نفيه دقاليم، ميراج، نتساريم، كفار دروم، وباقي العصابة
مغتصبات مصيرها القضم والهدم والردم والهضم

بقلم : د. فايز صلاح أبو شمالة

      سألجأ في هذا المقال إلى رأي القارئ الفلسطيني والعربي، ليحكم (إما مع أو ضد) بقاء بيوت الغاصبين (المستوطنين) في قطاع غزة بعد طردهم منها.
      إذ لم تحمل مستوطنة (نفيه دقليم) هذا الاسم من فراغ، فكلمة (نفيه) تعني في العبرية مسكن، أو واحة، أما كلمة (دقليم) فهي جمع، مفردها (دقل) بمعنى نخلة، فالمغتصبة تحمل اسم (مساكن النخيل) رغم عدم وجود أي نخلة في المغتصبة، التي تبعد عن مخيم خان يونس عشرات الأمتار، ولكن هذا الاسم يدل على مسمى صحيح، فالمكان المغتصب ملاصق لمنطقة (المواصي) على شاطئ بحر خان يونس، وتضم من النخيل الفلسطيني ما يشهد على نية اليهودي بالسرقة، ومراودة نفسه اليهودية على إثم المستقبل.
      تلك المغتصبة وباقي عصابة الاغتصاب المسمى (الاستيطان)، تحمل اسماً مسروقاً من أهله، أو أسماً بكراً أحياناً أخرى، ولكن الشطارة اليهودية في تعميم أسامٍ ينتقونها تفوق كل تصور، بحيث لا تحمل مناطق في غزة اسماً غير الاسم الذي أطلقه اليهود على المكان، ولكن قبل الاسترسال لا بد من الإشارة إلى دلالة الاسم وأهميته عند اليهود.
      من أجمل الأغاني التي يحفظها اليهود، ويرددونها، ولها طابعها الوطني والشعبي لديهم، أغنية لكل إنسان اسم، للشاعرة اليهودية الإسرائيلية (زلده)، تقول في فقرة من الأغنية التي لم تفارقها الموسيقى الداخلية والقافية حتى آخر سطر:
      لكل إنسان اسم/ أعطاه إياه الإله/ وأعطاه إياه أبوه وأمه
      لكل إنسان اسم/ أعطاه قامته/ ونمط ابتسامته/ وأعطاه نسيجه وتكوينه
      لكل إنسان اسم/ أعطته إياه الجبال/ وأعطاه إياه حائط مبكاه
      لكل إنسان اسم/ أعطاه إياه حظه/ وأعطاه إياه جيرانه.
      كلمات الأغنية تتواصل لتؤكد الرابط بين الاسم والمسمى، وحق صاحب كل اسم بالحياة والوجود، وباختصار فإن الأغنية تعكس أهمية الاسم عند اليهود، وبما يوحي به، تجلى ذلك في توسيع دلالة لفظة الاسم في اللغة العبرية، فصار بمعنى (لفظ الجلال، الله) وهذا يظهر مدى حرص اليهود على إطلاق التسمية كل شيء، بما في ذلك أعيادهم، والمناسبات التاريخية، والأماكن الجغرافية التي مروا بها، أو أقاموا فيها، ففي الزمن القديم مثلاً؛ أخذوا أسامي المدن الكنعانية التي اغتصبوها، وحفظوها، وحملوها تاريخهم، مثل يافو، وعكو، وأريحا، وعشقلون، وداجون، وفي الزمن الراهن يحرصون على تسمية الأشياء، فمثلاً، أعطوا للمعبر الواصل بين بيت حانون في الشمال والدولة العبرية أسم معبر (إيرز) والمعبر الواصل بين شرق غزة والدولة العبرية اسم (معبر كارني) وفي جنوب قطاع غزة معبر( صوفا) وأعطوا للحدود الجغرافية الفاصلة بين قطاع غزة وجمهورية مصر العربية، في رفح اسم ممر ( فيلاديلفيا) وللنقطة الفاصلة بين مخيم خان يونس والمواصي أسم حاجز (التفاح) وللموقع العسكري الذي يقطع مدينة رفح الفلسطينية عن رفح المصرية موقع (ترميت) وهكذا من أسماء تشهد وتدلل على أن اليهود متأصلون في هذه الأرض، يحفظون ذكرها وتحفظ ذكرهم من خلال التسمية، وللأسف الشديد، ننجرف نحن الفلسطينيين بالتسمية من خلفهم في أحيان كثيرة، وتتغلب تسميتهم على التسمية العربية إن وجدت، والسبب بسيط؛ أنهم يطلقون الاسم وفق دلالة معينة، يقتنعون به، ويرددونه، ويعطونه الأهمية فيصير واقعاً.
