إن من أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً، فكيف بمن أحيا نفوساً تجرعت المرارة مرتين، مرة عندما فقدت ولدها، ومرة عندما خجلت أن تعترف بالمقتول ابناً لها، بعد أن اتهم بالعمالة لـ "إسرائيل" ، وخيانة دينه، وقومه، ووطنه، وربه، فما أصعب هذه الأوصاف إذا أطلقت على شريف النفس، وما أجمل العودة إلى الحياة بعد الموت!!!
إن التعويض المعنوي الذي حققه أهل المقتول بالخطأ (حكمت شكري) من قرية كوبر في الضفة الغربية، نتيجة لاعتراف تنظيم حماس بذلك، ليفوق كل المال الذي قدم لأهله كديّة، بل ليعادل كل خزائن الأرض بما جمعت، لأن مستقبل أسرة بأكمله قد نهض من الحضيض إلى القمة، من الشك إلى اليقين، من الخوف إلى الأمن، من الحزن إلى الفرح، من الحقد إلى المحبة، من القلق إلى الثقة، من التنافر إلى التوحد، فكيف حال من روّع بالموت الخطأ، وفارق الحياة وهو يقول لنفسه: أنا مظلوم!!.
أنا مظلوم! صرخ بها سجين فلسطيني ذات يوم من عام 1987، في ساحة سجين عسقلان، صعد ذلك الشاب على طاولة التنس في ساحة السجن، وكان على وشك أن ينهي فترة حكمة، وصرخ في أكثر من أربعمائة سجين، أنا بريء، أنا لست عميلاً لـ "إسرائيل" ، ما ذكره أحد العملاء المشتبه بهم عن مشاركتي له غير صحيح، وتشويه لسمعتي!! ساد الوجوم كل السجناء، والهمس، والدهشة، ولكي يؤكد ذلك الشاب وطنيته، ويدحض ما اتهم به، لم يدم طويلاً خارج السجن، عاد بعد فترة قصيرة من تحرره، وقد صدر بحقه حكم مؤبد.
إن اعتراف حماس ليس نهاية المطاف، وليس أخر حالة قتل بالخطأ، بل هناك حالات قتل يتوجب مراجعتها، وعلى سبيل المثال؛ ما زلت أذكر حديث أحد السجناء في سجن عسقلان، وتفاصيل قتل برئ من خان يونس على يديه، وكيف كان يشعر السجين بالحزن والأسى لمقتله، قال: لم نكن نقصد عندما مات دون أن يعترف بأصغر تهمة وجهت إليه، ولم يكن أمام التنظيم سوى الكتابة عنه: خائن وجاسوس، وللأسف حتى هذه اللحظة يظن أهل الفتى والجيران أن ابنهم عميل لـ "إسرائيل" ، إن المطالبة بإعادة ترميم ما انكسر لا يعني تشككاً في معظم الحالات التي تمت فيها تصفية عملاء بارزين، ومعروفين، واضحين وضوح الشمس بمساوئهم ضد شعبهم، بالعكس لقد مثل حد سيف تصفية العملاء رادعاً، وتحصناً لكثير من الحالات، ومثل عقاباً
متناسباً مع تلك الفترة التي عبرت بخيرها وشرها، ولكن ما أحوجنا اليوم إلى المراجعة والمحاسبة، وتطبيب النفوس المنكسرة، ومعالجة تلك الأورام الخبيثة التي أفسدت الجسد، وخنقت الروح.
في سجن نفحة قال لي أحدهم: أنه لم يقصد القتل، ولكنه أختطف المقتول ليسأله بعض الأسئلة البسيطة، وعندما حاول الهرب من المكان الذي اختطفه إليه، هدده بالقتل، وفعلاً انطلقت الرصاصة ومات، فصار القتيل جاسوساً مع "إسرائيل" ، وما زال أهله يظنون به ذلك، وكل التنظيمات الفلسطينية التي عملت في الساحة لديها وثائقها التفصيلية عن كل حالة.
ولمن لم يدرك ما معنى أن تتهم بالعمالة، أو أن يتهم أحد أقربائك بالخيانة، سأشرح سلوك أحد الشباب الذي ارتبطوا بـ "إسرائيل" ، أي أنه عمل عميلاً حقيقياً لـ "إسرائيل" ، واعترف بذلك، وعاد إلينا تائباً في سجن نفحة الصحراوي ليعيش بيننا، وأخذ مدير السجن اليهودي وعداً من ممثل المعتقل الفلسطيني بعدم التعرض له، وعدم إيذائه بجسده وحياته، وفعلاً عاش بيننا في السجن سنة 1992، ولكن أي حياة؟ إنه كالأجرب الذي ينقل العدوى، ولأن الإنسان مهما كان هو كائن حي اجتماعي بطبعه، كان يلقي ذلك الشاب السجين العميل بنفسه على السجناء كي يتحدث إليهم، ولكنهم يتجاهلونه، وينفرون منه، لم يكن يشفق عليه في ذلك الوقت سوى القليل من كبار السن، وعميقي التجربة، ومنهم الأخ سليم الزريعي وكيل مساعد وزارة الداخلية حالياً ، مسئول تنظيم فتح في سجن نفحة
حينئذٍ، وأنا، كاتب هذا المقال، كنا نشفق عليه من منطلق إنساني، وقصدنا ذلك بعد أن تحادثنا سوياً بهذا الشأن.
