عشية يوم الأسير العربي الفلسطيني

خرجنا من السجن، ولكن السجن يطاردنا

د. فايز صلاح أبو شمالة

 

  يا أمي، يا أبي!!! أول النطق، وأصدق التعبير، وأدق الدلالة التي يتم من خلالها التعبير الوجداني عن الانتماء لهذه الدنيا، والإعلان عن الوجود بين الأحياء، وبدء ممارسة طقوس الحياة؛

  يا أمه، يا با! تصير خلف الأسوار سلاسل شوق يتغضن في حروف، وشبك دمع يترقرق على الرفوف.

  يا أمه، يا با! تصير في السجن موتاً يغص به المذاق، وأطراف سحابة تعبر الأفاق .. يا أمه، يا با!! تصير في البعد ناراً تتحرق في الصدر دون انطفاء، وشفرة تحز في الشرايين دون ارتواء.

  يا أمه، يا با!! ترتعش لها خلف الجدران ذاكرة النسيان، وتعسف دونها الزوابع بمرارة الحرمان.

  يا أمه، يا أمه، يا أمه، تصرخ السجينة قاهرة السعدي المحكومة ثلاثة مؤبدات، وهي تردد: أتمنى أن أرى أولادي!! فقط أن أقول لهم (يا أمه)؛ أريد أن تتلمس أصابعي أولادي!!! أن أضمهم إلى صدري، هذا ما طلبته السجينة الفلسطينية أثناء لقاءها مع الأسيرين المحررين؛ الأخ هشام عبد الرازق، وسفيان أبو زايدة لدى زيارتهما لها في سجن تلموند يوم الأربعاء 13/4/2005، تتساءل قاهرة السعدي: أين هم أولادي الآن؟ ترى كيف حالهم؟ كيف يصبحون وكيف يمسون؟ أربع سنوات لم أطبق عيني على أولادي، لم أتشمم رائحتهم، لم أمسح وجوههم بالقبلات، أربع سنوات لم يبكِ أيُّ واحدٍ منهم على صدري، لم أهدهدهم، لم أنطق كلمة (يا أمه) نفسي أسمعها منهم، نفسي أقولها، نفسي أن ألامس بأصابعي وجه أولادي، وأن أتلمس دموعهم، أن أتحسس شعرهم، أن أنظر في عيونهم، أن احتضنهم!!!! نفسي أقول: يا أمه، يا أمه، يا أمه، يا أمه!

      قاهرة السعدي من مواليد جنين سنة 1976، لها من الأولاد أربعة، ولها زوج في سجن النقب اسمه ناصر السعدي، ولها حب للوطن يملأ صدرها، وأفرغ هواءه من صدور آخرين! زوجها (ناصر) يتمنى أن يقول: يا با، يا با!! ربما نسي كيف يقولون يا با، وربما يرتجف لو لامست يده أولاده، أو يرتجف الأولاد لو نظروا في عين من يقال له: أبوهم؛ لقد مررت شخصياً بالتجربة، وأعيشها حتى اللحظة، لقد ارتجفت عندما لامست جسد ابني محمد الذي ولد وأنا في السجن، لقد سمحوا له بأن يعبر عندي في سجن نفحة الصحراوي للمرة الأولى سنة 1991، كان عمره قد صار ست سنوات، الطفل محمد فايز غالب الدمع وهو يحتضنني، ويحملق في الذين قالوا له: إنه أبوك! شعرت برجفة البكاء تهز جسد الطفل الصغير، ويكظم، فلم أر دمعته الحبيسة، كلانا ارتجف من الموقف، وكلانا حبس دمعة لم تسح على الخدود حتى اليوم، حتى اليوم تتكسر حروف كلمة يابا على شفتي، لا أعرف أن أقولها، وأقول معترفاً: لقد خرجنا من السجن ولكن السجن يطاردنا، آلاف السجناء خرجوا من السجن ولكن السجن لم يخرج منهم!!!.

