يمرر "الإسرائيليون" خططهم في المنطقة العربية بذكاء شديد، إنهم يسيرون على هدي هنري كنسجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، أو على طريقة (زحف النمل) كما يسمى ذلك في المثل الشعبي الفلسطيني، فبعد النجاح "الإسرائيلي" في إيجاد شريكين ـ بدلاً من شريك واحد ـ لخطة الفصل عن قطاع غزة التي انطلقت فكرتها من تل أبيب، بعد أن أدارها في رأس شارون الخبراء الاستراتيجيون، ليدور الحديث الآن في الأوساط "الإسرائيلية" عن الخطوة التالية للفصل، وبالتالي يعرضون تطلعاتهم السياسية بذكاء، بحيث يبدو ما هو مرفوض من العرب، وكأنه إنجاز تم تحقيقه، وتم انتزاعه بالصبر والصمود الذي أبداهما المفاوض العربي الأمين المخلص الواثق من قدراته الإبداعية الفذة، بينما الحقيقة هي أن للـ "إسرائيليين" أهداف يطبقون عليها الفم، وهي بمثابة كحل العين، فهم يخفون ما لا يظهرون، فعندما يلقون في السوق
السياسي فكرة، أو مقترح ما، يسارعون إلى تسويقه بطريقتهم الذكية، ليبدأ حديث الآخرين الدائري من حول فكرتهم، وتبدأ المساومة وفق ما خططوا لها، ودائماً يجهد "الإسرائيليون" ، ويحرصون على إظهار انتصارات من يقابلهم، ويلتقي معهم، وهم الذين يدفعون مقابلهم إلى هذا الظن الحسن بنفسه، ويظهرونه بالرابح، وكأن تحقيق هذا الشرط الذي حدده "الإسرائيليون" ، أو تجاوزه، يمثل كسراً للتعنت "الإسرائيلي" ، وإنجازاً سياسياً فلسطينياً تدق له طبول النصر، ويعبر عن قدرة فائقة على اختراق موازين القوة التي تميل لصالح "الإسرائيليين" .
من تلك الحيل "الإسرائيلية" المطروحة في هذه المرحلة، ما يتردد على لسان زعيم حزب العمل (شمعون بيرس) داهية اليهود، وصاحب الكف الرطبة على العنق الفلسطينية، فقد نقل عنه بأنه يرغب أن يكون التفاوض مع الفلسطينيين في المرحلة القادمة على المواضيع النهائية، التي تأجلت لسنوات، وأن الفرصة مواتية للغوص في بحر التفاوض الفلسطيني حتى اصطياد القضايا المصيرية المؤجلة منذ سنوات.
من ناحية أخرى فقد نقل عن أرئيل شارون، صاحب جرافة الهدم ودبابة التدمير، نقل عنه رغبته في أن يقتصر التفاوض مع الفلسطينيين في المرحلة القادمة على القضايا الخلافية المرحلية، ويكتفي بالبحث مع الفلسطينيين عن تسوية مؤقتة.
ولتمرير هذه الحيلة تلجأ وزارة الخارجية "الإسرائيلية" إلى بث تقرير أعده قسم الأبحاث بالوزارة، وأعلنت مقتطفات منه صباح أمس إذاعة الجيش "الإسرائيلي؛" يقول مضمون التقرير: أنه عقب الانسحاب "الإسرائيلي" من غزة، سيصر الفلسطينيون على التحرك مباشرة لمباحثات التسوية الدائمة، في الوقت الذي تريد فيه "إسرائيل" التفاوض على اتفاقية مؤقتة، وتوقع التقرير مساندة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للموقف الفلسطيني.
إذن التحرك لمباحثات التسوية الدائمة هو مطلب فلسطيني، بل وإن تحقق ذلك، فهو نصر فلسطيني، وهزيمة تفاوضية "إسرائيلية" ، فهل سيبتلع العرب الطعم، ليبدأ الفلسطينيون بالمطالبة بالمفاوضات على القضايا الجوهرية، ويعتبرون ذلك من وجهة نظرهم انتصاراً، وكسراً لإرادة المتعنت المتشدد الإرهابي شارون؟
الواقع حتى الآن يقول نعم؛ رغم أن التفاوض على القضايا النهائية في الحقيقة هو مطلب "إسرائيل" الاستراتيجي، وقد عبر عن ذلك أكثر من كاتب "إسرائيلي" ، لقد ظهر ذلك المضمون أيضاً بقلم السيد حسن عصفور أحد مهندسي اتفاق أوسلو، على صفحات جريدة الأيام، حين دعا إلى استكمال التفاوض في القضايا الاستراتيجية من النقطة التي توقفت عندها في طابا سنة 2001، وظهر ذلك في تلميحات رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس عندما قال أن اللاجئين في الأردن والشتات غير راغبين في العودة.
إن خطورة التفاوض على القضايا المصيرية تكمن في الأسباب البسيطة التالية:
أولاً: موازين القوى في هذه المرحلة تميل لصالح أمريكا، و "إسرائيل" ، وكلتاهما صاحبة اليد الطويلة في المنطقة، حتى هذه اللحظة على أضعف تقدير، وعليه فكل مفاوضات ستبدأ ضمن هذه المعطيات، ستنتهي لصالح صاحب الكفة الراجحة على الأرض.
ثانياً: تتطلع "إسرائيل" في المرحلة القادمة إلى تجاوز القضية الفلسطينية، والانتقال إلى مدى أرحب في العلاقة مع الوطن العربي، بل وتفكر "إسرائيل" في المرحلة القادمة بالشرق الأوسط الكبير الذي تضطلع فيه بمسئولية أمنية وسياسية حساسة لها قيمتها الاستراتيجية، لذلك ستعمل على إنهاء القضية الفلسطينية، والتفرغ لم هو أوسع مدى.
إننا نطالب قيادتنا السياسية من باب الحرص على مصير الأجيال، بأن ترفع الأذى الاستراتيجي عن أبناء شعبنا، والعمل مع كل الشرفاء على عدم الدخول في مفاوضات حول القضايا الاستراتيجية، مثل اللاجئين والقدس والحدود والمياه والمستوطنات، والتحايل قدر المستطاع على تأجيل البت في مصير الأجيال القادمة، وترك هذا الشأن الحساس إلى الزمن، إلى اللحظة التي تتوفر فيها معطيات جديدة على الأرض.