اللـقاء الأخـير

كان علي مغادرة المكان بسرعة ، فصوت الرعد أخذ يقترب وأصبحت أسمع هديره المخيف ، وكان بودي لو أنها طلبت مني مرافقتها الى حيث تسكن ، لكنها ظلت جالسة بلا حراك كتمثال لإله روماني لا فرق بينها وبين المقعد الخشبي الذي كانت تجلس فوقه .
موجهة صوب عينيها نحو البحيرة الهائجة مياهها ، بدت وكأنها لا تكترث بالخطر القادم وأخذت ترفض كل محاولاتي المتكررة معها لترك المكان واللجوء الى آخر يكون أكثر أمناً .

كان يوماً من أيام الخريف الممطرة ، وهنا وهناك ، أوراق أشجار فارقت لتوها الحياة وصارت في مهب الريح ، يتلاعب بها ، ولا أظنها فعلت ذلك عن طيب خاطر ، ومع ذلك ، فهي وإن فقدت لونها الأخضر إلا أن هذا اللون البني المائل للصفار والذي إكتسبته الآن ، جعلها تبدو لناظري ، خلابة وفي غاية الفتـنة .

شعور بالآسى والحزن كان ينتابني وانا أرى تلك الأوراق تبتبعد أكثر فأكثر عن الشجرة الأم .. فيا لها من نهاية مفجعة ويا لها من قسوة .. فالرياح العاصفة بدت وكأنها أخذت على عاتقها ، عدم ترك أي فرصة لأوراق الأشجار أن تموت وتدفن قريباً من المكان الذي شهدت فيه طفولتها اليانعة !
ربما لا يشعر بأشياء كهذه ، من هو ليس فلسطينياً مثلي ، ينتمي إلى شعب حُكم على أفراده بالموت ومواراة أجسادهم الثرى في كل مكان من هذا الكون عدا ذلك الذي زحفوا أطفالاً فوق ترابه ، بعد أن إجتاحت ربوع ديارهم ومضاربهم ، رياح عاصفة حملت معها حثالات من البشر من كل أصقاع الأرض فنشرت الخراب في الأرجاء وحولت مقابرهم إلى زرائب بشرية وكيان من اللصوص القتلة .

ما الذي تـنـتظره من الحياة ، عجوز وصلت الى هكذا مرحلة متقدمة من العمر ، وأي آفاق ضيقة تراها في ما تبقى لها من مسافة عليها أن تقطعها ، في هذه الدنيا الفانية ؟

كان ذلك هو أول لقاء لي مع تلك العجوز التي تركت مسافة ثمانين عاماً ونيف خلفها ، بعد مرات عديدة كنت أراها وهي جالسة وسط السكون على المقعد الخشبي الوحيد ، بجوار ضفة البحيرة القريبة من مكان سكناي في مدينة هانوفر الالمانية .
لقد كان يوماً تصادف فيه وجود كل ما يمكن أن يذكر المرء بالصمت الأبدي والرحيل الى عالم المجهول على الرغم من أزيز الرياح التي كانت تعصف بالمكان من كل جانب مهددة بالدمار والهلاك لكل شيء وربما لي وللعجوز أيضاً .
لكني أعرف جيداً ، مدى الشعور بالمرارة وما يجتاح النفس من ألم ، عندما تكون محتاجاً لمن يمد اليد لإنقاذك وأنت في مأزق فلا تجد ، بل تختفي فجأة ، كل أيادي البشر وتتركك وحيداً لمصير هلاك مُنتظر ، كهذا الذي يحدث الآن لأهلي في الوطن المغتصب ، لذا قررت أن لا أتركها وحيدة في مواجهة العاصفة واتجهت صوبها وعدت أكرر محاولاتي معها من جديد على أمل أن تغادر معي مكان الخطر ، لكنها ظلت ترفض بشدة مدعية أنها على موعد مع حبيبها الذي ينتظرها بفارغ الصبر ، ولكي أصدقها أخرجت من جيب معطفها صورة لفتاة فاتـنة الجمال ، يقف إلى جوارها شاب وسيم ، أكدت على أنه زوجها الحبيب "مانـفريد" وأنها هي من يقف إلى جواره وأن اسمها "كاتريـن" ... لقد كانت صورة موغلة في القدم ، لا بد وأنها ألتقطت قبل عشرات السنين ، لكن وبرغم قدمها هذا ، إلا أنه وعندما أمعنت النظر فيها جيداً ، ظهرت لي ملامح الفتاة الفاتـنة عليها وكانت تتطابق تماماً مع ملامح العجوز التي أصبحت أعرف إسمها لأول مرة .

طلبت كاترين مني ، الجلوس الى جوارها على المقعد ، وهو ما فعلت ، وعندها راحت تسهب في الحديث عن زوجها الحبيب ، الذي عرفت من خلال حديثها عنه ، أنه ترك عالمنا ورحل إلى العالم الآخر قبل عام من الآن ، لقد راحت تقلب في صفحات دفاتر ماضيها وكنت مشدوداً لكل كلمة تنطقها ، فتيقنت لاول مرة في حياتي ، بأن هناك من الحديث ، ما يجعلك سجيناً بين نبرات من يرويه ، فلقد شعرت وقتها بأنني أصبحت أسيراً لكلمات تلك العجوز .

