شعور اليهودي بالقوة، والثقة الزائدة بالنفس كانت أهم عوامل فشل المظاهرة التي نظمها اليسار "الإسرائيلي" المؤيد لفك الارتباط كما يسمونه، والانسحاب من غزة كما يسميه الفلسطينيون، فلم تخرج تل أبيب مع منظمي المظاهرة، ولم يتجمع المؤيدون من الكيبوتسات، والقرى التعاونية التي قيل أنها تدعم الانسحاب، بل نامت تل أبيب في حضن المستوطنين، ورفضت أن تعلن موقفاً مؤيداً لفك الارتباط، على الرغم من أن المظاهرة قد جرت في هذه المدينة المؤيدة، والمكان الأضعف من حيث التأثر بالتعاليم اليهودية، فهي ليست القدس التي استسلمت في حضن المتدينين اليهود، لقد جرت المظاهرة تحت شعار واضح وبسيط، يقول:
(لتخرج إسرائيل من غزة) وكان منظمو المظاهرة قد اجتهدوا ليكون عدد المشاركين أكثر من خمسين ألف، فما الذي حال دون تجمعهم؟ ليقتصر عدد المشاركين على عشرة ألاف مؤيد تجمعوا في ساحة (ديزنكوف) الأضيق وليس في ساحة (رابين) الأوسع التي كانت ستفضح العدد الضئيل جداً المؤيد للانسحاب من غزة، وبالتالي ستنكشف هزالة المظاهرة التي أتت بمذاق يخالف مذاق من أعد لها.
لا يصدق أحد تبريرات اليسار "الإسرائيلي" عن فشل المظاهرة التي أخرجت فرح مجلس المستوطنات للعلن، وتصف صحيفة معاريف كيف تعانق أعضاء مجلس المستوطنات بالأيدي، وأعلنوا فرحهم ونصرهم على خطة الفصل، لاسيما بعد أن شاهدوا ضعف عدد المتظاهرين، لقد خرجوا عن ترقبهم، وأعلنوا أن "إسرائيل" قالت كلمتها، إن فشل المظاهرة ليؤكد على رفض اليهود لخطة شارون بالانسحاب من غزة، ويكشف السبب الذي يخيف شارون، ويحول بينه وبين اللجوء إلى الاستفتاء العام.
وغير مقنع ما لجأ إليه أحد أقطاب حزب العمل (داني ياتوم) من تبرير لفشل المظاهرة، وهو يقول لصحيفة معاريف: أن ضعف المظاهرة إذا ما قيست بمظاهرة اليمين، يعود إلى أسباب منها: وجود الحاخامين في مظاهرات اليمين وهو ما يدفع المشاركين للقيام بعمل وظيفي، بينما المتظاهرون من اليسار يحركهم دوافع وقناعة شخصية بما يقومون به".
إن ضعف ما سبق من تبرير يعكس حقيقة انجراف المجتمع اليهودي في "إسرائيل" إلى صفوف اليمين، وإلى تيار المتدينين، لقد رفض أي عضو من حزب (الليكود) المشاركة في المظاهرة، رغم توجه المنظمين للمظاهرة إلى كل من (يهود أولمرت)، و (تسبي لبني)، و (مئير شتريت) حيث وافق الأخير في البداية على المشاركة ثم تراجع، خشية على موقعه الحزبي، لاسيما بعد أن أدرك هشاشة عدد مؤيدي الانسحاب، وقلة تأثيرهم في الساحة "الإسرائيلية" .
لقد أدرك اليسار في "إسرائيل" أنه لا يحرك أهل بيته، ولا يؤثر في الشارع اليهودي الذي بات مقتنعاً بأحقية مواقفه السياسية التي تعتمد على رؤيته الأيديولوجية، فما كان من يوسي بيلن زعيم حزب (ياحد) غير أن يهاجم (تومي لبيد) رئيس حزب شينوي لعدم مشاركته، ومنعه أعضاء حزبه من المشاركة، ومتهماً إياه بأنه يكرر موقفه الضعيف للمرة الثانية، حيث رفض تأييد وثيقة جنيف مع أنه شارك في كل مراحل التفاوض بشأنها، ولكن تومي لبيد وأعضاء حزبه يظهرون تشدداً حول الميزانية، ويصر حتى هذه اللحظة على التصويت ضدها حتى لو سقطت الحكومة.
