لم التنسيق مع شارون ؟!

د. فايز صلاح أبو شمالة


       
لا أعرف الثمن السياسي الذي قبضه السيد الرئيس أبو مازن من إعلانه عن الاستعداد الفلسطيني للتنسيق مع الإسرائيليين خطوة الانسحاب من غزة!، ولكنني أعرف حجم الإيذاء المعنوي الذي سيلحق بالشعب العربي الفلسطيني، وقضيته السياسية، وأقدر كمية الزفير الخارج من صدر شارون وهو يتنفس الصعداء، بعد أن سار زمناً على حبل دقيق للرهان بين فرض التنسيق على الفلسطينيين، أو مواصلة رفضهم لذلك ؟

        ولا أظن منخرطاً في السياسة يجهل تقدير المسافة بين انسحاب منسق، منظم، له بداية ونهاية، ويلقي بالتبعية والثقل على الآخرين، ويضع نقطة في آخر السطر، وبين انسحاب عشوائي، متخبط، يترك الخطوط مفتوحة على كل الاحتمالات، ويفسح للمجهول مكاناً.

        عدد شهور ناور فيها الفلسطينيون بمهارة على عدم التنسيق، وشدوا حبل التوتر بشكل ذكي، وأعلنوا أن الانسحاب خطوة إسرائيلية من جانب واحد، ولسنا شركاء فيها، وأن مركز الصراع مع الإسرائيليين أراضي الضفة الغربية، والقدس، واللاجئين، وبالتالي لا داعي للتنسيق مع الإسرائيليين في غزة، فما الذي تغير؟.

        لقد ناور شارون عدداً من الشهور على فكرة التنسيق، وزج في المعركة نائبة المقرب يهود أولمرت، الذي ناور قبل أيام معدودة من زيارة أبي مازن لواشنطن، وأعلن: أن إسرائيل تدرس فكرة تأجيل الانسحاب من غزة، وسبق ذلك مناورة صادرة عن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، توصي فيها تأجيل الانسحاب من غزة ستة أشهر، وأن إسرائيل تدرس خطة لاقتحام غزة، لتأمين انسحاب آمن، وسبق ذلك مناورة ادعاء أحد الحاخامين اليهود أن موعد الانسحاب يتعارض مع الأعياد اليهودية، وهي الملاحظة التي أثارت استنكار، واستغراب وسائل الإعلام الإسرائيلية ذاتها، وسبق ذلك كله؛ مناورات الحكومة الإسرائيلية، في تأييد وعدم تأييد خطوة فك الارتباط عن غزة.

        فهل نجح شارون في إيهام القيادة السياسية الفلسطينية أنه قد يتراجع عن خطوة الانسحاب ما لم ينبرِ له متعهدٌ بالتنسيق الأمني؟

        إن شارون يدرك جيداً أن فكرة الانسحاب من غزة، رغم أنها إسرائيلية بالكامل، وتنسجم مع المخططات الاستراتيجية، فإنها ما كانت لتتم دون التنسيق مع طرفين رئيسين:

         الأول هو الطرف المصري الذي نجح حتى الآن في تعديل اتفاقيات كامب ديفيد لصالحه، وانتزع الموافقة الإسرائيلية على دخول عدد محدد من القوى العسكرية المصرية على جانب الحدود مع إسرائيل، وما زال يتدارس مع الإسرائيليين، مسألتي المعبر، والسيطرة على الممر الفاصل بين غزة ومصر.

        الثاني: فلسطيني؛ يؤمن لشارون انسحاب مستوطنيه، وجنده دون إطلاق نار، ـ كي لا تهتز صورة الجندي الإسرائيلي الذي لا يقهر، في عقول العرب، وكي لا يقال بأن شارون انسحب تحت ضغط المقاومة ـ ويتعهد له بضمان حدوده التي سيتوقف انسحاب جنده عندها، ومن ثم الموافقة على كل ما ترتبه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من إجراءات تضمن سلامة الدولة العبرية، وتضييق الخناق على المواطن العربي الفلسطيني الذي سيبيت بلا حول له ولا قوة إلا قبول ما تفرضه إسرائيل عليه مع التنسيق.

        لقد كشف شارون أوراقه عشية زيارته لواشنطن التي سبقت زيارة أبي مازن بأيام، وطالب الفلسطينيين تنسيق خطوات فك الارتباط مع الإسرائيليين، وكأنه في ذلك يضع أهم شرط لنجاح زيارة أبي مازن، الذي وافق فوراً على مقترح شارون، وأعلن عن الاستعداد لتنسيق الانسحاب الإسرائيلي من غزة، فما الثمن الذي جناه، وما الذي أعطاه؟

        إن الانسحاب الإسرائيلي دون التنسيق الفلسطيني فيه قلب لمعادلة الكر والفر التي سادت في مجمل الصراع العربي الإسرائيلي، فلولا استعداد الرئيس أبي مازن للتنسيق، لكانت هذه هي المرة الثانية في تاريخنا المعاصر التي يفر فيها الجيش الإسرائيلي من أرض المعركة دون تنسيق، وترتيب أمنى ـ المرة الأولى كانت جنوب لبنان ـ ولكانت المرة الأولى التي يفر فيها المستوطنون من مكان يدعون أنه وطنهم المعطى لهم من الرب، وأن بينهم وبين المكان رابط عقائدي وتاريخي، وأن التخلي عن تل أبيب أهون من التخلي عن مستوطنات غزة.