      من هنا صارت كثير من المناطق في قطاع غزة لا تحمل إلا الاسم اليهودي، فمثلاً مستوطنة (جديد) ليس لها اسم تعرف به من قبل إلا (منتصف الطريق بين رفح وخان يونس) أو كثبان الرمل، وكذلك مستوطنة كفار دروم، التي تركتها الحكومات المصرية دون هدم حتى سنة 1967، فعاد اليهود إليها، وتملكوها كحق مسترد، وحتى يومنا هذا لا اسم للمكان في عقول الناس غير (كفار دروم)، فإذا انهزم المغتصبون، وتركوا بيوتهم على حالها، وظلت خاوية خالية شاهدة، فستحتفظ بأسمائها اليهودية، ولن تنزع الذاكرة عنها قوة على وجه الأرض، فهل يستطيع عربي أصيل بعد ذلك أن يدعي؛ بأن الإبقاء على ذاكرة اليهود بيننا غنائم حرب؟! أم أن الصواب هو في الاعتراف بأنها كمين تاريخي، وشرك معنوي؟.
      ربما يتضح هنا أحد الأسباب التي يرمي إليها اليهود في ترك بيوت المغتصبين على حالها، على الرغم من أن أكثر من مسئول إسرائيلي ذكر أسباباً أخرى مغايرة، فقال (شاؤول موفاز) إن الهدف هو عدم إعطاء صورة كريهة لإسرائيل أمام العالم، والثاني عدم إعاقة الانسحاب، وكلا السببين صحيح، ولكن هناك هدف ثالث أعلن عنه أحد الكتاب الإسرائيليين يقول بأن شارون سيوظف إخلاء المستوطنين للدعاية بأن إسرائيل انتزعت المواطنين اليهود من بيوتهم، وسلمتها للعرب، وفي ذلك إشارة إلى قضية اللاجئين الفلسطينيين، أي تهجير مقابل تهجير، وفي تقديري أن إسرائيل ستفاوض الفلسطينيين لاحقاً في هذا الشأن عن بيوت أخلتها في المغتصبات تحت قصف القذائف، وكأن التخلي عن مدينة يافا وحيفا وعكا وقرية بيت دراس وحمامة سيقابله استرداد بيوت ونفايات المغتصبات على بحر غزة، ليقال ترك الفلسطينيون بيوتهم في قرية بيت طيما، والبطاني، ويبنه، والسوافير، وبربرة، وبشيت، وفي المقابل ها هو اليهودي قد ترك بيته في (نفيه دقليم، ونيتسر حزاني)، مع العلم أن مساحة رمل مدينة المجدل (عشقلون) لوحدها أكبر من قطاع غزة بجملته، فكيف ببقية المدن والقرى الفلسطينية المغتصبة.
      إن صدق اليهود في تبريرهم لأسباب عدم هدم بيوت المغتصبين، فلماذا لم يبق اليهود مساكن العملاء في منطقة (الدهينية)؟ ولماذا يحرصون على هدمها؟
      إن إسرائيل لن تبقي مستوطنة ( الدهانية) أو تجمع (الدهانية) التي رمت فيه العملاء عشرات السنين، لئلا تترك بصمة إصبع لها تدل على وحشية ونذاله الأساليب اليهودية، فلماذا لا يطبق على مغتصبة (نفية دقاليم، وميراج، ونتساريم) وبقية العصابة ما يطبق على (الدهانية)؟ أم إن اليهودي يرفض أن يبقي من خلفه شاهداً على جرمه بحق ضعفاء النفوس، لئلا ينجح الفلسطينيون فيما بعد في توظيف ذلك إعلامياً في غير صالح إسرائيل!!؟
      يجدر التذكير هنا؛ أن من الخطايا إزالة ما يشهد على جرم اليهود وفظائعهم وفق مشيئتهم، وإبقاء ما يشهد على تضحية الغاصبين، وبراءتهم، وتركهم منازلهم وفق مشيئتنا، ليظل سوء التقدير هذا يطارد ويلعن كل مفاوض فلسطيني سيوافق على ذلك!!
      إن بيوت المستوطنات ليس إلا بعض حجارة وقرميد، وأشياء مادية بالنسبة للفلسطيني، ولكنها ذاكرة وعمق روحي بالنسبة لليهودي، إنها أقيمت لمثل هذا اليوم التفاوضي، رغم أنها لا تصلح لإقامة الفلسطينيين، وهي ليست غنائم حرب كما يظن البعض، هي ألغام تفجير، وهي لعنة من السماء على أرض طهور، فلماذا لا تزال عن الوجود، وتقضم وتهدم وتردم وتهضم وفق المصالح الفلسطينية، وبعد تسويتها بالأرض، تبدأ اللجنة الوزارية المكلفة بمتابعة ملف رحيل الغاصبين في التخطيط لإقامة عدد من المدن الفلسطينية الجديدة، على غرار مدينة الزهراء جنوب قطاع غزة.
