بكائية يهودية جديدة على أطلال المنازل التي سيتركها المستوطنون، والتي سيظل دمع حجارتها ينهمر على خد الزمان، ويسيل على مدرج البكاء، وستورِّثُ اللّطم لأجيال اليهود المتعاقبة، وستؤرَّخ مع الإضافة والزيادة حتى تغدو أسطورة، وفي ذات يوم، سيأتي يهودي من بولونيا، أو من روسيا، أو من مدغشقر لكي يبكي على البيت الذي تركه أجداده اليهود المستوطنون بالقرب من مخيم خان يونس للاجئين على شاطئ بحر غزة، أو سيأتي يهودي آخر يضرب صدره، ويندب حظه، ويلعن الأغيار الذين يكرهون اليهود، ويحقدون على نجاحهم، فاحتلوا بيوتهم، ودمروا أفراحهم، وهجَّروا أطفالهم، وسرقوا منهم ذاكرتهم بعد أن حرقوا قلوب أمهاتهم.
لقد كتب الشاعر اليهودي ( إيلان شاينفلد) قصيدة شعر عن الانسحاب من غزة، ولأن الشاعر من اليسار الإسرائيلي، ومن أنصار السلام مع العرب، بل ويُعرِّف نفسه للآخرين على أنه صديق العرب، ومن دعاة دولتين لشعبين، وليس من أنصار المستوطنين، وليس من المتدينين، وليس من أنصار اليمين، وليس من المتشددين المتزمتين، فقد نثر روحه بصدق على هذه الأبيات الشعرية التي تحاكي وجدان غالبية اليهود، وتصطدم بما تكلس على جدار قلوبهم، وهو ما لا تخفيه لغة المجاملة، فجاءت القصيدة بكاءً، وتفجعاً على البيوت التي سيخليها المستوطنون، وتصويراً رمادياً للعذاب الذي سيطبق على صدر كل مستوطن.
إن صدق الشاعر في هذه المشاهد التصويرية يُذكِّر كل فلسطيني ببيته، وبيت أبيه وجده الذي أجبر على تركه في فلسطين سنة 1948، مع الفرق الشديد بين مستوطن يهودي اغتصب التراب منذ ثلاثين سنة، وفلسطيني تورث الأرض والبيت عن أبيه وجده، وأقام فيها منذ ألاف السنين، ومع الفرق بين يهودي مستوطن يأخذ المال تعويضاً عن عدوانه، وفلسطيني ما زال لاجئاً في المخيم تحت القرميد، ومع الفرق بين يهودي مستوطن ينقل إلى بيت جديد، وفلسطيني لاجئ ألقي به وبأطفاله على كثبان الرمل القاحل بالجوع وبالعطش منذ سنة 1948 وحتى اليوم، ومع الفرق بين مستوطن لا يعاني من مشاكل الغربة وهموم وطرد وتشتت وضياع وطن، ولاجئ فلسطيني تنكر له العالم الذي يفهم إلا لغة القوة وتبادل المنافع، لقد أيقظ الشاعر اليهودي في قلوب الفلسطينيين ساكن مأساتهم، وحرك تل فجيعتهم، ونبش على فسيفساء الكارثة التي لحقت بهم من اليهود منذ بدأت هجمتهم على المنطقة العربية.
