خوار الثور في السياسة الفلسطينية

د. فايز صلاح أبو شمالة

        ليس أدل على فشل القيادة الفلسطينية التاريخية في تحقيق أهداف وأماني الشعب العربي الفلسطيني من حقيقية بقاء ألاف الأسرى العرب والفلسطينيين في السجون الإسرائيلية حتى اليوم، قد يقول غيري شعراً في الانتصارات الخارقة التي حققتها القيادة، ويأتي من يسن قلمه ليبرر ما لم تحققه القيادة على اعتبار أنها ثورة المستحيل، وينتقد مقالي هذا المتطاول على عمالقة التحرير للتراب والإنسان الفلسطيني، ولكن الحقيقة التي تبرق في الظلمة؛ إن وجود ألاف السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية لهو الدليل على نكوص القيادة عن تحقيق أبسط الأهداف والغايات التي تصدرت تحركها السياسي، لاسيما مكوث المئات منهم في السجون الإسرائيلية مدداً زمنية تصل إلى ثمانية وعشرين عاماً مثل السجين سعيد العتبة، وسبعة وعشرين عاماً مثل السجين نائل البرغوثي، وفخري البرغوثي، وستة وعشرين عاماً مثل الأسير العربي اللبناني سمير القنطار الذي آمن بشمولية المعركة ضد اليهود، فإذا به عالق وغيره على سياج المصالح القطرية، والخلاف بين أهمية الإنسان أم أهمية الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها الإنسان، بين أهمية العمر المحدود بزمن مدرك، وأهمية القيم التي ينصبها المجتمع خيمة يستظل تحتها بعد أن عجز عن إقامة بيته الوطني من الحجر الصخري؟  

        ليس أدل على فشل القيادة الفلسطينية التاريخية من بقاء ما يقارب الثمانية ألاف من السجناء العرب والفلسطينيين لعشرات السنيين في السجون الإسرائيلية تحت رحمة اليهود، وحنان اليهود على بعض الحالات الإنسانية، والمرضية، وشفقة اليهود على بعض الحالات الاجتماعية بما لا يتعارض مع أمن اليهود.

        ليس أدل على فشل القيادة الفلسطينية التاريخية من تلك الحالة التي تصرخ فيها ابنة سجين عربي فلسطيني في حشد من الرجال المسئولين الفلسطينيين: أريد أبي؟ أين أبي؟

         ومن يمتلك الجواب؟ من يقوى على فتح فاه من الحضور أو الغياب، من يقوى على النظر في عيني المستغيثة؟ وكأن رجال العرب جميعهم قد فقدوا فحولتهم، وطاب مذاق المذلة في حلوقهم، واستعذبوا خشونة كف اليهود على رقابهم!!!!

        أريد أبي! أين أبي؟ صرخة مظلومة فزعة تحرك العروش في وطن غير وطن العرب، إنها صرخة فتاة تقول لكل الرجال العرب الفلسطينيين؛ المسلمين والمسيحيين: لماذا أنتم قاعدون هنا وأبي مكبل هناك؟ ما الفرق بينكم وبين أبي؟ لماذا أبي خطر على إسرائيل وأنتم هنا مطمئنون، وقد اطمأنت لكم إسرائيل؟ لماذا تطارد الطائرات الإسرائيلية أصدقاء أبي، وتلاحق المخابرات الإسرائيلية أمثاله، بينما يتنقل بعضكم بسهولة بين الحواجز؟

        كأن لسان حال الطفلة يقول لهم: كيف تركبون السيارات الحكومية مكحلة العينيين، وتعتلون قمم المناصب الوظيفية، وتتقلدون الرتب العسكرية العالية جداً، ويجري لكم احتفالات التكريم لترككم الخدمة بعد عشرات السنين دون محاسبة من إسرائيل التي تحاسب أبي، ودون سؤال من العرب: من أين لك هذا، يا هذا!!! وكم أرقام حساباتك في كل البنوك، آه يا أبي، ما يزال أبي، وأمثال أبي في السجن؟ فكيف تنامون يا أيها الجنرالات المتقاعدون على السرير، وكيف تتوسدون يا أيها الجنرالات الجدد ذراع زوجاتكم، وكيف تلاطفون أولادكم وأبي في السجن ينام على ذراع الأمنية؟ ويتوسد أحلام الحرية؟ كيف تتطيبون بسكين (شلومو) وتطيبون نَفْساً ونَفَساً وأنتم تتنفسون كلمات الوطنية المنهكة، وترددون: إنها لثورة حتى النصر، وأبي أمامكم في سجون إسرائيل دليل خذلانكم لمضمون النصر!!