      يا ويلكم يا عرب، صرخت منقبة ـ لم أسأل عن اسمها ـ في مؤتمر الحرية الثاني في قاعة رشاد الشوا، يوم الخميس 14/4/2004، أين أنتم يا عرب، يا مسلمون، شرفكم أسير بين يدي اليهود، يا ويلكم يا عرب، نساؤكم سجينات لدى اليهود، كيف تنامون على فراش المذلة، كيف تتنفسون هواء الهوان، يا عرب، يا مسلمون، صرخات امرأة فلسطينية عربية مسلمة مظلومة دوت في القاعة التي ضمت فتح، وحماس، والجهاد، والشعبية وباقي الفصائل الفلسطينية، فضمّخت الجميع بالصمت، ونكس الحزن رأسه عندما قالت: زوجي محكوم أربع مؤبدات!!!! لن يطلقوا صراح زوجي عن طريق المفاوضات، يقولون: يداه ملطختان بدم اليهود!! صرخت المرأة العربية الفلسطينية المسلمة المظلومة: يدا زوجي مشرفتان من دم اليهود!!!، لن تهان هذه الأمة ما دام فيها من يقبع في السجون مقاوماً.

      إنها السجون الإسرائيلية، أماكن تستند أركانها على تحمل الوجع، وتجرّع الحرمان، ويسقف جدرانها الصلف والطغيان، ويحرس بواباتها التجبر والعدوان، إنها السجون الإسرائيلية التي تطبق أنيابها على العربي الفلسطيني، تقضم، وتهرس عظم ذلك الإنسان الذي مزج أحلامه بطعم المرمية والزعفران، وراح يحلق في السماء رافضاً الهوان، رغم تكلس قدميه، وتكسر الحركة على جبل الحرمان.

       في السجون لا يكون الحرمان من الطعام أو الشراب، ولا يكون الحرمان من مباهج الدنيا ومتعها، ولا هو حالة الانغلاق على السمع والقدمين والعينين وباقي الحواس، الحرمان في السجون كل ما سبق، مضافاً إليه تلك الحالة من الإبحار في أعماق الوجدان بلا أشرعة أو مراكب، عندما تعصف رياح الشوق بآلاف السجناء العرب الفلسطينيين الذين ما زالوا قابضين على الوطن، وما زال الوطن يقبض أنفاسه لبقائهم في السجون الإسرائيلية!!

      يا با، يا أمه! كلمات بسيطة يرددها الناس، وتعبر في فضاء الحياة بلا انتباه إلى عمق دلالتها، فإذا اقترنت بوخز شوك الحرمان، ولسع إبره، صارت لفظة يا با، ولفظة يا أمه، أجنحة طير يرفرف مذبوحاً بالحنين والحنان، صارت اختناق للتنَفّس، واحتباس للدموع !

       آلاف السجناء العرب الفلسطينيين انطبع وجدانهم بتجربة الأسر التي علقت في سقف حلوقهم حلاوة ومرارة؛ أما الحلاوة فهي مذاق المقاومة والصمود، والقدرة على التحمل، عندما يكتشف الإنسان أن لديه من القوة وطاقة الصبر أكثر مما قدّر، وحَسِبَ، وأبعد مما ظنّ بنفسه، عندما يكتشف الإنسان المنتمي بصدق أنه بقامة جبل تتعلق علي رقبته الوحوش، وأنه بسعة بحر تذوب في مياهه الأسرار، فما أندى عذوبة الصمود لمن اقتنع بالحق الذي تمسك به، وما أحلى عذوبة ماء العطاء لمن صفت سريرته لما آمن به، فصفّقتْ له ملائكة السماء.

       عند المساء يخبط طائر الحرمان بجناحيه، يرفض أن يبتعد عن السجناء، عند المساء يسقط الصمت الخاشع، يذوب في كوب الشاي الذي ينشط الذاكرة للأم والأب، وللأخ والأخت، وللابن والابنة، وللزوج والزوجة، أين هم الآن، ماذا يفعلون، كيف يكبرون، وكيف يشيخون؟         آنئذٍ يرفرف الخيال بأجنحة من نور، يحلق في المدى البعيد، يحتضن من اشتاق إليه السجين، يضمه في الخيال، يروي ظمأ الشوق، ثم..

      يشهق السجين أنفاسه بعد غفوة الخيال العذب، لقد أخذ وأعطى؛ ولا يدرك معنى لذة العطاء إلا من جربها، من لم يعط لا يشعر بالنشوة التي أصف، فللعطاء رعشة تفوق لهفة الآخذ، وللتضحية دلالة تفوق الاستئثار، لأن ذاك يعطي ولا يهاب، وهذا يأخذ ويضطرب،  وذاك يُسلّم مطمئناً، وهذا يأخذ قلقاً، يدرك هذه الحقيقة من خبر الصمود في التحقيق بين يدي اليهود، عندما يشعر الفرد الأعزل ـ إلا من إرادته، وما اقتنع به ـ يشعر بقوة تفوق قوة المحققين اليهود المجتمعين على جسده، وأجهزة التعذيب التي يمتلكونها، تلك الحالة من الثقة والاعتزاز بالنفس تدخل ضمن المركب النفسي للأسير الذي يشعر أنه عبر عن بحر الموت الهائج دون أن يبتل، ويشعر أنه تخطى صراط الخوف من المجهول وعبودية المقدرة المحدودة، وانتقل إلى مربع التحدي المطلق، مع حرية النفس من قيودها، ونسيان كبول الجسد.

