لا بقاء لبقايا بيوت الغاصبين في قطاع غزة

د. فايز صلاح أبو شمالة

 

        من الخطأ أن نمل الحديث في شأن بقايا بيوت الغاصبين، لأن الأمر جد خطير، وبقاء البيوت يمس بإنسانية الفلسطيني الذي لم يحتل للغاصب أرضاً، ولم يدمر له بيتاً، ولم ينسف له زرعاً، ولم يستأصل له نسلاً، بل على العكس من ذلك، لقد فعلها الغاصبون اليهود، ويحاولون غسل السكين من دم الضحية!!

        إن العربي الفلسطيني أمام امتحان صعب، وهو مراقب في سلوكه، وكيفية تصرفه من العالم أجمع، لأن الفرق شاسع بين موقف متحضر يدعيه اليهودي، وموقف متحجر يحاول أن يلصقه بالعربي الفلسطيني، ففي عدم هدم بيوت الغاصبين يرفض اليهودي أن يكرر ما مارسه من قبل، لئلا يثير أشجان الماضي، ويحك جلد الحقيقة، ويذكر العالم بما فعله بالفلسطينيين عشرات السنين، فترك لنا بيوت الغاصبين ليحملنا وزر اقتلاعها، ترك مخلفاته بين يدي الشعب الفلسطيني الذي تهيّضه الذاكرة، وسينقض على بيوت العنكبوت بالتدمير والتحطيم والنهب، فيبدو الفلسطيني مخرباً سالباً نهاباً، واليهودي كريماً عفيفاً إنساناً.

        لقد توالت تصريحات اليهود في هذا الشأن على كافة المستويات، بدءً من نائب رئيس الوزراء عرّاب التسوية مع العرب "شمعون بيرس"، وليس انتهاءً بوزير الحرب "شاؤول موفاز"، مروراً بأعضاء الكنيست، وقادة الأجهزة الأمنية، والصحفيين، الذين أيدوا بقاء بيوت الغاصبين، بل وتسويقها على ممثلي البنك الدولي، ليقبضوا ثمنها مرة من أمريكا، وأخرى من البنك الدولي، وثالثة من المجتمع الدولي، ورابعة من الشعب الفلسطيني، لقد أظهرت استطلاعات الرأي وفق تقديرات الخبير الاقتصادي ومحلل الاستطلاعات اليهودي "سيفر بلوتسكر" أن نسبة 75% من الإسرائيليين مؤيده لعدم هدم وإزالة بيوت الغاصبين، والتقديرات الاقتصادية أفادت أن تكلفة الإزالة تقدر بمبلغ 200 مليون دولار، والتقديرات الأمنية أعطت خمسة أشهر عمل مرهق، ومعيق للخطة، كل ذلك يجري في إسرائيل بينما القيادة الفلسطينية في منأى عن الحدث، وكأن ما يتداول من بالونات اختبار، وما يتناوله اليهود من نقاش شأن يتعلق بجزر المالديف، أو شمال أيرلندا، أو في بلاد الشرق النائي!!!!

        لم يصدر حتى اليوم عن القيادة الفلسطينية ما يؤكد أن هذه البيوت التي أقامها الغاصبون غير قانونية، ويجب إزالتها، ويتحمل المسئولية عن ذلك الغاصب، وعليه أن يسلم للسلطة مبلغ 200 مليون دولار ثمن هدم وإزالة البيوت، ومثلها ثمن نقل ركامها، خلافاً لقيمة اغتصاب الأرض عشرات السنين، وتدمير مواردها، وامتصاص خيراتها، وقتل مستقبل أبنائها، إن ما قدمه الكاتب اليهودي "عكيفا الدار" في صحيفة هآرتس من تبرير لترك بيوت الغاصبين لا يقنع طفلاً صغيراً حين قال: حسب رأي البروفيسور "إيال ينفنستي" أخصائي القانون الدولي في جامعة تل أبيب، والمتخصص في قضية اللاجئين: أن شارون لا يصنع مع الفلسطينيين معروفاً عندما يقرر عدم هدم منازل المستوطنين، وهو لا يسيء إلى المستوطنين، لأن القانون الدولي ينص على أن على الدولة المحتلة أن تبقي ممتلكاتها سليمة طالما يستطيع السكان الواقعين تحت الاحتلال أن يستخدمونها"، إن هذا الكلام ينافي الواقع الذي عودنا عليه شارون، فهو لا يحترم قانون دولي ولا محلي ما دام الأمر يتعارض مع مصالح إسرائيل، إن في بقاء البيوت معاني ودلالات روحيه يسعى لها شارون، وينظر لها المحللون من ناحية، ومن الناحية الأخرى فإن الفلسطينيين لا يمكنهم استخدام المراقص والخمارات والملاهي التي تنعم بها الغاصبون، ولأن منطق الأشياء يقول: لا يصح أن يأخذ أحد مهما كان بيتاً للغاصبين مساحته ألفي متر مربع، ويظل خمسة عشر فرداً في مخيم خان يونس على بعد عشرة أمتار من المغتصبة يسكنون في خمسين متر مربعاً!!!، إن بيوت الغاصبين لا تتناسب وحاجات المجتمع العربي الفلسطيني، ومصالحه!!.