      لقد دمرت إسرائيل للفلسطينيين بيوتاً توازي أضعاف أضعاف ما سيتركه المستوطنون، وقد استعد العرب مشكورين للتبرع بمبلغ 450 مليون دولار لتعميرها، أي أننا نتحدث عن مبالغ مالية، تبدو قيمة بيوت المغتصبين المادية هزيلة جداً أمامها من ناحية، ولكنها سمينة بدلالاتها التاريخية والروحية من الناحية الأخرى، ولنا في التاريخ دليل وشاهد؛
      عندما شنت إسرائيل حرباً عدوانية على مصر سنة 1956 بالتحالف مع بريطانيا وفرنسا عرفت بالعدوان الثلاثي، أطلق اليهود من جانبهم على تلك العملية اسم ( قادش) أما دلالة الاسم عندهم فترجع إلى أيام فرار اليهود مع نبيهم موسى من مصر 1300 قبل الميلاد تقريباً، وقتها لم يستطيعوا أن يدخلوا فلسطين، فقد قاومهم أهلها، فعسكروا في (قادش) واحة تقع في منتصف الطريق بين رفح على البحر المتوسط، وميناء العقبة على البحر الأحمر، وكان إذا حاول اليهود أن يدخلوا فلسطين منعهم أهلها فيعودوا إلى (قادش) إلى أن توجهوا أخيراً إلى الجنوب، وبقية قصة التيه المعروفة.
      لقد وظف اليهود ما ينتسبون له من تاريخ في أول عملية غزو لسيناء سنة 1956، وأطلقوا عليها اسم (قادش) وكأن اليهود يرغبون في عودة عكسية للتاريخ، وينتقمون من مصر التي طردتم ذات يوم، موظفين في ذلك الاسم التاريخي للمكان.
      فهل سنترك بيوت المغتصبين، ونترك أسامي المغتصبات للتاريخ، ليبكي عليها اليهود، ونبكي على أنفسنا، وجهلنا بالدلالات، ونصور الخراب المعنوي بالغنائم ؟
      إن كل ما يجب أن يطلبه المفاوض الفلسطيني مباشرة من نظيره الإسرائيلي، أو عن طريق الوسطاء الدوليين، هو المطلب البسيط التالي:
      عودة المكان الذي اغتصبه اليهود في كثبان رمل قطاع غزة إلى سابق عهدة، إلى ما كان عليه قبل وصول المغتصبين في نهاية سنوات السبعينيات، وهذا المطلب لا يقع ضمن دائرة التعجيز كما سيظن البعض، ويقول لن نكون مثل البسوس التي طلبت من (جساس) ملء جلد ناقتها نجوم، أو دم كليب على الأرض يحوم، أو ناقتها من الموت تقوم، إن مطلب إزالة مخلفات الغاصبين بسيط جداً، وتقدر عليه الجرافات العسكرية الإسرائيلية الضخمة بكل سهولة، أليست تلك الجرافات هي التي سحقت نصف مخيم رفح ومحته عن الوجود في ليلية واحدة، إنها لقادرة على إزالة ركام بيوت المستوطنين، وتحميلها في شاحنات في عدة أيام، فقد تعودت جرافات (كتر بيلر) على الهدم والردم والهضم، وتعودنا على الكظم، فإن رفض اليهود هذا المطلب، فعلى السلطة الفلسطينية أن تطلب المجتمع الدولي بأن يكلف أحد الشركات الدولية بإزالة ركام، وبقايا، ونفايات المغتصبين، والتكلفة على قبة المحتلين، وما عدا ذلك ستنطلق يد الشعب الفلسطيني الغاضب على ما تركه الغاصب، وعلى ما تبقى من ركام المغتصبين، فهي غنيمة لهم ـ وهنا تنطبق لفظة غنيمة ـ يتصرفون ببقاياها على طريقتهم، وهذه الطريقة التي قد تبدو غير حضارية، سيشفي الناس بها غليلهم، وسيظهرون كمن أعماه الحقد الذي بذره في نفوسهم اليهود، فراحوا يدمرون ويكنسون ما ظل يشهد على من دنس بعض تراب وطنهم المقدس.

مـا عدا ذلك ، فستطارد لعنة بقايـا بيوت الغاصبين
كل من سيوافق على بقائها، في الدنيا، وإلى يوم الدين

* الكاتب حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين
fshamala@yahoo.com

تاريخ النشر : 30/03/2005