        أما المرارة فهي لتلك الحالة الإنسانية من الحرمان المتولد من البعد، والذي يحضنه الشوق والتفكير بالعائلة والأسرة والأولاد، تلك اللحظات من تشقق الروح، وتقاطر الوجد على ملح السفوح، تلك اللحظات التي تتسطح فيها الذاكرة إلا عن حنين يتدافع للحبيب، ورغبة تضرب بحوافرها الأرض، وتتزاحم لاقتناص مشهد عبر يوماً، أو لتخيل مشهد قد يعبر يوماً، حالة شوقٍ منطلقٍ كفرسٍ في البراري، تلك الحالة من الحرمان التي يتوقف معها القلب ليعاود النبض بذكر الحبيب، ويفرغ فيها صدر الأم من الأنفاس فيعاود التدفق بلبأ الحليب، عندما تتحشرج لفظة (يا أمه) و (يا با) في الحلق ولا تجد أصداءها، عندما يتضاعف السجن قبل أن يهمس السجين بينه بين وبين نفسه سراً؛ (يا با) (يا أمه) قبل أن تضيع في زحمة الانتظار، وقبل أن يبددها زمن الترقب الجارح بمخالبه، وقبل أن تبهت دلالتها مع اللهفة، ويخبو بريقها في الزحام، قبل أن تبدأ اللفظة بالانطواء على ذاتها، والانضواء بالغياب، (يا با، يا أمه) أمنية بعيدة المنال، كلما حاول السجين ترديدها، أو استعادة حروفها يجد أنها تبتعد، وتوغل في البعاد، حتى لتكاد أن تتلاشى، فتصير إذا اجترعها حروفاً حارقة تسبب له اللوعة والغرق.

        ذات يوم في عام 1987 قلت للشهيد عمر القاسم في سجن عسقلان، وكان قد أمضى ما يقارب العشرين عاماً قبل استشهاده بقليل، قلت له: أنت يا عمر أحسن حالاً مني، أنا أفكر في أطفالي ليل نهار، بينما أنت خالٍ من هذا الهم والتفكير، تنهد عمر القاسم رحمه الله، وقال وهو يسند ظهره على الحائط الجنوبي من سجن عسقلان:

        يا ليت لي ولداً يا فايز، يحمل اسمي، وأحمل همه وأنا في السجن!! لم يمض زمن طويل، استشهد عمر القاسم في السجن وهو في ريعان الشباب، وخلد ذكره بالشهادة، بينما صديقه سعيد العتبة ما زال يرفض أن يتمم عامه التاسع والعشرين في السجون الإسرائيلية!

         ترى لو أعيد السؤال على السجينة العربية الفلسطينية منال غانم التي ما زالت تمضي سنوات عمرها مع طفلها نور خلف القضبان، لو سئلت: ماذا تفضلين يا منال؛ أن يظل الطفل نور ـ ابن سنة ونصف ـ الذي ولد في السجن إلى جوارك سجيناً، أم أن ينضم إلى إخوته الثلاثة في الخارج؟ ماذا كانت سترد على السجينة قاهرة السعدي لو تحاورتا معاً؛ أيهن أسعد حالاً، أم أيهن أشقى!! منال غانم التي تربي ابنها في السجن، وأخوته الثلاثة خارج الأسوار، أم قاهرة السعدي التي لم تر لأولادها الأربعة صورة منذ أربع سنوات؟؟؟؟

        من مفارقات اللغة العربية أن أحدى السجينات العربيات الفلسطينيات المحرومات من أطفالهن تحمل اسم (قاهرة) ويحمل زوجها اسم (ناصر) ولكل من قاهرة وناصر السعدي من اسمه نصيب، وللمجتمع العربي دلالة الأسماء، وصدق الوفاء، لعظة الشرفاء، وعظمة العطاء.


* الكاتب حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين
fshamala@yahoo.com

تاريخ النشر : 17/04/2005