تكمن منطقية التبريرات التي ساقها (شاؤول موفاز) لتقصير زمن إخلاء المستوطنات من ثلاثة شهور إلى شهرين، ثم إلى شهر واحد، وربما أقل من ذلك، تكمن في أنها واقعية، وتنسجم مع الأوضاع السياسية والحزبية العامة في "إسرائيل" ، وهي تبريرات مقنعة جداً فيما لو استمرت فكرة الإخلاء في تدحرجها، ونجحت في الخروج من دائرة التنظير إلى ميدان العمل والتنفير، ولكن ذلك كله بعد 31/3/2005 ، الموعد النهائي لإقرار الميزانية للدولة العبرية، أو بمعنى أخر تجديد الثقة بالحكومة "الإسرائيلية" الحالية التي يترأسها شارون.
لقد ناقش شاؤول موفاز الأمر مع وزير الأمن الداخلي جدعون عزرا، ومع رئيس دائرة الانفصال، وكبار قادة الجيش، والشرطة، والشباك، وأعرب موفاز عن خشيته من أن شهرين من الإخلاء ستمكن معارضي الفصل من إعاقة استكمال الفصل، وتجنيد المزيد من المؤيدين لهم في نضالهم، ووفق كلام موفاز: فالمطلوب جهد مركز وإخلاء متواصل قدر الامكان لا يتوقف إلا يوم السبت، لئلا تدنس حرمته.
إنه الخوف الجدي، والحذر الشديد من فشل تنفيذ خطة إخلاء المستوطنين، أو (عودة الأخوة) كما يسمونها، ومبررات هذا الخوف تكمن في ما يعده المستوطنون من خطط لإفشال خطة الحكومة، ولكن حتى ذلك التاريخ فلن يخرج المستوطنون عن المألوف في حربهم ضد الإخلاء، سينتظرون، وسيكتفون في هذه المرحلة بالنشاط التقليدي في إعداد المجتمع "الإسرائيلي" ، وفي استقطاب وتشجيع عناصر اليمين، والمتدينين على عدم التصويت لصالح الميزانية، وهي الخطوة الأهم بالنسبة لهم في المرحلة الراهنة، والضامن الأكيد لسقوط حكومة شارون، ومن ثم الذهاب المبكر إلى الانتخابات، وفي ذلك حل مشرف لكل الأطراف المتشددة في "إسرائيل" ، بما في ذلك المستوطنين، وأنصار شارون الذي سعى سياسياً بكل ما أوتي من قوة لتمرير خطة الفصل، ويمثل سقوط الحكومة كذلك حلاً مشرفاً للمتمردين من حزب الليكود، فذلك يخرج الجميع من
التحرج الحزبي الذي بات يضغط لإجراء استفتاء، لاسيما بعد أن حيد أعضاء المركز كل مؤسسات الدولة العبرية، ونابوا عنها في قراراتهم الحزبية، بل اعتبروا أنفسهم عصب الدولة، وضميرها الوطني.
إن كل المؤشرات لتؤكد حتى الآن على أن وضع شارون حرج بالنسبة للأغلبية داخل الكنيست، لاسيما بعد أن أعلن متمردو الليكود عن معارضتهم تأييد الميزانية، فلم يتجاوز عدد المؤيدين حتى الآن 55 عضو كنيست من أصل 120، وشارون لا يحبذ ميزانية مقرة بأغلبية من أعضاء كنيست عرب، ولا يستطيع تجنيد أعضاء كنيست يهود أكثر مما جند حتى الآن.
إن هذا الوضع الحاسم لمستقبل "إسرائيل" ، ومستقبل المنطقة ، قد تنبه له شارون من قبل، وطلب سابقاً من مستشاريه إعداد ورقة عمل عن تقديراتهم لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة داخل "إسرائيل" ، وهو ما يعكس تخوف شارون الجدي من فشل حكومته حتى نهاية الشهر، بل ذهب شارون إلى استعطاف النسوة في "إسرائيل" ، ومحاولة التأثير عليهن، وقال في كلمة ألقاها أمام سيدات "منتدى الليكود" في اجتماع في تل أبيب: "إننا اليوم نواجه مشكلة تتمثل بوجود مجموعة داخل "الليكود" تهدد بالتصويت ضد ميزانية الدولة وهو ما سوف يجر سقوط الحكومة برئاسة حزبنا، إنني أتوجه إليكن طالبًا منكن أن تؤثرن على الرجال وتبذلن أقصى الجهود للحيلولة دون سقوط حكومتنا بسبب مجموعة من داخل الليكود".
لقد تعودت "إسرائيل" ألا تقف أمام خيار واحد أكان ذلك على مستوى الدولة أو الحزب، وإنما تعودت على طرح البدائل والخيارات المناسبة لكل توقع، هذا ما تؤكده وسائل إعلام "إسرائيلية" ، وهي تنقل أنباءً مفادها أن مقربي شارون يفحصون إقامة حزب "ليكود جديد"، من خلال تقسيم حزب الليكود الحالي. وقالت هذه التقارير إن مقربي رئيس الحكومة "الإسرائيلي" طلبوا إجراء 15 استطلاعًا لمحاولة التكهن لما بعد انقسام حزب "الليكود"
وأفادت هذه المصادر أن نتائج الاستطلاعات كانت مثيرة حيث تبين أن تشكيل حزب يضم مؤيدي الانفصال برئاسة شارون سيحصل على 44 نائبًا في الكنيست، أما تشكيل حزب يضم بنيامين نتنياهو ومعارضي خطة الانفصال سيحصل على 21 نائبًا في الكنيست.
وصلنا إلى مربط الفرس من الفكرة التي نلهث خلفها، وبغض النظر عن انقسام الليكود أو بقائه متوحدا ً، أو أن ما جري من استطلاع هو مناورة من شارون تهدف إلى إخافة المتمردين في الليكود، ففي الحالتين تعطي استطلاعات الرأي ما مجموعة عدد 65 مقعداً لحزب الليكود في الكنيست القادمة، مقابل 40 مقعداً في الكنيست الحالية، وهذه نسبة في حد ذاتها مغرية لأعضاء الليكود لخوض انتخابات مبكرة، وتعكس توجه اليهود داخل المجتمع "الإسرائيلي" إلى اليمين، وانسياقهم مع التطرف، هذا المعطى الافتراضي يجب التنبه له في المرحلة القادمة، ويجب أن يجلس على كل طاولة مفاوضات داخلية يرتب لها.
إن الشعب العربي بشكل عام، والفلسطيني بشكل خاص أحوج ما يكون إلى وحدة الموقف في الزمن القادم، لاسيما وهو يواجه مجتمعاً يقترب أكثر من مواقف وآراء المستوطنين، وبحاجة أكثر إلى التريث في القرارات الفاصلة، والمواقف الفارقة، لاسيما في هذه المرحلة الدقيقة جداً، إلى أن تنجلي الصورة كاملة داخل المجتمع "الإسرائيلي" ، ذلك لئلا نجد أنفسنا نسير في العراء مرةً، ونصرخ في الخواء مرتين.