فجأة ظهرت على وجه كاترين إبتسامة خفيفة الظل وهي تروي لي قصة أول لقاء حدث بينها وبين زوجها الحبيب أثناء كانا تلميذين في المدرسة في زمن "كنا نلهوا ونلعب" البريء . وبعد برهة من الصمت والتفكير إنتقلت بي الى مسافة من الزمن وإلى يوم من أيام شهر نوفمبر من عام 2000 والذي تتذكر أحداثه جيداً .
إنه ذلك اليوم الذي أمسك فيه زوجها الحبيب بيدها وهو على سرير الموت يحتضر ، مردداً على مسمعها : "لا تخافي لن يرانا أحد لأن حبي لك هو حب صادق" ، وهي ذات العبارة التي سبق وأن قالها في أول لقاء حدث بينهما خارج فناء المدرسة لطمأنتها حين لاحظ أن فتاة أحلامه الفاتنة كاترين ، أخذت ترتعد من خشية أن يراهما أحد أثناء ما كانا يسيران بمحاذاة ذات البحيرة ، قريباً من المكان الذي نجلس الآن بجواره .

لقد فهمت من حديث تلك العجوز ، أن الموت قد يكون شيئاً جميلاً لمن فارقه حبيب ، وأن ذكريات الحب الصادق قد تجعلنا ننتظر بلهفة الى يوم لقاء ، وإن كان ذلك في العالم الآخر .. لقد أصبحت الآن أنظر للموت على أنه جزء ضروري من الحياة ولها .

السكون عاد يلف المكان ورحلت العاصفة وبدأت الشمس التي كانت قد سجلت حضورها لفترة وجيزة على صفحة السماء ، تتوارى خلف حدود المدى الصامت ، عندها إلتفتت كاترين إليٌ وقالت : "أظن بأن زوجي الحبيب قد أخلف هذه المرة بوعده فهو لم يأت كعادته إلى هنا ولذا سأذهب الآن لمواصلة الإنتظار في البيت" .
بكلماتها تلك حطمت كاترين لحظات السكون الجميلة التي خيمت على المكان فشعرت بالحزن العميق وخيبة الأمل ، فقد طاب لي حديثها وكنت أود لو أننا بقينا هناك لفترة أطول ، ولكنها وعدت بلقاء آخر بيننا ، ولا أدري ، ربما كان ذلك هو بالفعل ، ما كنت أنتظر سماعه منها وأتمناه ، ولم يفوتني حينها أن أكتب لها إسمي ورقم هاتفي على قصاصة من الورق دستها في جيب معطفها ، وكان عزائي أنني سوف أراها مرة أخرى . لقد راحت تبتسم وهي تلوح لي بيديها مودعة ، عندما إفترقنا ، كُلن إلي جهته .

إن الحياة مليئة بالأسرار ، إذا ما بحث الإنسان في خفاياها ولم يغلق عيون الروح والقلب في لحظات يجب عليه فتحها فيها ، للتمعن فيما حوله ، ذلك لأن ما يحيط بنا من أشياء نتجاهلها ، لهي أكثر بكثير من تلك التي إعتدنا رصد وجودها بطرف عين لا تبصر ولا تدرك وإنما ترى فقط .

لم تكن كلمات كاترين لتفارقني في تلك الليلة ولم يقطع حبال التفكير بها إلا رنين جرس الهاتف وكانت الساعة قد قاربت على منتصف الليل ... لقد كان صوتاً غير مألوف لدي ، لرجل غريب يعرف إسمي ، قدم لي نفسه على أنه الطبيب المناوب في المشفي العام للمدينة وكان الأمر يتعلق بعجوز تصارع الموت لا يعرف من هي ولم يجد في حوزتها سوى قصاصة من الورق مكتوب عليها إسمي ورقم هاتفي .
غادرت البيت فور إنتهاء المكالمة ، وكنت على يقين بأن كاترين تمر في لحظات عصيبة وهي الآن في أشد الحاجة لوجودي إلى جوارها .
لقد صرت أتذكر وأنا في الطريق إليها ، أخوة لي في فلسطين ، ممن سفكت عصابات الإجرام الصهيونية دماءهم ومنعت أحباءهم من مجرد الإمساك بأياديهم في لحظات وداعهم الأخير ، لذلك كنت أسابق الزمن حتى لا ترحل كاترين هي الأخرى دون وداع .
وحالما وصلت المشفى وجدت نفسي أتجه دون الحاجة للسؤال عن شيء ، الى هناك حيث ترقد كاترين وكأن أحداً كان يلهمني الطريق إليها .
كنت تمنيت لقائها ، وها أنا ألقاها مرة أخرى ولكن بأسرع مما توقعت وفي مكان لم أتمنى أن يكون المشفى وعلى سرير الموت .

سارعت كاترين وحال إقترابي منها بإلتقاط يدي وراحت ترتعد وهي تردد كلمات تدل على خشيتها من أن يراهما أحد فأدركت أنها تتذكر أيام "كنا نلهوا ونلعب" عندما أمسك زوجها الحبيب بيدها لأول مرة ، فما كان مني إلا ورحت أردد نفس كلماته : لا تخافي فلن يرانا أحد لأن حبي لك هو حب صادق ، حينها إرتسمت على وجهها إبتسامة ساحرة ، وبدت لي لوهلة ، وكأنها عادت لتصبح تلك الفتاة الفاتـنة ، التي كانت هي ذات يوم ... وما هي إلا لحظات وسقطت يدها من يدي وكان لها ما أرادت ، لقد رحلت إلى هناك حيث ستلتقي بزوجها الحبيب .

احمد منصور ـ المانيا