فنجان قهوة محمود درويش على طاولة المفاوضات
بقلم : د. فايز صلاح أبو شمالة

        وثيقة تفاوضية يقدمها الشاعر الفلسطيني محمود درويش إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، فبعد خمسين عاماً على قيام دولة "إسرائيل" ، وحصولها على الاعتراف الدولي، وتبادل السفراء مع عدد من الدول العربية، يكتب الشاعر العربي الفلسطيني بلا دبلوماسية، وبدون تفكير وحسابات سياسية، ودون اعتبار لموازين القوة القائم على الأرض، ودون انتباه لما سينعته به اليهود من لا سامية، فقط؛ يترك الشاعر روحه تشرب من عميق الوجع، بعد أن سَربَ قلبه حزُّ السكين، وتركه يفيض بما يشجيه، فينهمر الكلام على الورق بتلقائية، تبدأ بفعل الأمر للغريب الذي يسكن بيت الشاعر محمود درويش، ويقول له في جملة شعرية قصيرة، مكتنزة الدلالة، ومكدسة بالهم المبكي:
                                سلم على بيتنا يا غريب،
          وكأن الشاعر ينزع قلبه، ويرميه على طريق الإنسانية، وهو يقول أنا الذي حرم من بيته، وطرد من وطنه، يبعث الشاعر أشواقه وحنينه لنفسه المسروقة عبر هيئة الأمم المتحدة، ويخاطب مغتصب أرضه بشكل مباشر، وهو يحك بحجر الصوان على الذاكرة المنسية، فتقدح شرر الصراحة، فلا يحق للشاعر هنا، ولا يصح أن يداري، في هذه الحالة لا مواربة بالقول مع من أغتصب بيته، لذا فالشاعر لا يوجه كلاماً دائرياً، ولا يجامل بالحديث ليخفي عكس ما يظهر، ولا يلفلف المشاعر باحتمالية المعاني، وغريب اللفظ، ولا يغرق في الرمزية، بل يسمي الأشياء بمسمياتها، وينادي على مغتصب بيته بصفته التي اكتسبها بالممارسة؛ (يا غريب) هذه التسمية التي يخجل أن يكررها من خلف الشاعر السياسيون العرب، رغم معرفتهم بها.
          بعد خمسين عاماً، ينادي محمود درويش على كل يهودي يسكن فلسطين (يا غريب)، وبذلك يصف كل سكان الدولة العبرية المخيفة التي تسمى "إسرائيل" بعد أن يعيد انتسابه إلي المكان، ويعيد أنتساب التراب إليه، يصفها ب ( دولة الغرباء) أو الدولة الغريبة عن هذه المنطقة، والبعيدة عن طينه هذا التراب، ويقول عن المكان الذي أقيمت عليه الدولة التي تعترف بها الدول العربية باسم "إسرائيل" يقول عنها: (بيتنا) وبذلك يلخص كل تلك الدلالة السياسية والتاريخية عن التراب المقدس، يلخصها الشاعر محمود درويش في لفظة ( بيتنا) وهنا يفجر الدهشة الواعية عن حقيقة الساكن الذي دخل بيتنا دون استئذان؟ وحقيقة الساكن الذي طردنا من بيتنا بلا رحمة، والذي ينام على سريرنا؟ ويلبس ثوبنا، ويحرث أرضنا، ويستفع في شمسنا، ويتسكع في شوارعنا، ويتبلل في الشتاء من مطرنا، وتداعب محياهُ نسمة جنوبنا، أليس اسمه الصحيح الذي يجب أن يتم تداوله على طاولة المفاوضات هو: الغريب!!!
          يوقظ الشاعر اليهودي ( الغريب) من نومه دون أن يستأذنه، يهزه بعنف كي يفيق من لحظة الدفء المصطنع، يصرخ عليه؛ هذا السرير لي يا أيها اليهودي الغريب، كيف تهنأ بالنوم على سريري، وكيف ترتوي وأنت تشرب من بئري، وكيف تطرب وأنت تغني قصائدي، وترقص على ألحاني، يُجلس الشاعر محمود درويش اليهودي على حافة السرير الذي طالما جلس عليه محمود درويش، ويخاطبه مباشرة، فما دام المفاوض الفلسطيني يخاطب المفاوض "الإسرائيلي" مباشرة، فلماذا لا يتجرأ وجدان الأديب ويخاطب وجدان المفاوض بما غاب عن طاولة التفاوض، يقول:

سلّمْ على بيتنا يا غريبُ،
فناجينُ
قهوَتنا ما تَزالُ على حالِها. هل تشمُّ
أصَابعَنا فوقَها؟
         أعلى هذا الإطار الزجاجي الشهادة على جذور الصراع العربي "الإسرائيلي" ؟ أيمكن اختصار مضمون الصراع بعلامات فارقة على سطح فنجان القهوة؟ فما زال الفنجان يحتفظ برائحة الأصابع بعد خمسين عاماً، وما زال الفنجان يعبق برائحة القهوة، تفوح منه فتستدعي الماضي، وما زال الفنجان يحتفظ بذاكرة من شربه، وما زال الفنجان يتربع في صدر البيت كما تركه صاحبه بعد أن اغتصب اليهودي بيته، وما زال بخار القهوة يتصاعد من الفنجان وكأنه نازل عن النار في التو واللحظة!!، أليست هذه وثيقة تفاوضية في يد المفاوض الفلسطيني على طاولة المفاوضات مع "إسرائيل" ؟ أيعقل أن يلقي بهذه الوثيقة مفاوض، أو أن يقفز عنها؟
         ولكن هل يعرف اليهودي ذلك، هل يشم أصابع صاحب البيت على فنجان القهوة، ترى، ما هو مذاق القهوة في فمه؟ هذا استفهام يؤكد من خلاله الشاعر أن اليهودي يعرف ويدعي عكس ذلك، وأن اليهودي يغلق أنفه عن شم رائحة الآخرين أصحاب المكان، وأن اليهودي يبصر ويرى ذوي الشاعر المهجرين في الدول العربية، ولكنه يعمل بكل طاقته لكي ينساهم، وينسيهم ما كانوا عليه، ويجتهد لحل قضيتهم، قضية اللاجئين التي تم تأجيل حلها إلى مراحل الحل النهائي، وسيحرص (الغريب) على تصفيتها بكل الطرق، كي لا تبقى ندبه في خاصرة الدولة التي شربت قهوة فلسطين وتحاول كسر الفنجان؟
         وهنا يقفز محمود درويش عن جيل الآباء من اليهود الذين مارسوا الطرد للفلسطينيين، ويعبر إلى الجيل الثاني الذي يستمتع بما أسسه لهم الجيل الأول، وكم حاولت آلة البطش الإعلامي "الإسرائيلي" تصوير التهجير الفلسطيني عن بلادهم بأنه فعل ذاتي عربي؟ ولم يكن لـ "إسرائيل" مسئولية أخلاقية، أو سياسية عن ذلك، ولكن الشاعر يؤكد على ضرورة أن يتحمل الأبناء المسئولية عن فعل الآباء، وأن يعرفوا أن هذا المكان الذي يرتعون فيه، ويلعبون، ويمرحون، ويقتلون، ويقصفون، ويذبحون، ويهنئون، هذا المكان له صاحب، والعلاقة القائمة مع ذاك الصاحب للبيت هي علاقة البديل، وهو الذي صار عربياً غريباً لاجئاً، يسكن المخيم، فكيف أنسى ذلك؟ يقول محمود درويش وقد عبر بالسؤال من اليهودي الأب إلى الابن:

هل تقول لبنتك ذاتِ
الجديلة، والحاجبين الكثيفين أن لها
صاحباً غائباً
يتمنى زيارتها، لا لشيء...
ولكن ليدخل مرآتها ويرى سره.
كيف كانت تتابع من بعده عمره.
بدلاً منه، سلم عليها
إذا اتسع الوقت!!
          أتى الشاعر على جملة (لا لشيء...) وحذف التفاصيل، وذلك لئلا يظن اليهودي السوء بالشاعر، وإنما انتقل الشاعر للحديث عن الجيل الثاني، عن جيل محمود درويش نفسه، بعد أن رمى بأطراف المأساة إلى زمنين، زمن الفعل الذي تم، وزمن الفعل الذي سيتم، وهنا يكون الشاعر قد أشهر منفعلاً سيف الزمن من غمده مرتين؛ مرة طُعن الشاعر من الزمن، وما زال نصله يقطر من دماه، وأخرى مقبضه في يد الشاعر، وما زال غير قادر على استعماله، في المرة الأولى: الشاعر ينفي عن نفسه أن يكون قد عاش حياته بعيداً عن بيته، ويرى أن غيره قد عاش أيام عمره، وخبأ سره، وسرق فكره، وكشف ستره، الشاعر هنا يفتش عن نفسه في مرآة اليهودية التي تنفست هواءه، وأكلت طعامه، وشربت ماءه، ومشت على قدميه، ودق قلبها وخفق بالحب بدلاً منه، إنه يعود من الموت ليسترجع ما كان عليه أن يعيشه، لولا هؤلاء الذي أخذوا منه كل شيء في غفلة من الزمن؟ هذا الزمن الذي عاند الشاعر وخالف طبع الأشياء، وطعن شاعرنا، وأدمى صدره.
          المرة الثانية: والشاعر يضيّق الوقت إلى الحد الذي لن يستطيع معه اليهودي الأب أن يُوصل سلام الشاعر إلى بنته، أو بمعنى أخر أن يقترب من حقول السلام، لقد اشترط الشاعر على اليهودي شرطاً مضمراً لكي يسلم على بنته، ويعطيها السلام من الشاعر، وهذا الشرط هو اللغز الذي في حله ستنحل مشاكل الشاعر الذي يفتش فيها عن عمره، لتبدأ مشاكل اليهودية التي غفلت عن تأثير الزمن، وتأثره بمن يمتلك ناصيته، وكأن وجدان الشاعر اللاجئ يقول للسياسي العربي الفلسطيني: إن قضية اللاجئين الفلسطينيين تؤرق اليهود، وتشهد أمام العالم على الدم الفلسطيني الذي لا يجففه الليل، وهي شهادة يرفعها الواقع الذي أقر بالقوة قيام دولة "إسرائيل" ، ويقر بالقوة وجود اللاجئين الذي ينتظرون، مع أن طرفي الصراع يعملان على تغيير الواقع، وتوظيف الزمن أداة طيعة لذلك، فاحرص يا أيها السياسي من المساس بالتاريخ، واللعب بالزمن، والاقتراب من الشاخص الذي يؤشر إلى الطريق، والويل لمن ينسى أنه صار لاجئاً عربياً غريباً عرياناً في مخيمات اللاجئين بفعل الغريب.
          إضافة لما سبق، يؤكد الشاعر أنه شخصياً، وكل اللاجئين الفلسطينيين ما زالوا بوجدانهم هناك، في قراهم ومدنهم في فلسطين، رغم أن أجسادهم تتفاعل وتتعايش مع مكان تهجيرهم الجديد، وفي ذلك إشارة رمزية إلى الهروب من الزمن الراهن، إلى زمنين؛ الزمن الذي مضى وكان فيه الفلسطيني يعيش في بيته، والزمن الذي سيأتي، الذي لن يظل مطية لليهود، رغم أنهم يركبون حصن الحاضر، وينافسون بها ما مضى من زمان، ويسابقون بها ما سيأتي من زمان، يقول الشاعر:

ههنا حاضرٌ
لا زمانَ لهُ
لم يجدْ أحدٌ، ههنا، أحداً يتذكرْ
كيفَ خرجنا من البابِ، ريحاً، وفي
أيِّ وقتٍ وقعنا عن الأمسِ فانكسرْ
الأمسُ فوقَ البلاطِ شظايا، يركِّبُها
الآخرونَ مَرايا لصُورتهمْ بَعْدنا....

د. فايز صلاح أبو شمالة
- تاريخ النشر : 27-02-2005