحته و يسبح و يسرح في ملكوت الله, و سادس بيده مصحف و يتلو القرآن في صمت أبلغ من كل كلام الدنيا, و سابع يطلق النكت السياسية العنيفة جدا إما على نطاق محلي, أو إقليمي أو حتى عالمي ولا مجال لذكرها هنا باستثناء نكتة مونيكا, و ثامن يخرج منديلا من جيبه و يمسح عرقه المتصبب على جبينه و ينظر إلى من يجلس بجانبه يتأمله من كل اتجاه, و تاسع يشرب كوبا من الشاي أو القهوة أو العصير ربما بمتعة و ربما بدونها, كل ذلك و غيره الكثير وسط صراخ الباعة المتجولين, الذين يتجاوز عددهم العشرات, يبيعون كل ما يخطر على بالك من أطعمة و مشروبات كالحمص و الفلافل و الفول و الكباب و البطاطا المقلية طبعا و المكسرات بأنواع عدة, و تحتار أنت-أيها المواطن العزيز- أي الأصناف تختار من هذه المطاعم المتحركة و التي انتشرت في المنطقة بطريقة سريعة و معظم العاملين فيها من الأطفال الصغار الذين لا تتجاوز أعمارهم الرابعة عشر.

و لقد استمعت خلال هاتين الساعتين إلى العديد من النكت السياسية التي يطلقها الواقفون بانتظار عبور الحاجز, كان أهمها نكتة بخصوص "مونيكا لوينسكي" صاحبة الفضيحة التي ارتبطت باسم الرئيس الأمريكي السابق كلينتون. النكتة ببساطة تقول: انه كان علينا نحن (........) أن نقيم علاقة طيبة مع مونيكا لتقنع كلينتون بالضغط على اليهود ليفتحوا لنا الحواجز, فرد عليه آخر قائلا: كلينتون راح و حل محله بوش, فقال: اذن نشوف مونيكا بوش. هذه النكتة على بساطتها لا أنها تحمل فيما بين كلماتها رسائل عديدة, ليست للمستوى الفلسطيني الرسمي فقط, و إنما الرسالة الأهم هي تلك الموجهة إلى النظام الرسمي العربي ككل.

ولا ننسى أطقم التلفاز لمحطات مختلفة سواء محلية أو إقليمية أو تابعة لفضائيات عربية في معظم الأحيان و هي تصور هذه المعاناة الممتدة طوال النهار و طبيعة الحوار الذي يدور بين المواطنين و هذه الأطقم, فالبعض يقدم لهم المساعدة و البعض الآخر لا يبالي بما يجري و مجموعة ثالثة تقول بأن هؤلاء لا يقدمون و لا يؤخرون. و يتندر البعض على البعض الآخر بأن صورته سوف تظهر في التلفاز هذا المساء أو غدا, و بعضهم يسأل المراسل أو المصور عن موعد عرض هذا التقرير, و يقول شخص لزميله أو جاره, أو ربما هو لا يعرفه مازحا "والله دخلت التاريخ و صورتك راح تطلع في بي بي سي" و الجزيرة.

و لا ننسى أحد المشاهد الهامة جدا و هي مرور أحد "الشخصيات الهامة جدا" (VIP) و التي تحمل البطاقة إياها, حيث يتم التنسيق لمروره قبل ذلك حتى لا يتعطل عن مزاولة أعماله الهامة و الخطيرة و المرتبطة بقضايا استراتيجية تهم الوطن بجناحيه الطائرين و المحلقين فوق نسائم البحر الغزاوي الجميل. حيث يعبر هؤلاء الحاجز في سيارات من ذات الشبابيك السوداء, و لكن الناس يعرفون بالطبع من هي هذه الشخصية الأسطورية و الهامة. و ينظر الناس القابعين على الحواجز إلى هؤلاء نظرة احتقار و ازدراء غريبة و تدل على نمط جدي في طرق التعامل بين الحكام و الحاكمين إذا ما صح التعبير.

و مشهد آخر تراه على هذه الحواجز و هو مرور "الشخصيات الهامة بدون جدا" هذه المرة, و هذه الشخصيات لا تحظى بتنسيق أو فتح الأبواب المغلقة كسابقيهم, هؤلاء المساكين, يعرفهم الناس, لكن البعض من المواطنين لا يرحمهم فيبدأ بإلقاء كلمات من النقد الحاد و الساخر على مسامعهم فمنهم من يتضايق و منهم غير ذلك, لكنهم و للأمانة في النقل يتقبلون ذلك بصدر رحب بل يشارك بعضهم في السخرية من الوضع المأساوي الذي يعيشه القطاع و الضفة, و يفتحون نقاشات عميقة و جادة أيضا, لكننا لا نعرف إن كانوا جادين في ذلك, أو أن هذا هو مجرد حدث عابر, يتغير بتغير الظروف, و الله وحده هو الأعلم.

و بعد فلا يزال الكثير من المشاهد التي لم يتم نقلها بعد, و كذلك النكت السياسية العديدة و التي تشير في معظم الأحيان إلى انتقاد حاد للوضع بمجمله. حيث أن رحلة الذهاب و الإياب استغرقت حوالي عشر ساعات, وهي التي لا تستغرق في العادة ساعة أو ساعة و نصف على أكثر تقدير.

محمد رمضان ـ فلسطين
تاريخ النشر : 23:56 05.09.04