        لقد ظل اليهود يكرون علينا نحن الفلسطينيين، ونفر من أمامهم، فقد كروا في سنة 1948، وفررنا تحت أزيز المذابح، وقصف التآمر، كروا علينا في سنة 1956، في قطاع غزة، وفررنا من ريحهم على سحابة العدوان الثلاثي، كروا في سنة 1967، وفررنا إلى النكسة، ومنها إلى الأردن وسيناء، كروا علينا بشكل أو بآخر في الأردن سنة 1971، وفررنا إلى ساحة لبنان، كروا علينا الكرة الكبرى في لبنان سنة 1982، وفررنا في صحراء التيه والشتات، تاريخ من الكر اليهودي، والفر الفلسطيني، لم يتبدل ميزان التعامل إلا عندما انفجرت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وهلت علينا السنوات المباركة التي كان تاج عطائها سنوات 2004، و 2005 اللتان قلبتا المعادلة، فصار القادة يستشهدون دون التفريط بالحقوق، يلاقون الموت راضين، غير فارين، وصار الاستشهاديون يبدعون طريقة الكر، وهم يمتطون صهوة الموت، وصار الكر حلم الشباب الذين أمسكوا بخيوط المبادرة، وانتزعوا من اليهود قدرتهم على مواصلة أسلوب كرهم الماكر، وصار لا قرار بيد اليهود غير الفرار من وجه الموت الذي يلاقيهم، بعد أن جلبوه على ظهر أكذوبة وزرعوه في عقل العربي الفلسطيني، الذي صار تفكيره بالكر من فوق الأرض مع إطلاق القذائف، ومن تحت الأرض مع حفر الأنفاق، لقد نجح المقاومون في مسح مفهوم ( أنجُ سعد فقد هُلك سعيد) من قاموس الشعب العربي الفلسطيني، واستبدلوا مقولة: ( ثورة حتى آخر الشهر) بمقولة (أن تطعمني ربي الجنة، هذا أقصى ما أتمنى) فإذا برجال المقاومة يكرون، وإذا باليهود يفرون.

        فما القابل السياسي للتنسيق مع إسرائيل فرارهم من غزة؟

        ما المقابل السياسي الذي نأذن فيه للهزيمة الإسرائيلية أن تتحول إلى انسحاب منسق؟ ألم يعجز الإسرائيلي عن البقاء بالقوة؟ إذن ليخرج بالقوة ذاتها التي دخل فيها، وليخرج دون أن يضع شروطاً، وليخرج دون أن يعطي توصيفاً للحالة الفلسطينية من بعده، وليخرج مدحوراً، ملوماً دون أن يقطب الجرح المفتوح على كافة الاحتمالات!!

        أما إذا اقتضت السياسة الدولية ذلك التنسيق، فما زال بأيدي الفلسطينيين الإملاء على إسرائيل شروطهم لأول مرة في تاريخهم، وهي:

        الانسحاب الإسرائيلي الكامل إلى الحدود الدولية التي كانت قائمة قبل حرب يونية سنة 1967، دون قيد أو شرط.

        فك الحصار البري والبحري والجوي عن قطاع غزة بالكامل.

        عدم التدخل في المعابر، والممرات من وإلى جمهورية مصر العربية.

        إخلاء الممر الفاصل بين قطاع غزة ومصر.

        عدم التدخل في عمل المطار الدولي الفلسطيني، وعدم عرقلة إقامة الميناء.

        عدم تحليق الطيران الإسرائيلي في سماء غزة.

        إيفاء إسرائيل بكل التزاماتها السابقة مع السلطة الفلسطينية.

        تقدير الأضرار التي لحقت بالأرض وما عليها، وبالثروة الطبيعية جراء الاحتلال الإسرائيلي عشرات السنين، وقبول لجنة تحكيم دولية في هذا الشأن.

        تقدير الأضرار التي لحقت بالإنسان الفلسطيني في غزة جراء الاحتلال، وقبول التحكيم الدولي بهذا الشأن.

        تعهد إسرائيلي بتوفير فرص عمل لعشرات ألاف العمال الذين ارتبط مصيرهم عشرات السنين بالحياة الاقتصادية في إسرائيل.

        تعهد إسرائيلي بمواصلة تزويد قطاع غزة بحاجاته الضرورية إلى حين تطوير المجتمع الفلسطيني لقدراته الذاتية، وقدرته على إيجاد البديل.

        تعهد إسرائيلي بربط خطة الانسحاب من قطاع غزة مع الحل الشامل والعادل لكافة قضايا الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المؤجلة.

        عدم التدخل الإسرائيلي في الشئون الداخلية الفلسطينية.

        قد يقول البعض هذه شروط منتصر، أقول: نعم؛ شارون في حاجة إلى تنسيق الانسحاب مع الفلسطينيين أكثر من حاجة الفلسطينيين إلى التنسيق معه، والفلسطينيون في حل من التنسيق مع شارون، ما لم يقر بشروط الفلسطينيين العادلة التي أقرتها المواثيق الدولية.

        وما عدا ما سبق، كان يجب ألا يُطفئ بريق النصر من عيون الأطفال، وألا تُخطف لذة المطاردة من ساقي الأشبال، وألا يُحرم شعبنا من متعة الكر، بعد أن أدمت قدميه أشواك الفر.

        وما عدا ذلك؛ يجب ألا نُسدل بأيدينا ستاراً من وهم التنسيق على مرحلة مجهولة، يرسم معالمها من رسم معالم فرارنا، وحدود دمعنا عشرات السنين!!!


د. فايز صلاح أبو شمالة
fshamala@yahoo.com

تاريخ النشر : 27/5/2005