النمر الإسرائيلي في قفص الفلسطينيين
د. فايز صلاح أبو شمالة
(2)
كنت مختطفاً لليوم الثالث مع أفراد أسرتي مساء يوم الجمعة الموافق آخر أيام عام 2004، في نفس اللحظة التي كان فيها التلفاز الفلسطيني يذيع لقاء مسجلاً معي حول موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين، لم أتمكن من مشاهدة اللقاء، فقد حظر علينا خاطفنا الإسرائيلي الاتصال التلفوني، وحظر علينا مشاهدة التلفاز، كنت أتمنى أن يؤجل بث اللقاء المسجل، لئلا يوقعني أمام الناس الذين يعرفونني في تناقض بين موقعين يستحيل أن يتواجد فيهما شخص واحد، فهل أنا محاصر ومختطف كما جاء في إذاعة الأقصى وإذاعة الشباب، والإذاعات المحلية الأخرى، وكما هو الواقع الذي يدركه كل من يعرف موقع بيتي في خان يونس، أم أنني في مبنى التلفزيون الفلسطيني على بحر غزة، ويدور معي حديث موسع عن الشعر العبري؟
جاءتني أخبار اللقاء التلفزيوني عبر رسالة (مسج)، فقد نجحنا في إخفاء جهاز اتصال محمول، ونجحت ابنتاي "إبتسام" ماجستير علوم سياسية، و"ميساء" خريجة كلية الحقوق، نجحتا في ترتيب جملة من الاتصالات الصامتة، (رسائل) إلى كل من يهمه الأمر، وكانتا تشيران إليّ عند البدء بكل رسالة؛ كي أشاغل الحراس بالحوار والحديث المتعدد الإغراض، وكانت أحداهما تغطي على الأخرى من أعين الحرس، إلى أن تنتهي الرسالة ليعود كل شيء إلى طبيعته، وأستريح أنا على شاطئ الهدوء بعد انحسار موج الانفعال، وأغرق في نفق الماضي البعيد المترابط مع الحاضر، أتلمس خيط الذكرى يوم كنت سجيناً في سجن نفحة الصحراوي في إسرائيل، يومها كان عمر ابنتي "إبتسام" ثمانية أعوام فقط، وكنت أحاول إخراج عدد من الرسائل السرية إلى خارج المعتقل، وبعد أن نجحت بخفة حركة في تهريب الرسالة الأولى "لأم إبتسام"، لم
أنجح في تهريب باقي الرسائل، فقد خافت زوجتي من استكمال المغامرة، وتراجعت للخلف مبتعدة عن الشبك؛ شاكية باكية حال أولادها وبناتها لو شاهدها الحراس اليهود، وأخذوها إلى السجن، لم أنجح في إقناعها، وحارت بي السبل في كيفية إخراج باقي الرسائل، وفجأة، مدت الطفلة "إبتسام" يدها الصغيرة من خلف الشبك، وقالت: هات يا أبي!! أنا اخفي الرسائل عن عين الحراس، وفعلاً، لقد تمت العملية بنجاح!! ونفذت الطفلة "إبتسام" ابنه ثماني سنوات أول عملية فدائية _ كما ظننت _ ضد الإسرائيليين.
