النمر الإسرائيلي في قفص الفلسطينيين

د. فايز صلاح أبو شمالة

(1)

 

        بقوة السلاح اقتحم الجيش الإسرائيلي بيتنا في حي الأمل في خان يونس، بعد أن حاصرتنا الجرافات والدبابات في منتصف الليل، حشرنا الضابط الإسرائيلي في غرفة واحدة لمدة ثلاثة أيام، أنا وأحد عشر من أفراد عائلتي، من ابنتي الصغيرة هند فايز بنت أسبوعين، إلى أمي آمنة بنت ثمانين عاماً، مع حراسة من ثلاثة جنود، وكلب داكن شرس، لكن بعد أن تعودنا على الأسر الجديد، وتبادلت مع الضابط أحاديث السلام باللغة العبرية، طلب مني الرحيل عن بيتي مع كل أولادي في منتصف الليل تحت أزيز الرصاص وتهديده، ليمكث الجيش يوماً أضافياً مسيطراً على البيت، يطلق منه النار على المارة.

         أربعة أيام لم ننم في غرف بيتنا، ونام الجنود على فراشنا، لم يضمنا دفء العائلة، وتدثر جنود بني إسرائيل بشراشف بيتنا، عدة أيام تاه مصيرنا، ونحن نتوسد الجدار، وألقت بنادق جند إسرائيل رأسها على وسائدنا، حبسنا أنفاسنا في بحر التحسب والصمت، وتنفس الرصاص الإسرائيلي هواء بيتنا، أصابنا وجع التشتت، وارتاح الجنود هانئين في دورة مياهنا، وانتعشوا في حمام بيتنا، تعفرنا بغبار الهجرة الثانية أو الثالثة، وتمرغوا فرحين على ترابنا، وأراحوا أبصارهم على مناظرنا المرتهنة للقلق والفزع.

        ترى ماذا يدور بخلد قائد المجموعة الإسرائيلية الضابط (نير) كما عرف نفسه لي، عشية 29/12/2004، وهو يختطف عائلة كاملة، يضع أفرادها رهينة في قبو البيت كي يضمن سلامة جنوده الذين استولوا على الطابق العلوي، وحولوه إلى موقع عسكري؟

        هل أمّن له وجودنا تحت الحراسة عدة أيام السلامة له ولجنوده من هجمات المقاومين، هل ضمنت سوء إقامتنا حسن البقاء له رغم أنفنا، هل سواد أيامنا شرط لنجاح العملية العسكرية التي أسماها الصفيح البنفسجي؟   

        أعترف بأنني حرصت من جانبي منذ اللحظة الأولى على طمأنة الضابط بأن لا سلاح لدي في البيت، وأن أخر مرة حملت فيها السلاح كانت سنة 1984، وكان ضد جنود جيش الدفاع الإسرائيلي، كان ذلك قبل دخولي السجن، ومنذ خرجت من السجن مع توقيع اتفاقية أوسلو 1994حتى الآن لم أمسك السلاح، وقلت له باللغة العبرية: أن بيتي لا يسمح بدخول السلاح إليه لأنه مكشوف على الموقع العسكري، ومراقب جيداً من كل الجهات، ومع ذلك أصر الضابط الإسرائيلي معتذراً على تفتيش كل الذكور شخصياً، وأصر أن يشمشم الكلب كل شيء في البيت حتى سجادة الصلاة التي أخرجت أمي من صمتها، فنهرت الكلب، وهي تصرخ على الكلاب الذي يقوده.

        في البداية ارتعب الأولاد والبنات من هول المفاجأة غير المتوقعة، ومن منظر الجنود المدججين وهم يحشرونهم في غرفة صغيرة ويرفعون في وجوههم السلاح، ارتعبوا من كمية السلاح الثقيل في يد من يصعد من جنود إسرائيل السلالم إلى الطابق العلوي، ومن هدير الدبابات وعفير الجرافات، ومن أنين السور، وتوجع الأشجار التي راحت تنطحن تحت عجلات الجرافة العسكرية الضخمة التي تمتلك قوة شمشون، سمعت تأوه الأولاد والبنات مع صرخة كل شجرة، ومع فرقعة صوت كل لوح (أسبست) أو (زينكو) ينطحن تحت شفرة الجرافة، كأن علاقة شوق نشأت بين الأولاد وبين محتويات البيت، فصارت الأشياء كائنات حية تحس بهم ويستشعرون بها.

        رويداً رويداً تشرب أفراد عائلتي ثقتي بفشل وضعف من هم أمامي من جنود، لقد أدركت من اللحظة الأولى التي صرخت فيها باللغة العبرية على القائد: أنا صاحب البيت، من أنت، وماذا تريد؟، تعال إليّ هنا قبل أن تصعد إلى بقية الطوابق! استجاب الضابط لندائي، واستجبت لتقديري أن المجموعة العسكرية الإسرائيلية المسلحة تخاف أن تبقى وحدها في البيت، لذا ستتخذنا ساتراً، وتأخذنا رهائن لفترة زمنية محددة، بدا ذلك رعباً تطفح به عيون الجنود، فلم ترتفع لهم سبابة عن الزناد، ولم تذبل له عين من الحياء، كل الوقت يمارسون دور المقاتل على جبهة نار تصطلي رغم عدم تعرضهم لأي إطلاق نار فلسطيني.

