أصبح عندي الآن حذاء

كنت أجلس على ذات المقعد الخشبي وفي نفس الحديقة العامة لتلك المدينة الألمانية التي أصبحت مكاناً لجسد إنسان ممزق الأطراف مثلي ، إضطر على ترك نصفه الذي فيه قلبه هناك ، في وطن العروبة .
وحيدأً كنت إلا من طيف ذلك الوطن البعيد ، يرافقني كظلي حين أخذ أحدهم مكاناً على المقعد إلى جواري وراح يسألني : من أي البلاد أنت ؟ فما كان مني إلا ورددت على سائلي وبصورة عفوية ، قائلاً : أنا من وطن ما خلف الخطوط الحمراء .
لا أدري لماذا وكيف إختفت وقتها خلف نظرة متاهة وشعور حزن عميق إنتابني ، كل الإجابات التي كنت أعرفها ، لمجرد سماعي للسؤال ، وكيف نسيت عندها ، أن أقول لسائلي بأنني إبن الأرض التي خرجت منها حضارات عظيمة ، كحضارة مصر وبابل وكنعان وفينيق ، وأنني إبن تلك الأرض التي أنبتت محمد والمسيح وكل الأنبياء .
ما الذي جعلني لا أتذكر سوى تلك الخطوط الحمراء اللعينة التي أضحى وطني سجيناً لقدسيتها ؟؟
هل لأني ما زالت أحمل على كاهلي عبء ذكرى تلك السنين التي عشتها في وطن العروبة وحُرمت فيها من ممارسة حقي في الحياة كإنسان حر ، حتى وصلت بي الحال أيامها ، لأن أحسد الحمير على ما تتمتع به من حرية رفس من يمتطي ظهرها إن هو أغضبها أو أساء معاملتها وكما يفعل الحكام بأبناء وطني البعيد ؟
هل لأني مازلت أتذكر كيف كنت أسير حافي القدمين في شوارع قريتنا الضيقة ومع ذلك كنت أخشى أن تسلبني الحكومة حذائي الذي لا أملكه إن هو داس على أحد تلك الخطوط الحمراء المنتشرة في كل مكان من أرجاء وطني البعيد ؟؟
أو لأن عيون ذاكرتي ما عادت ترى من وطن العروبة سوى تلك الخطوط الحمراء اللعينة والتي تبدأ بدكتاتورية بواب العمارة وتمر بمهابة رجل الشرطة ولا تنتهي بقداسة فخامته وجلالته وسموه بل تتعداها لتصل إلى مخافة صورهم وحتى منها ، تلك المعلقة على جدران المراحيض العامة ، فهي جميعها خطوط حمراء مقدسة لا يجوز النظر إليها ولو بنظرة عرجاء من قبل هذا المواطن النصف أعمى والذي ومنذ ولادته يصبح محالاً إلى التقاعد عن التفكير في ما يجرى حوله ، فالوطن ليس سوى مكرمة من مكارم جلالته وفخامته أو سموه .
لكن ، ابشر يا وطني ، لقد أصبح عندي الآن حذاء لأدوس به على خطوطهم الحمراء ، ولو من بعيد .

احمد منصور ـ المانيا