كنت أتابع ونحن مختطفون، حركة بناتي وما يقمن به من اتصال بخوف شديد، ويجول في خاطري ردة فعلي فيما لو وسوس شيطان أحد الجنود الإسرائيليين له بالاعتداء عليهن، ماذا كنت سأفعل لو سولت لبعضهم نفسه بالجرم؟ عبثاً أحاول طرد مثل هذا الهاجس، وتهدئة النفس وطمأنتها، ما أوحش التفكير السيئ في الضائقة! حبل مشنقة يلتف حول العنق، وأنا في وضع لا يسمح بغير التفكير المتفائل، فأي ضعف وتهاون، أو أي انفعال قد ينعكس على سلوك الذكور من الأولاد، وردة فعلهم التي لا تنتظر تروي الشيخوخة، لذا تصنعت الثقة أمام أولادي بسلوك الجنود، وحرصت على فرد بساط من الهدوء، والتأكيد للجميع بأن الجنود ملزمون بسلوك متحضر، لاسيما أن أمر اختطافنا بات معروفاً للصليب الأحمر، وسقت مثلاً على إنسانية الضابط الذي أحضر مصاغ إحدى البنات من الطابق العلوي دون أن يفتح العلبة، وكيف طلب منا في
البداية جمع كل ثمين كي لا يقع في يد الجنود، ومع ذلك سرق أحد الجنود الإسرائيليين مذياعاً صغيراً من الطابق العلوي؟
لا أنكر ما أظهره الجنود الإسرائيليون من درجة عالية للانضباط، وتقديم التقارير الأمنية للمسئول عن كل صغيرة تحدث، فمثلاً؛ عندما يغادرنا حارس يهودي للنوم في الغرفة المقابلة لنا، يخبر زميلة الذي تسلم منه الحراسة بما تم في غيابة، يقول له: طلب صاحب البيت أن أفتح الباب قليلاً لتغيير الهواء، ولكنني فتحت الشباك أكثر أمناً، وتمت تهوية المكان، وقام سكان البيت بعمل براد شاي وشربوا سوياً دون مشاكل، هكذا كانت المراقبة تقتضي، ولا يهم الجنود المكلفين بحراستنا ما يجرى من خلف السور، فعندما اقتربت الجرافة الإسرائيلية في اليوم الثاني من الغرفة التي نقيم فيها، وراحت تهدم ما خلفنا من غرف، صرخت على الضابط من خطر انهيار المكان الذي جمعونا فيه على رؤؤسنا، فقال بكل ثقة: لا تخف؛ هم يعرفون أننا هنا بينكم؛ لا تقلق!
وعندما اشتد القصف المدفعي من حولنا، وتعالى هدير الدبابات، سألت أحد الجنود أن يستوضح الأمر لئلا نؤخذ على حين غرة، فقال: لا يعنيني ما يجري خارج هذا المكان، أنا هنا مكلف فقط بالحراسة عليكم، أي شيء أخر ليس من عملي ولا من تخصصي، لقد أعادني هذا الحديث إلى سلوك بعض جنود سلطتنا الفلسطينية الذين كانوا يتركون سلاحهم يتأرجح على أكتافهم ويزاحمون الممرض والمواطن في مهمة الإسعاف ونقل الجرحى ـ الدافع وطني وإنساني ـ لكن؛ مادام الجندي سيعمل مسعفاً فلماذا يحمل بندقية؟ لاسيما أن اليهودي محصن في أبراج، ولا قيمة للبندقية من الناحية العملية؟ وإن كان للبندقية قيمة؛ فلماذا ترك الجندي الفلسطيني المقاومة للآخرين؛ لشباب المقاومة؟ ونفذ بشكل رسمي مهمة المراقبة، وسجل ونقل لقيادته الأحداث؟ لقد مثلت البندقية المتأرجحة
دوراً سلبياً من الناحية الإعلامية والعملية، فلا هي قاومت، ولا هي تحشمت، وهي سلبية عامة أسهمت بعد ذلك في تداخل المسئولية، وتقاطع الصلاحيات، فصار الطبيب المعالج ناطق إعلامي له فتوى عسكرية!! ومن ثم صار المواطن البسيط محللاً سياسياً، وخبيراً عسكرياً، ويقدم أحسن الوصفات الطبية لعلاج كل الأمراض، هذا الخلط في المهمات يقتل التخصص، ويضيق خانة الإبداع والتفوق داخل المجتمع، ويسمح للجميع بالفتوى في كل المواضيع، دون علم ودراية، ودون وازع من تفكير، أو مراجعة للنفس، أو إلمام واهتمام بتخصص، والنتيجة ما نحن عليه اليوم من حالة ترقب وتحسب!!!.
* الكاتب حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين
fshamala@yahoo.com
تاريخ النشر : 21/04/2005