إن اعتراف تنظيم حماس بالقتل الخطأ لم يفد أهل القتيل، وينقي سيرتهم فحسب، إن الاعتراف قد طهر الذي قتل من عقدة الذنب التي قيدت نفسه سنوات، فنحن لسنا قتله كما يسمنا اليهود، ولسنا مصاصي دماء، شعبنا يرتجف قبل أن يقتل من يستحق، فكيف لو كان بريئاً، لقد جمعني (معبار) سجن الرملة في نهاية سنة 1989، أو بداية 1990، حين التقيت في غرفة واحدة مع الشيخ الشهيد صلاح شحادة، والشيخ الشهيد أحمد ياسين، وعدد لا بأس به من أشبال القدس ـ قد يسترجع من يقرأ المقال من أولئك الشباب المشهد ـ في غرفة تحت الأرض، وكان من شباب خان يونس بسام أبو الريش، قادم من سجن (كفار يونا) برفقة الشيخ أحمد ياسين، وكان قائماً على خدمة الشيخ، والثاني إبراهيم صقر قادم معي للعلاج من سجن نفحة الصحراوي.
ودار حديث بيني وبين الشيخ الشهيد صلاح شحادة عن تصفية العملاء، وهل من مجال للخطأ، ولاسيما أن الشيخ صلاح كان قادماً حديثاً من أجواء الانتفاضة، وعايشها، وشارك فيها قائداً عسكرياً لتنظيم حماس، وأنا بعيد من سنوات عديدة عن الأحداث، قال لي الشيخ صلاح شحادة رحمه الله:
نحن أكثر ما نكون معنيين ببراءة المتهم من إلصاق التهمة عليه، ولا يعنينا إلا العدل في عمليات التحقيق التي تمت مع العملاء، فعلى سبيل المثال؛ بعد أن يعترف المتهم بما قام به من أعمال ضد المجتمع، ونسجل ذلك على شريط كاسيت، نطلب منه أن يوثق ذلك بخط يده، ثم نشرع بالمقارنة بين ما كتب وما نطق، ونراجع المتهم بالاختلاف في أقواله، بهدف الوصول إلى الصحيح، ونتركه فترة من الزمن، يرتاح، وينام ثم نطلب منه أن يسجل ثانية اعترافه بما قام به من تعامل بعيداً عن التأثيرات، وعن التخويف، ليكتب بخط يده، ونقارن مع ما كتبه من قبل، ومرة ثالثة بعد عدة أيام، وبعد أن نشعره بالثقة، والاطمئنان، نطلب منه تسجيل اعترافه المحدد والدقيق بخط يده، ونسجل ذلك بصوته أيضاً، ونقارن كل ما سبق كي نصل إلى الحقيقة التي تشعرنا بالرضا، والعدل الذي نبحث عنه، ونتمناه، ولا نفتش عن شيء
غير الحقيقة.
رحم الله الشهداء، وبارك الله لحماس جرأة الاعتراف، فمن الشجاعة الاعتراف بالخطأ، لأن الاعتراف هنا يقع ضمن النقد الذاتي الجدي وليس من زاوية التلذذ بنقد الآخرين، ومن لا ينتقد ذاته يضع نفسه في خانة الملائكة التي لا تخطيء، ولا تنطق عن الهوى، كما يحدث لدى من يخسرون تأثيرهم، ويقل بالتعنت حضورهم، لأن بالاعتراف تقييم لمرحلة عملٍ سبقت، ومحاسبة بالإيجاب والسلب لكل تصرف تم، ومحاوله لتقييم الاعوجاج، فكيف لو كان هذا الخطأ يتعلق بمصير إنسان لا يمتلك إلا شرفه وكرامته ووطنيته التي يلبس ثوبها النقي، ليفتخر أمام ابنته وزوجته وأخته، وأمه، ويعتز بروحه الطاهرة، فإذا بثيابه ومحتواها أمامهم، وأمام الناس نتيجة لخطأ التقدير مخترقة، ونفسه متسخة ومحترقة، وإذا بالحبيب الذي ظنه أهله عملاقاً بشرفه، إذا به قزمٌ بخيانته يتمرغ تحت نعال الأعداء، وإذا بالمعادلة كلها
مقلوبة، وبدلاً من شعور الإنسان بالتكريم مقابل التضحية، فإذا به مهان وذليل، وإذا بأهله في حضيض مجتمع يؤثر الموت على المذلة.