        عن أي نصر تتحدثون يا أيها الجنرالات الفلسطينيين، ومن الذي انتصر على من؟ ما هو النصر بمفهومكم، وما هي دلالاته؟ وإذا كان ما نحن عليه اليوم من حالٍ يعد نصراً، فما هي الهزيمة؟ وإذا كنتم المنتصرين، فمن هو المهزوم؟ ألم تكن أهدافكم سنة 1965، تحرير كامل تراب فلسطين، عندما كانت الضفة الغربية وقطاع غزة تحت السيادة العربية؟ أين هي فلسطين اليوم التي كانت الانطلاقة لتحريرها؟ ألم يتم اعترافكم بدولة (إسرائيل) بدلاً من فلسطين؟ وإذا كان هذا حال الوطن بعد انتصاراتكم، فما هو مستقبله لو توسعت انتصاراتكم.

         أما بينكم عربي فلسطيني جريء يعلن مسئوليتكم عن كل ما سبق؟ ألا يخرج منكم من يقول: لقد أخطأنا! نحن بشر ولسنا ورثة الأنبياء، وكان يجب علينا أن نظل ثوريين ما دمنا قد حملنا لواء الثورة، أو أن نسلم مقاليد قرار المفاوضات لمن اقتنع مسبقاً بالحلول الممكنة، واتهمتموه ذات يومٍ بالخيانة العظمى لأنه طالب بالتسوية وفق الممكن مع إسرائيل!! أما كان أجدر بكم أن تحافظوا على خط رجعه لمن سيأتي بعدكم رافعاً لواء التحرير، أو على مسافة بين موقف سياسي تمت تصفية صاحبة، وبين ما تمارسون !!

         إن الأمور تقاس بخواتيمها؟!!

        تواصل الفتاة التي ظل أبوها في السجن، تواصل الصراخ: أريد أبي، أين أبي؟

        ولسان حالها يقول: ألسنا شركاء في هذا الوطن، أليس الوطن للجميع، فإن كان الوطن للجميع، أليست التضحية واجبة على الجميع، فإن صح ما سبق؛ فلماذا استحقت التضحية بالدم على فئة من الشعب وعوفيت فئات صدّرت أبناءها إلى الخارج، ولفّت من ظل منهم في الوطن بورق السلامة، والوظائف الفاخرة؟ لماذا استوجب العطاء على مجموعة من الشرفاء بينما ولغت في التكسب غير المشروع مجموعات؟ لماذا استوجبت التضحية على الأمٍ التي ما زالت فلذة كبدها تتعفر بالتراب، أو في السجون، بينما الأم الأخرى تقيم الفرح ببذخ ومجون؟ لماذا هذه الطفلة تبكي أبيها الشهيد، وأخيها السجين، وتتشكى من الحرمان، بينما تلك الطفلة تتفسح مع أبيها المطمئن الأمين، ولها الحنان، ولها عطف إضافي من مرافقي أبيها الساهرين على فرحتها، وترطيب الجنان؟

        لماذا يتفصد العرق من جبين ذا الجريح ألماً، بينما يندى جبين ذاك من اللذة والنشوة، ألسنا شركاء في هذا الوطن؟ لماذا يتضور ذا من الجوع بينما يموت ذاك من التخمة؟ أم أن منافع الوطن حليلة شرعية للبعض يأتيها أنى شاء، يمتص ثمرها أنى شاء، بينما نظرة الآخرين إليها سفاح، وتفحص خيراتها جريمة؟ لماذا يحمل هم الوطن هذا ويأكل غم الصمود هذا، ويشرب ضيم الواقع هذا، بينما يتجشأ ذاك الارتياح؟

        إن في صرخة المظلوم كشف لعورة الظالم، وتشجيع على كسر زجاج الصمت، لأن الصامت على الظلم اثنان؛ الأول: جاهل لطاقة الصوت، ومضمون الصراخ وأثره على المتجبر، والثاني مستمرئ لما هو فيه من إذلال ولا يمتلك الحس المرهف لإدراك الوجع!!.

        ذات تجربة عبرت على جسدي، سبعون ليلية ونهار من التعذيب، كان المُعذِّبون يهود، والمُعذَب أنا؛ هم اليهود يمزقون الجسد، ويهتكون، ويدهكون في مواطن الحس المرهف كما يشاءون، وحافظت على روحي تحلق في سماء الصمود دون ارتجاف، أسلمت اليهود الجسد وأسلمت أمري إلى الله، بعد أن أذنت للروح أن تنطلق متجاهلة لكل ما يجري لأعضاء جسدها، سبعون يوماً، ليلها لا يبتدئ كي ينتهي بشبح الجسد وصلبه، وتعليقه يتأرجح بين موت وحياة، وخنق الأنفاس والتخبيط على مواضع الإحساس، ونهارها لا تتوقف فيه الهجمة اليهودية على منابع الإدراك، وتقطير صبره في كأس الملل والتعب والتقتير، لقد مرغ اليهود إنسانية الإنسان التي ترعرعت في نفسي في وحل العذاب والألم غير المحدود، وهم يمارسون الضرب والدهك والهتك والصفع والوخز، والجرجرة، سبعون ليلة ويوم لم أصرخ من وجعٍ، ولذت بالصمت، واحتميت بشبه الغيبوبة، وكتمت أنفاس الأنين، تحملت، وكظمت، تجلدت واحتسبت عند الله أياماً قبل شهر رمضان لسنة 1985، وكل أيام شهر رمضان المبارك، وأيام العيد وما تلاها، لقد عبر عني المئات من الشباب المُحقق معهم، مثلت أمام ناظرهم نموذجاً مذهلاً في الصمود، ونموذجاً مربكاً لليهودي الذي أعرب عن استغرابه لطاقة التحمل الخارق، فظل عدداً من السنين يضرب المثل باسمي لكل من صمد زمناً في التحقيق!!

