نانسي عجرم والشعر؟

د. فايز صلاح أبو شمالة


        لم تخطئ صحيفة "نيويورك تايمز" عندما حددت الشخصيات المؤثرة في المجتمع العربي، ووضعت المغنية "نانسي عجرم" ضمن من يؤثر في بناء الوعي والثقافة العربية، وكانت على حق المجلة عندما أسقطت من حسابها الشعر، وكم الشعراء العرب الهائل، باستثناء الشاعر محمود درويش، الذي أسهم في عملية تطوير الوعي، ولم يسهم في تطويعه وفق رغبة الآخرين.
        لعل دقة تقدير مجلة (نيويورك تايمز) لواقعنا العربي يعود إلى سبب موضوعي، وهو أن الشعر العربي المعاصر قد أغلق دكاكينه، وما عاد يجد من يدق عليه الباب ليشتري منه بضاعة شعرية مكتوب عليها، (صنع في الصين) لأن الشعر كما هو معروف يكتبه الوجدان، بلغة القوم التي يفهمونها، ويطير بهم عن وجه الأرض في رحلة روحية فوق الغيم، قبل أن يعيدهم إلى الأرض، مشبعين برذاذ الماء، وقادرين على النمو النفسي من جديد، وهم أكثر استقراراً وأمناً وعظة وحكمة.
        لقد ظل الشعر كلاماً يفوح منه عبير الدلالة، وصوراً تطوف عليها الرؤيا بعد أن فاض بها عميق الإصالة، وللتمثيل على ذلك أستشهد بمطلع أغنية لنجاة الصغيرة، ـ انبعثت من سيارة أجرة بين خان يونس وغزة ـ لقد تنبهت إلى الكلمات التي تمثل فيها المغنية دور طفلة غريرة بريئة في مطلع العمر، تتعلم درس الحب الأول، يخفق وجدانها وهي تقول:

خذني بكل بساطة وطفولـة         أنا لم أزل أخطو، وأنت قديرُ
من أين تأتي بالفصاحةِ كلِّها         وأنا يتوه على فمي التعبيرُ؟
        ولكن في الزمن الأخير اختلط حابل الشعر بنابل الغثاء، فصار المواطن العربي يأنف عن كل القول المدرج تحت مسمى شعر، لأن البحث عن القصيدة العميقة الدقيقة الرقيقة، وأبيات الشعر المعبر عن حالة صدق، وسليم نطق، تجهد القارئ عدة أيام قبل أن يعثر على ضالته، لذا ينفض يده، ويبتعد عن الخانة المسماة شعر، ويفتش عن أي مادة أخرى، في أي مجال آخر، ليأخذ منها ما يفيد، وما يغني.
        فهل توقف الزمن الذي تحتفل فيه القبيلة بميلاد شاعر؟ يوم كان الشاعر مدرسة فكرية وحجة لغوية، وآفاق علمية، وخبرة اجتماعية، ودراية نفسية، يوم كان ميلاد الشعر على فم الشاعر إعلان تخرج من جامعة التجربة الحياتية، وبدء ممارسة طقوس القول المؤثر في النفس، والصياغة التي تنعكس على مرآتها غيوم ونجوم علوم العصر، والتراكيب المتأنقة مثل مغنية في القرن الواحد والعشرين؟.
        وهل تحرك الزمن الذي طفح بمن يسمون أنفسهم بالشعراء، فلا دراية لهم باللغة، أو التراكيب، ولا معرفة لهم بالأوزان، أو تذوق للإيقاع، ولا ثقافة عامة لديهم، أو خبرة حياة عملية، ولا أفق لهم يتجاوز المحسوس، ولا خيال لهم بأجنحة، ولا جنوح في التصور أو جموح متزنٍ في جمع المختلفات، فقط جماعة تنهرهم الرغبة في حشد مفردات لغوية متفككة دون رابط بينها، أو أي إشارة رمزية إلى شبه علاقة بين الألفاظ، فقط كلام ملقى على ورق، كلام فقد العاطفة والإثارة، كلام خلى من الأحاسيس الإنسانية، فقط مجموعة حروف تلاصقت، وتوزعت، وتناثرت، وتجمدت جثث محنطة بلا حياة.
        سأضرب على ذلك مثلاً؛ وليرشدني القارئ العربي إن هزه هذا الكلام الذي صفه صاحبه السيد ( عثمان حسين من رفح) على هيئة شعر، ونشره في كتاب تحت مسمى ديوان شعر بعنوان (له أنت) سأكتب حرفياً ما هو موجود في صفحة 70:
        انتهيت من قهوتي الفاخرة
        وموسيقى فيفا لدي تملأ الحيز منذ نهاريْن
        حبذا لو أخذتُ العزَّة من عاشقيها
              وحده الحذاءُ أطلَّ من جانبِ ملفتِ
        حدّق فيَّ
        تدخَّلَ بورخيس (غلاف الصانع)
        وفي لحظةٍ غاية في الضعف
        انحنت فاتورة الكهرباء
        قهقهة الحذاء
        ابتسمت