 

        نحن الشعب العربي الفلسطيني في شوق وانتظار إلى أن يصدر القرار الشافي عن مجلس الوزراء، أو عن رئيس السلطة الفلسطينية، أو عن اللجنة المركزية لحركة فتح، أو عن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، أو عن المجلس التشريعي، أو عن وزير الإسكان، أو عن من يهمه الأمر، نحن الشعب العربي الفلسطيني نتوجه إلى الله بالدعاء قائلاً: اللهم أعط قادتنا القوة على النطق و التفكير، والتصريح والتدبير، وتحديد الموقف من مخلفات الغاصب المغير، واخرج قادتنا من مربع الانتظار على حافة السرير، إلى مربع الفعل الرجولي الهادف إلى التغير، والقادر على التأثير، والصراخ بصوت جهوري قدير، يا أيها الغاصبون: خذوا مخلفاتكم وانصرفوا!!.

        أما أهل غزة فإنهم يرددون: اللهم لا تبقي للمستوطنين في غزة حجراً على حجر، ولا تبق لهم ذكراً ولا تحفظ لهم أثر، ولا تبقي يا الله لهم نغماً للعزف عليه، ولا وتر، اللهم لا تسقي ديار اليهود الأمن ولا ترش عليهم المطر، وانزل عليهم يا الله بأس من لا يخافون الموت ويخافونك، ومن لا مطمع لهم في سقط الدنيا، ويهابونك، اللهم اهدي قادتنا السياسيين الفلسطينيين إلى العمل على نسف بيوت الغاصبين، وذر رمادها في عيون الطامعين الساقطين، اللهم افتح قلوب المسئولين الفلسطينيين المخلصين على خطر بقاء (المازوزه) على باب البيت الذي سيظل شاهداً على تعاليم اليهود، وعاداتهم، وأطماعهم، وعلى نجمة داوود التي تزيّن كل المعاني، وتأسست على هيئتها في المغتصبات كل المباني.

        إننا في فلسطين لا نريد أن نمسح بأيدينا على (المازوزه) عند الدخول والخروج من البيت، ولا نرغب في أن نتأمل في معابد اليهود وكنائسهم، ولا أن نستلهم قبلتهم، ولا نريد أن نبقى مكاناً كان مدفناً لهم، ولا نرغب أن نضع أيدينا على مقبض الباب، في المكان نفسه الذي لامسته يد من قتل أبنائنا, ولا نريد أن نحلم على الطريقة اليهودية في البيت الذي سكنه من اغتصب ثمرنا عشرات السنين، ولا نريد أن نحلّق في آفاق اليهودي الذي حاصر سماءنا، ولا نريد أن يتفتح الصباح على بعض أهلنا تحت سقف ظلل اليهودي يوماً، وحماه، ولا نريد أن نأكل على الطاولة التي أكل عليها اليهودي الغاصب، ولا نريد أن نطبخ طعامنا بأواني اليهودي، ولا أن نغتسل في المكان الذي اغتسل فيه الغاصب، فكل شيء يذكرنا بدمنا الذي سال، وبلحمنا الذي تنتف، وقلوبنا التي تعلقت صوراً على الجدران، وبأرواح شهدائنا التي تذرف الدمع على من يطمع بالنوم على فرشة اليهودي.

         نحن شعب لنا مشاعرنا وأحاسيسنا وانفعالاتنا وحزننا وأحلامنا، وطموحنا، وخططنا المستقبلية للأرض التي تنظر أن نمسح عن ظهرها وشم الأعداء، فأرفع عنا يا الله هذا البلاء، وخفف عنا ما يرتب لنا من أعدائك في العلن والخفاء.

        للآخر الموت حتى لو فتش عن ارخص حياة.!!!


* الكاتب حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين
fshamala@yahoo.com

تاريخ النشر : 15/04/2005