قطاع غزة يتأرجح بين أحلام السجان وواقع الاستيطان!!
بقلم : د. فايز صلاح أبو شمالة

        قال لي السجان اليهودي (آفي) ذات يوم في سجن نفحة الصحراوي: هل أدلُّك على الطريقة التي أخرج بها اليهود القادمون من روسيا كميات الذهب الذي يمتلكونها، اندهشت لما يهدف من وراء السؤال، ولكن الجواب الذي قدمه لي كان أكثر دهشة !

        قال السجان (آفي): بعدما سمحت الحكومة الروسية لليهود بالهجرة، منعت عليهم الخروج بمقتنياتهم من الذهب، وذلك بسبب الكميات الضخمة التي راح اليهود يخرجونها من روسيا، تحايل اليهود على الروس، وشرعوا في تفصيل صناديق خشب صغيرة بأعداد كثيرة لوضع حاجاتهم الشخصية فيها، ومن ثم الخروج بها من روسيا، كانت الألواح الخشبية لهذه الصناديق الكثيرة مثبته إلى بعضها البعض بمسامير كبيرة من الذهب، وبذلك نجح اليهود، وأخرجوا كل الذهب الذي جمعوه.

        اليوم أستعيد الذاكرة، وأرى نفسي واقفاً خلف الشبك والقضبان، وأستعيد الحديث الذي دار بين سجين وسجان، عن فرص السلام أثناء انعقاد مؤتمر مدريد، وما مصير المستوطنات اليهودية في الضفة العربية، في ذلك اليوم الذي ضرب لي فيه السجان مثلاً على حب اليهود للمال، وكان يهدف إلى التأكيد على أن زوال المستوطنات واجب كاستحقاق للسلام مع بلاد العرب، وما يقوم به اليهود من استيطان ليس إلا مناورة لجمع المال، ووسيلة من وسائل التكسب عن طريق الاستيطان، وضرب مثلاً بأسماء يهود يعرفهم شخصياً؛ اقتنوا بيوتاً في مستوطنات الضفة الغربية بهدف المقايضة عليها بالمال لدى توفر أي حل سياسي.

        حتى ذاك التاريخ صدّقتُ الكلام، وربما كان السجان الشاب اليهودي (آفي) صادقاً في تخيله للبعد المادي للاستيطان، ويبدي تلهفاً جدياً للسلام والأمن الذي يحلم به، ويدرك هو وغيره من اليهود أنه أمنية، لكم تمنوا أن تتحقق مع العرب، فإن اقترب السلام لا بأس من التسليم بالمستوطنات في سبيل ذلك، ولو مرحلياً، لقد تناسى السجان، وأهمل البعد الديني الذي يحرك غالبية المستوطنين، والذي مثل بالأساس المنطلق الروحي لاستقدام اليهود قبل عشرات السنين إلى فلسطين( هكذا يسمونها في كتبهم) وهذا البعد الديني الذي يجب التنبه إليه في كل تعامل مع اليهود، وعدم إهماله لدى التفكير بأي حل معهم، لأن التحليل السياسي البسيط في هذا الأمر الخطير يبنى عليه سلوك وتصرف قد يُهلكُ صاحبه الذي يظن باليهود بعداً مادياً فقط، دون التنبه للعمق الديني الذي بات يفرض نفسه، ويتسع في خيال اليهود بمقدار تحقيق الأمن لهم على الأرض، وبمقدار تحقيق أطماعهم، وأحلامهم، وبمقدار التسليم العربي بالسلام مع اليهود وفق ما يرى ويتخيل اليهود السلام.

        ولا داعي في هذا المقال السريع إلى حشد الدلائل التاريخية التي يستمد منها اليهود قوتهم الروحية، والتي تنص على العلاقة الدينية بينهم وبين أرض فلسطين، فهي موجودة لديهم وتطفح بها كتب تاريخهم، ولكن سأذكر فقرة واحدة من (التناخ) وهو الكتاب الذي يضم (توارتهم) والتي فيها يخاطب رب اليهود إبراهيم قائلاً "لنسلك أعطيت هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير" وبغض النظر عن الخلاف اليهودي في تحديد نهر مصر؛ أهو نهر النيل أم وادي العريش، ففي كلتا الحالتين فإن قطاع غزة يخضع ضن الملكية الدينية اليهودية.

        وهنا مكمن الخطر، وضرورة الانتباه إلى أن لعبة الانسحاب من قطاع غزة قد تتوقف لسبب من الأسباب في كل لحظة، لاسيما أن المستوطنين العقائديين يسعون بجدٍ إلى إفشال الخطة، وسيحرصون على مواجهة الإخلاء بالقوة، وهم ينظمون لذلك العمل، ويرتبون طرق الرد، فعلى سبيل المثال؛ فقد قرر مجلس التجمّعات الاستيطانية في الضفة الغربية و قطاع غزة تشكيل هيئة "شبه عسكرية" تعمل على عرقلة خطة الانفصال، وسيرأس هذه الهيئة ضابط احتياط لم يكشف عن هويّته، وتضمّ 100ألف مستوطن تعهّدوا بالانصياع إلى الأوامر و بذل قصارى جهدهم لعرقلة الخطة، وهذا التفكير ينسجم مع التقرير الذي نشرته حركة السلام الآن الذي يؤكد تواصل البناء في مستوطنات قطاع غزة.

        إضافة لما سبق، فإن الأجواء السياسية الحزبية في إسرائيل تحمل مؤشرات الفشل لتنفيذ إخلاء المستوطنين، كما تحمل مؤشرات النجاح، وفي كلا الحالتين، نحن الفلسطينيين طرف يتأثر سلباً وإيجاباً بتنفيذ الخطة الإسرائيلية، ولكي لا نقع فريسة في الفخ اليهودي، من الواجب أن نلتزم الحذر حتى اللحظة الأخيرة من تنفيذ الانسحاب، وهذا الحذر يفرض على المفاوض الفلسطيني أن ينأى بالمصالح الوطنية عن لعبة التفاوض الإسرائيلية، لاسيما أن فكرة الانسحاب من غزة صناعة إسرائيلية، ولا يجب أن يزج فيها الفلسطينيون، ولا يصح أن يتجاوب مع استحقاقاتها الفلسطينيون، فأي تفاوض في شأن الانسحاب من غزة قد يفرض على السلطة الفلسطينية نزع السلاح المقاوم، أو محاولة نزع سلاح المقاومة، بهدف تهيئة الأرضية المناسبة لاستكمال الانسحاب، وهذا المطلب الإسرائيلي هو مكمن الخطر!!.

        إن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة طُرح كفكرة بعد أن تأكد العجز العسكري عن محاربة تفجيرات الأنفاق المحكمة، وتساقط القذائف أولاً، ويعد أن تأكد العجز السياسي عن إيجاد أي صيغة تفاهم وحلول ترضي طرفي الصراع ثانياً، فإذا اطمئن كلا المستوطن والسياسي الإسرائيلي إلى نزع السلاح المقاوم، والاستعداد الفلسطيني لمناقشة حلول سياسية مع الإسرائيليين، فإن ذلك سيعيق التنفيذ الجدي للهرب من غزة، بل سيعطي المستوطن فرصة الاحتماء بالتوراة والتاريخ الزائف، وبالتالي يصدق المقولة الكاذبة التي تحض على إمكانية تحقيق الأمن دون التخلي عن الأرض.    

د. فايز صلاح أبو شمالة
- تاريخ النشر : 23-02-2005