        كل ذلك التحمل والصمت كان بهدف عدم إثارة حالة من الخوف والفزع في نفوس الشباب الذين يتم تعذيبهم من حولي، وبهدف تعزيز نموذج القدوة، وعدم تسهيل انتزاع الاعتراف من شباب المقاومة، هكذا حسبت، وبالغت في ظني بنفسي رغم العزلة، واعتدادي بقوة جسدي وقتئذٍ، كل ذلك رغم الوهن، وانكسار عمودي الفقري، يومها قال لي المحقق اليهودي: أن قيادتكم تنزل في أرقى الفنادق وأنت هنا مقيد في أحط درك، قلت له: أنت كاذب، وعندما قال: لن تحقق لكم القيادة ما تحلمون به، قلت له: أنت كاذب، وعندما قال: قيادتكم تنفق ببذخ ومجون، ولا يهمهما مصلحة الشعب، قلت له: أنت كاذب!! وعندما قال: عشرات من زعماء العرب، والقادة الكبار مرتبط مع مخابراتنا دون علمكم، قلت له أنت كاذب ومشكك، ولكن عندما شاهدت ممارسات وتصرفات وسلوك بعض رموز القيادة الفلسطينية في قطاع غزة قلت في نفسي: كان تحمّلنا، وحُلمنا، وحِملنا كاذباً!!

        ذات يوم من أيام الإنهاك الجسدي والنفسي المبالغ فيه في غرف التعذيب التي مارسها ضدنا اليهودي، سمعت صراخاً مزلزلاً من سجين في التحقيق، وترديداً لجملة واحدة لم تتغير كل الوقت: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر!!!!!!!!    

        لمن هذا الصوت الجهوري المدوي؟ من هذا الرجل الذي كسر رتابة غرف التعذيب؟ من صاحب هذا الصوت الذي أجبر اليهودي المحقق ليقول للجندي المكلف بالحراسة، وهو يتأففُ: خذه، أصرفه عني، أجلسه هناك، قالها وهو متأذٍ ضجراً!!

        انتبهت إلى ذلك؛ إلى إشارة اليهودي المحقق بعد أن نجحت من خلال ثقب قرضته أسناني في الكيس الذي دفن اليهود رأسي فيه عدداً من الشهور، لقد نجحت وأنا أتلصص من ثقب الكيس في تحديد معالم الشخص الذي زلزل غرف التحقيق (المسلخ) بتكبيره وترديده: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، الله أكبر، الله أكبر؛ إنه ابن قرية (بشيت) من سكان مخيم خان يونس الشيخ الداعية أحمد نمر حمدان!! 

        لقد أبرق شيب رأسه أمام عيني الفكرة، وكأن الله ساقه أمامي كي أنقل عنه، وأقلده، وكأن باب الرحمة قد فتح لي، فأطلقت لحنجرتي بعد ذلك العنان في الصراخ، والتعبير عن التوجع، فإذا بالصراخ يشفي الصدر، ويزجي الهم، ويخفف الكرب، ويريح النفس، فإذا للصراخ صدى يرتطم في وجه الآخر، وينكسر شظايا على صدره، من يومها فهمت معادلة البقاء بشكل مختلف، وفهمت مبررات خوار الثور في الغابة في اللحظات الأخيرة من عمره ومخالب الوحوش تطبق على عنقه، فإن لم يكن في الصراخ نجاة لصاحب الشأن، ففي الصراخ تحذير لبقية العائلة بعدم التسليم في تعايش الذئب مع الغنم، وعدم اعتبار التضحية بآلاف الثيران نصراً مؤزراً لغير مخالب الوحوش!!

        اليوم استدل على معانٍ جديدة من صرخة الطفلة التي ما زال أبوها في سجون إسرائيل، وهي تقول للمسئولين، وللقادة: أريد أبي!! أين أبي؟؟


* الكاتب حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين
fshamala@yahoo.com

تاريخ النشر : 21/04/2005