      ما الذي يجمع هذه الكلمات المتضاربة المتعارضة على بعضها، أي فكرة تكمن وراء هذا الكلام؟ ما المغزى منه؟ وما المضمون؟ ماذا يستفيد القارئ من هذا الحشد اللفظي؟ أي انفعال أو إثارة تخطف المتلقي؟ ماذا تخلف هذه المفردات وراءها من أثر في النفس وقد تخلت عن دلالاتها؟ ما العلاقة بين ( القهوة، وفاتورة الكهرباء، وقهقهة الحذاء، وبورخيس، وغلاف، وابتسمت)؟ أي إنسان امتلك حساً، وذوقاً يستطيع أن يواصل قراءة ديوان شعر يضم مثل هذا الكلام الذي ينفر القارئ من كل صنف الشعر، ومن حروف كلمة شعر، ومن شعراء؟!
      ربما الأخ عثمان حسين الذي كتب ما سبق، صدق ما يقال عن شعر حر، وعن حداثة، وما بعد الحداثة، وعن كثير الكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع فكري، وعبر بكتابة عفوية عما ظنه شعراً، أو قيل له: أن هذا يمثل آخر ابتكارات الشعراء في زمن الحرية، أو هذا هو شعر الانطلاق من أغلال الأوزان، وقيود التصوير، أو أي مسمى آخر، فسار على الطريق السهل في التعبير دون أن يتنبه أن مثل هذا الكلام يمس الذائقة العربية ككل، ويهين صنف الشعر، ويؤكد مقولة: ما فسد قليله، فكثيره فاسد!!.
      إن ما نحن فيه من فقدان لمكانة الشعر ليس عفوياً، إن وراء الأمر فعل فاعل، وصناعة محترف في تدمير الشعوب، يقول اليهودي ميلون كوندورا، في كتاب الضحك والنسيان، صفحة 143 لكي ندمر الشعوب علينا "بداية أن نزيل منهم الذاكرة، ندمر كتبهم، ثقافتهم، وأجيالهم وكل من سيؤلف كتبأ أخرى من أجلهم، ثم نقدم لهم ثقافة أخرى، إيجاد تاريخ آخر، بعد ذلك رويداً رويداً يبدأ الشعب في النسيان، ينسى ما كان عليه في الماضي، وما هو عليه اليوم، والعالم من حوله كذلك، يسبقه إلى النسيان"
      إن الشعر العربي مستهدف، وفي استهدافه يكون المستهدف هو الوعي الجمعي العربي، لقد تآمر الأعداء على الشعر العربي قبل أن يتآمروا على الأرض العربية، وأبعدوه عن ميدان التأثير القادر على استنهاض الجماهير عمداً مع سبق الإصرار، وأن وراء السكين التي قطعت رقبة الشعر يد خفية تعرف ماذا تريد، وإلى أين ستمضي في احتلال النفس العربية بعد أن احتلت الأرض، جهات سياسية، وفكرية دولية تهدف إلى تجريد الإنسان العربي من مقومات تماسكه وبقائه، ووجوده مخلوقاً قادراً على ممارسة الحياة.
      فهل يصدق عاقل أن كل هذه الفضائيات التي تبث أغنيات هابطة على مدار اليوم تنطق عن الهوى، وبلا هدف يكمن في رأس مطلقيها؟
      أيصدق عاقل كل هذا العدد من المغنين ومن المغنيات المتنامي أكثر من حقل شعير في الشتاء بلا رعاية أجنبية، وبلا تخطيط ممنهج لإفساد الأجيال؟
      أيصدق عاقل أن كل فاسدي السلطة الفلسطينية نموا بشكل عفوي دون حرث وغرس وتخليل، وتحليل دم، وتسميد، ودون رعاية في دفيئات، ودون تربية في مزارع خاصة، ولهدف معروف في رأس الراعي!!!
      في ديوانه الرائع الوحيد، (إلا الشعر يا مولاي) كما وصف ذلك د. وليد قميحة، والذي يدل الاسم فيه على المسمى، ويبوح فيه الشاعر بالمضمون الذي يدافع عن قداسة الشعر، يقول الشاعر المصري فتحي سعيد:
        علمني الشعر
      فإن الشعْرَ خلود الأزمان
      عَلًّْمْنيه
      فإنك أَدْرَى بالقافية
      وبالخافية من الأوزانْ
      عَلًّمْني كيف أصوغ من الكلمات
      عقود اللؤلؤ والمرجانْ

