الاعترافُ البِكْرُ في التحقيق الإسرائيلي

د. فايز صلاح أبو شمالة


       
قبل عشرين سنة بالتمام، حسبت أن إلقاء معلومة صغيرة للمحقق قد ترفع عن جسدي المنهك عنيف العذاب المتواصل لأكثر من ثلاثة أسابيع دون رأفة ولا شفقة، حسبت أنني سأنجح في تقييد يدي المحققين، وقلع أظافر الوحشية من أصابعهم، قلت في نفسي: سألقي لهم بمعلومة صغيرة، ولاسيما أن الدلائل ضدي باتت كثيرة، والتهرب من الاعتراف يعتمد على الصمود الجسدي فقط، ومدى التحمل للعذاب الذي يتفنن فيه اليهود، ولهم مدارسهم الخاصة.

        حاولت أن ألبس اعترافي الأول ثوب الاقتناع بأن لا جدوى من مواصلة الصمود، وأن التعجيل في النهاية فيه راحة لكلا الطرفين، ولكن المحقق نظر بازدراء لما اعترفت به من مشاركة في عمل ضد إسرائيل، وبدل أن تنطلي عليه حيلتي، ويحيلني إلى الزنازين، في انتظار المحاكمة، تأكدت لديه شكوكه، واتهامه لي، وبات أكثر ثقة بأن مزيداً من العنف سيجلب له مزيداً من المعلومات، ومع ذلك أراد تشجيعي على مثل هكذا سلوك، فأمر الجندي أن يفك وثاقي قليلاً، ويقربني من بواقي الطعام الذي حرمني منه أياماً، وأن يقدم لي العلاج الذي منعه، ويلقي بي مقيداً مع الكيس الذي يحجب الرؤيا لمدة يومين بمثابة استجمام في ساحة التحقيق، دون سؤال، واستجواب.

        ولكنني فاجأته، وعاقبت جسدي برفضي الطعام، لقد هانت نفسي علي في تلك اللحظات أكثر مما أهانها المحققون، فلم أطق استرجاع موقف المعترف الذليل، شعرت أنني فتاةٌ غرٌ بكرٌ تغتصب عنوة وجهاراً، لازمني هذا الشعور طوال فترة الاستجمام التي منحني إياها المحقق، كانت دموع روحي تنهمر ـ لا مجال في هذه المواقف للدموع الحقيقية ـ كأنها تنبئ ببكر الحزن، وأوائل الهم، وطلائع مقت النفس التي وهنت، واستسلمت لعدوها، فهانت على صاحبها، رغم ثقتي بأن ما قدمته لا يقدم ولا يؤخر، ولا يضيف ولا ينقص، ولكنه الشعور بالخزي الذي خلف مرارة المذاق، وترك علقم الهزيمة يلوك فمي، ومن ثم الزهد في طلب نجاة الجسد، لقد مثلت تلك اللحظات اللئيمة بداية الانحراف الحاد في سلوكي الفطري مع المحققين الذين باتوا يخشون غضبي، وجنوح تفكري، وجنوني!!

        بعد سبعين يوماً من معاودة التعذيب بوحشية أشد، وقسوة لا تعرف حدود، ولاسيما مع توالي حشد الأدلة والبراهين ضدي، قلت للمحقق اليهودي، سأوقّع لك على اعتراف بأنني فعلت كل ما لديك دليل وشاهد بأنني فعلته، وصدرت على الأحكام وفق ذلك، ولكن رغم جزالة الاعتراف، وحجمه في المرة الثانية، والضرر الذي جلبه علي، ولاسيما مع تقديري لسنوات الحكم الطويلة التي ستهبط على شجر عمري،  لم تذرف روحي دموعها، فلم يبق الاعتراف الأول مجالاً للحزن، أو التحسر على النفس التي وهنت، أو محاسبة النفس، ومسائلتها، فالفجيعة الأولى لا تكرر ذاتها مرتين، وكل ما سيلي الوجع الأول أصداء، ولن ترتقي إلى رعشة القلب الأولى كل رجفة قلب فيما بعد.

        في محاولة للربط بين التجربة الشخصية والواقع أدرك أن بكر العجز العربي كان في ذلك اليوم الذي ضاعت فيه فلسطين، وما أتى على العرب بعد ذلك كان أصداء، وكان بكر الفجيعة العربية بقدراتها، ومواردها يوم زيارة الرئيس المصري أنور السادات لإسرائيل، وما تلي ذلك كان أصداء، وكان بكر الموت للحلم الفلسطيني يوم توقيع اتفاقية أوسلو، وما سيتلو ذلك من تنسيق، وترتيب أمني، واتفاق هو أصداء.

        إن كل متتبع، ومراقب لآلية تفكير اليهود، ونمط سلوكهم، يدرك أنهم يبذلون قصارى جهدهم، ويدفعون الغالي والنفيس في المرة الأولى، ولكنهم عندما يخترقون المستحيل بجزء صغير من الممكن، يبيتون واثقين، مطمئنين؛ أن الأصداء ستتردد في كل مكان دون عناء.

        السؤال: ترى كم من الزمان، وكم من المواقف البطولية الشجاعة؛ الفردية والجماعية تحتاج أمتنا العربية، كي تستعيد بكر كرامتها، وعذرية عزتها، وصفاء أنفتها وبريق كبريائها؟


د. فايز صلاح أبو شمالة
fshamala@yahoo.com

تاريخ النشر : 30/5/2005