         عند الفجر وبعد طول نقاش؛ أقنعت الضابط الإسرائيلي بأن وجود الكلب بيننا لا مبرر له، وأن على جوارنا غرفة فاضية وفرشة يمكنه أن يضع الكلب والكلاب فيها، وافق الضابط على ذلك، وتنفس الأولاد الصعداء، وأنا أشكر الضابط الإسرائيلي على إنسانيته، وأكمل بالعبرية أنت مثل الحاخام اليهودي الذي جاءه عربي يشتكي من ضيق بيته، فنصحه أن يضع الماعز في الغرفة التي ينام فيها، وبعد يومين عاد إليه شاكياً من زيادة الزحام، فقال له الحاخام: أدخل الحمار إلى الغرفة، فازداد الضيق والزحام، فقال له الحاخام: أدخل البقرة، في اليوم التالي عاد العربي إلى الحاخام غاضباً من ضيق المكان، فقال له الحاخام: أخرج الماعز، وفي اليوم التالي سأل الحاخام العربي: كيف الوضع في بيتك، قال العربي: شكراً لنصائحك يا حاخام، وبعد أسبوع قال الحاخام للعربي: أخرج الحمار، وسأله في اليوم التالي: كيف الوضع؟ قال العربي: إنه رائع، قال له الحاخام اليهودي أخرج البقرة، وبعد أيام سأل الحاخام عن الوضع في البيت، قال العربي: إنني في نعمة وألف خير، بارك الله في نصحائك يا حاخام! ابتسم الضابط وقد أدرك مرماي.

        في اليوم التالي أكدت للضابط (نير) بأننا أسرى حرب، وعليه أن يطبق على عائلتي الصغيرة اتفاقية جنيف الرابعة، عليك أن توفر لنا الطعام والشراب والمأوى المريح والدواء والأمن، وأبلغك من هذه اللحظة بأنني سأتقدم بشكوى إلى المحكمة في إسرائيل على كل ممارسات جنودك في بيتي، وأطلبك شاهداً على ذلك، فكن حذراً!

        كان ذلك مؤشر قوة من جانبي، ومؤشر عدوان من جانبه، فقد حرص الضابط الإسرائيلي على توثيق كل ما قدمه لنا من طعام وشراب ودواء، احضر آلة تصوير حديثة وراح يلتقط الصور لنا، فعندما سمح لأطفالي الصغار بالجلوس في حضني؛ أحضر المصور، ووثق هذه اللحظة بالصورة، قلت له هذا تعامل إنساني، ولكن ماذا تسمي دخولك البيت بالقوة والسيطرة عليه ووضعنا في هذا لمكان؟ وعندما قدم لنا زجاجة عصير برتقال؛ أحضر المصور، ووثق اللحظة الإنسانية، وكتم تحت هدير الجرافة صرخات أشجار الليمون والبرتقال التي تحيط بالبيت، وعندما أحضر لنا بعض التمر، وثق ذلك مع الصورة، وأخفى تكسر جذوع خمس نخلات من نوع ( حيّاني)، وعندما قدم لنا بعض لحوم الحبش المعلبة، عمل زفة وانتظر مني الشكر، ولم يأذن لي بإطعام العشرات من طيور الحمام، والفراخ التي حاصرتها الدبابة في الحظيرة بالجوع والعطش حتى الموت، وعندما اقتلعت الجرافة الإسرائيلية عشرات أشجار الزيتون، قدم لنا الضابط السمح الإنساني علبة زيتون من الصفيح مكتوب عليها (تصاهل) أي جيش الدفاع الإسرائيلي.

        في اليوم الثالث، ضاق الضابط ذرعاَ، وبان الخوف في عينيه وأنا ألح عليه في الطلب بإجراء اتصال تلفوني مع قيادة حماس، لأن ذلك في صالحه وصالح جنوده، وفي مصلحة أولادي أيضاً، قال: كيف ذلك؟ قلت له: المسافة الفاصلة بين بيتي وبين حي الأمل ثلاثون متراً، والأرض هنا رملية، فلو بدأ رجال حماس في حفر النفق سيصلون إليك في عدة أيام، وأنت تذكر ما جرى في موقع "كفار دروم" على طريق دير البلح، وفي معبر رفح، اسمح لي بمحادثة أصدقائي من حماس ومن كتائب الأقصى لأبلغهم بأننا ما زلنا في بيتنا، أسرة كاملة رهائن، وأطالبهم بعدم القيام بأي عمل عسكري قد يعرضنا للخطر! لم يعط الضابط جواباً، ولم يسمح لي باستعمال التلفون، ولكنه بدأ يجري اتصالاته فوراً مع القيادة.

        لقد أدرك الضابط أن بقاءنا رهائن بات مقلقاً له، ومكلفاً، ومتعباً، لاسيما أن الصغار من أولادي قد كسروا حاجز الخوف، وراحوا يسخرون من الجنود ويشتمون، ويبصقون ويصهلون ويكركرون ويصرخون، ويركضون، ويبول الأصغر منهم على نفسه، ويعملها بشكل مزعج وطارد لكل غريب ومحتل عليه أن يوفر لنا الحليب و"البمبرز".

        قبل منتصف الليل بقليل، قال لي الضابط، جهز أفراد أسرتك للرحيل، لم يعد لكم بقاء هنا، وبعد طول نقاش بالعبرية، أدركت أنه سيستخدم العنف ضد البنات والكبار فيما لو رفضنا الإخلاء، فخرجنا جميعاً من البيت إلى المجهول بالدموع والحسرة.

        لم تتوقف القذائف على المستوطنات رغم عشر شهداء وعشرات الجرحى في محيط حي الأمل في خان يونس، بل تزايد عدد القذائف المتساقطة على المستوطنين مع توغل الجيش الإسرائيلي، وتزايد عدد المصابين منهم، لتنسحب المجموعة الإسرائيلية إلى مواقعها المحصنة في اليوم الرابع.


* الكاتب حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين
fshamala@yahoo.com

تاريخ النشر : 06/04/2005