    هذا هو الشعر الذي أبحرت في معانيه الكلمات، وتحددت فيه مهمة الشعر بالصياغة، إنها صياغة عقود تتدلى على الصدر، وما دامت عقود فهي منظومة بتماسك، لها أول ولها آخر، ولها واسطة، تعبر عن فكرة بالنغم، فيها ترتيب، وتسلسل، وتعطي انطباعاً مريحاً في النفس، وقادرة على تحريك ردة فعل استحسان أو تعاطف أو نفور لدى المتلقي.
    بذات المضمون يصور الشاعر الفلسطيني محمود درويش الهم الذي عانى منه اللاجئون الفلسطينيون عشرات السنين، بعد تهجيرهم من بيوتهم وعن زرعهم وحلالهم في فلسطين، يقول في أبيات شعر معدودات ما يفيض من المعاني التي تحرك ضمن سياقها العام في الديوان، تحرك الماء تحت الصخرة الصماء، يقول:
    لماذا تركت الحصان وحيداً؟
    لكي يؤنس البيت، يا ولدي،
    إن البيوت تموت إذا غاب سُكَّانُها

    بهذه البساطة في التعبير يكون التجاوب، والتأثير، إذ ليس في ترك الحصان دلالة الإصرار على بقاء بيوت اللاجئين حية في قلوب أصحابها، رغم طردهم منها عشرات السنين، وإنما للتعبير عن تعمق قيمتها في قلوبهم، وهو ما يدفعهم إلى محاولة الإبقاء على البيوت مستأنسة بكل غالي في حياتهم، فالبيوت لدى أصحابها أهم من وحدانية الحصان الذي ظل يؤدي مهمة شاقة، وظل شاهداً على وجود الحياة، وتواصلها.
    يضيف الشاعر محمود درويش شعراً تهتز له ذرى الذاكرة، ويتساقط ندى على أخاديد الوجدان، وهو يخفق بعد خمسين عاماً بقلب لاجئ فلسطيني طرده اليهود من بيته، وأرضه، فراح يصف حاله وحال ماضيه، يرسم معالم مستقبله ومستقبل الأرض وهو يقول:
      _ يا أبي خفف القول عني!
      _ تركت النوافذ مفتوحة
      لهديل الحمامْ
      تركت على حافة البئر وجهي
      تركت الكلامْ
      على حَبْله فوق حبل الخزانةِ
      يحكي، تركت الظلامْ
      على ليلهِِ يتدثَّرُ صوفَ انتظاري
    تركت الغمامْ
    على شجر التين ينشر سروالَهُ
    وتركت المنامْ
    يتجدد في ذاته ذاته
    وتركت السلامْ
    وحيداً، هناك على الأرض.....

    وبالمضمون ذاته يقول الشاعر الفلسطيني المتوكل طه في قصيدة لمدينة رفح، ما يعيد تعبيد الطريق للشعر الجماهيري الذي تآكل بفعل الواقفين على سياج الشعر، يهدمون، ويعفرون على رؤوس السكن، يؤكد الشاعر المتوكل طه أن للشعر دوره الريادي، وتأثيره الفاعل المحرك في الساحات، يقول الشاعر العربي الفلسطيني المتوكل طه:
      مهما استباحوا بأرض الله واجترحوا         لن نرفع الراية البيضاء يـا رفح
      ولو أعادوا لنـــا القتلى بمعجزةٍ         وأَعذَرَ الشهداءُ الموتَ أو صفحوا

يا ليت كل من يحاول أن يمسك بالقلم أن يكتب شعراً له مضمون، وله دلالة، وفيه عبرة وحكمة، ويفيض بالعواطف الصادقة، ضمن إيقاع ترق له الأذن، ويحلق بخيال تهفهف له الروح، يثير في النفس حالة من الانفعال، أو ليصمت، ولا يسهم في التدمير إن لم يكن قادراً على التعمير.

* الكاتب حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين
fshamala@yahoo.com

تاريخ النشر : 16/5/2005