مما يثير الدهشة؛ أن المظاهرة اليسارية المؤيدة للانسحاب من غزة قد خرجت فكرتها للنور منذ مطلع شهر فبراير، وكما يقول (يريب أوفنهايمر) سكرتير منظمة السلام الآن ، تم تأجيلها إلى مارس بهدف حشد مزيد من المؤيدين لها، واستغلال حرارة الأجواء السياسية في "إسرائيل" عشية التصويت على ميزانية الدولة، وبدأ الاستعداد لها مبكراً لاسيما بعد شعارات التحريض التي انطلقت من مظاهرة مؤيدي اليمين العملاقة التي جرت في القدس، هذا الحديث عن الاستعداد للمظاهرة يكذب ما قالته (يولي تامير) عضو الكنيست عن حزب العمل لصحيفة يديعوت أحرنوت: من الأسهل علي الناس أن يتظاهروا ضد الشيء أكثر من أن يتظاهرون معه، ولكن هيهات المقارنة بين المظاهرتين، مظاهرة اليسار المؤيد للانسحاب التي قدر عدد المشاركين بها بعشرة ألاف، ومظاهرة اليمين الرافضة للانسحاب التي جرت في القدس، وقد قدرت صحيفة (هتسوفية) اليمينية وقتها عدد المشاركين بربع مليون يهودي، أو مئة وخمسين ألف وفق تقدير مصادر الأمن "الإسرائيلية" .
لقد عكست المظاهرة ضعف موقف شارون الذي ينتظر التصويت على الميزانية كاختبار قوة أخير له في الكنيست، ولأهمية التصويت من عدمه على مستقبل خطة شارون لفك الارتباط، وتحت شعار (ثابتون حتى يقرر الشعب) سينظم مجلس المستوطنات مظاهرة ضخمة متواصلة تستمر 36 ساعة تكون كالسور، أمام الكنيست "الإسرائيلي" . وهم يقولون لصحيفة معاريب 21/3/2005، إن مظاهرة تشبه هذه المظاهرة قد أسقطت الحكومة في بيروت، فكيف في "إسرائيل" واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط.
إنهم ضمن مساعيهم الجادة لإسقاط خطة الفصل، ولو أدى الأمر لإسقاط الحكومة، يصف المتدينون اليهود خطة شارون بأوصاف مثل: سقوط "إسرائيل" ، والاقتلاع من الجذور، والإهانة الكاملة، إن هذه الألفاظ لا تبشر بالخير في المستقبل كما يقول أمنون روبنشتاين في صحيفة هآرتس 21/3/2005، ويضيف: في الماضي سادت مقولة لا يمكن عزلها عن الجو العام، تقول: بأن سبب الانتفاضة الحالية هو الانسحاب "الإسرائيلي" من لبنان، وهو الذي عزز الادعاء بين الفلسطينيين بأن "إسرائيل" لا تفهم إلا لغة القوة، ويستشهدون أيضاً على ذلك بحرب السادس من أكتوبر التي أجبرت "إسرائيل" على الانسحاب من كل سيناء، وبأن اعتراف "إسرائيل" بمنظمة التحرير الفلسطينية قد جاء بعد الانتفاضة الأولى، يسوقون الآن مثلاً جديداً على تفهم "إسرائيل" للغة القوة بالانسحاب من غزة، إن ما سبق من فهم يجيز التساؤل التالي، ما دمنا سنعود إلى حدود 67 مثلما اقترح قبل 36 سنة وزير الخارجية الأمريكي (وليام روجرز) ،فلماذا ننتظر حتى يفرض عينا بالقوة اتفاق الانسحاب من الضفة الغربية والقدس.
إن هذا التساؤل يعاد طرحه على العرب، هل بات بين صفوفكم من يعتقد أن ثقافة اليهود الفكرية تحضهم على الانسحاب والسلام؟ أو بمعنى أخر، هل يخاف اليهود في "إسرائيل" في هذه المرحلة من الدول العربية، ويخشون جبروت الدول الإسلامية وقوتها لكي يقتنعوا بتقديم تنازل سياسي بحجم الانسحاب من الضفة الغربية، والتخلي عن القدس أو أضعف الإيمان تطبيق خارطة الطريق السيئة الهزيلة الذليلة التي يتباكى عليها العرب؟
إن لغة اليهود الأيديولوجية في "إسرائيل" تقول : لماذا نتخلى عن شبر واحدٍ من أرض "إسرائيل" ؟ ولمن ؟ وهل هناك مبرر واحد يستدعي ذلك؟ وهل من قوة على وجه الأرض قادرة على أن تفرض علينا الانسحاب، فلماذا نقدم تنازلاً مجانياً يفهم على أنه ضعف!!!.
فمتى سيدرك العرب أن ما يفتشون عنه من سلام غير موجود في أجندة اليهود في "إسرائيل" ، وإنما هو وهم الضعيف إذا تعلق بحبال الهواء؟ فيكفي أن يتطلع كل عربي أينما كان عن يمينه وعن شماله؛ ليبصر آثار اليهود تحدد للعربي لون الصباح الذي ينتظره، وأفق التفكير الذي ينطلق منه، ومجال الحلم إذا أحب الإيغال به!! وأي عربي يتنكر لهذه الحقيقة، أو يتشكك بها فليحاول أن يمس شعرة من رأس أحلام اليهود في "إسرائيل" !!.
* الكاتب حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين
fshamala@yahoo.com
تاريخ النشر : 21/03/2005