من المؤكد أن الشاعر اليهودي لم يقصد ما ذهبت إليه عن الفلسطينيين، ولم يرد على باله أمرهم، ولكنها لغة التداعي، عندما يسقط دمعة إرهابية كاذبة على نبع الدمع الفلسطيني المقهور فيعكر صفاءه، إن كل عربي سيقرأ القصيدة، سيصل إلى ما توصلت إليه من تفجع على بيوت العرب التي دمرها الإرهاب اليهودي الإسرائيلي، وسينفجر بصرخة تدوي في أذن الفراغ الأصم: تيقظوا يا أيها النيام، يا أيها المستسلمون، تعرفوا على اليهود في إسرائيل، كما جاء ذكرهم على لسان أحد شعرائهم في قصيدة باللغة العبرية أترجمها حرفياً كالتالي:
(1)
ليس هنالك إرهابٌ مظلمٌ أكثرَ من التخلي عن البيت
ومن سحق جدرانه، ومن اقتلاع الأنفاس
ليس هنالك إرهاب مظلم كإخلاء البيت، البيت
الذي يحتضن ذاكرة طفولتي، وأحلام
صباي، وشبابي، وفرحي وحزني
البيت الذي لوحته الشمس في قلبي، وعلى جبيني
وظل كالتعويذة المتوهجة بين محاجر عيني
المقتلعتين، البيت
تل الركام هذا الذي يقال له : بيت
البيت المحطم، البيت المدمر، البيت
الذي يأسر في داخله روحي
وروحي ظلت به أسيرة حتى
موطئ قدم الجنود، وجرافات التراب
البيت الذي تمت المصادقة على هدمه، وقضي أمره
هو البيت الذي ضمني، وهو البيت الذي انتهى
(2)
حزّموني يا إخوتي، حزّموني بالصناديق
التي أعددتموها على عجل، مع رقع
فارغة، ناصعة البياض، كي أضمنها
كل حياتي، وما عليكم سوى التوثيق الدقيق، والتدقيق
هنا كراريس مدرسة، إشارات صغيرة، وهنا كتب أطفال، أشواق
وهنا أطباق، ظلال، صراخ في الليل، إذاعة لحالات الطوارئ
كأس النبي إلياهو في عيد الفصح الذي ليس فصحاً
منظر النسوة والأولاد، دبابة أطفال لعبة محطمة
هنا دمار، ترانيم يوم السبت، ستائر، مساند
هنا بقايا، جذع، بكاء، وتهديد
كافة محتويات البيت من الورع حتى
الحزن، حزموها داخل وسيلة النقل
لنسافر من هنا قطرة قطرة.
(3)
بسقوط بيت أخيك لا تبتهج
بسقوط بيته الغامض هناك، سقط
كذلك بيتك!!!!
إن الشاعر في الفقرة الأخيرة يحذر جميع اليهود في إسرائيل من خطورة التخلي عن مستوطنات غزة، إذ يعتبر سقوط بيت المستوطنين في غزة سقوط لمدينة تل أبيب التي قامت على فكرة استيطانية مماثلة، وبالتالي سقوط دولة إسرائيل بين فكي كماشة التفكيك، فإذا كان هذا تفكير من يقيم في تل أبيب، وينتسب إلى اليسار الباحث عن السلام، فكيف بالمستوطنين أنفسهم؟ وما هي ردة فعل امتدادهم الفكري العقائدي داخل إسرائيل ؟
يصف ذلك رئيس الاستخبارات الإسرائيلية الأسبق (شلومو غازيب) في صحيفة (معاريب) 1/3/2005، يصف أولئك المتمسكين بالمستوطنات في قطاع غزة، يقول "لا شيء سيقنع معارضي إخلاء المستوطنات بالتسليم للقرار الأليم الذي أتخذ في الكنيست والحكومة، إن هؤلاء المعارضون جمهور مؤمن حازم الرأي، يشد من أزره إيمان ديني غالٍ، لا هو مهادن، ولا هو مرن، ومن يعتقد اعتقاداً مخالفاً لهم، فكأنه يعلن الحرب على الله، ومن كان يفكر بهذا الشكل، ويؤمن هذا الإيمان، فإنه مستعد للموت في سبيل ما هو مقتنع به"
لقد سمعت في القصيدة السابقة صوتاً يقول لكل عربي: انتبه، قف وفكر، أنت تواجه أقوام لا تفكر إلا في نفسها، وفي مصالحها، ومطامعها، أقوام لا ترى الآخر، لاسيما إذا رق كنسمة، ومد يداً شفافة كالضياء إلى سلام الضعفاء، إن سقوط فلسطين ما كان إلا المقدمة لسقوط بيروت، وسقوط بغداد، وإذا استمر حال العرب على ما هم عليه، وما لم تتكسر الهجمة الإرهابية على صخرة الصلابة، فإن الطريق مفتوحة لسقوط دمشق، والرياض، والقاهرة، والرباط، وإن من يظن أن حلم اليهود بيت في فلسطين والسلام، أو وطن يضم رفاتهم والسلام، فقد توهم الباطل، وعليه السلام!!
لقد حقق اليهود حلم السيادة على كامل الأرض المسماة فلسطين، ولكن هذه ليست كل أهدافهم، إن رأس أهدافهم السيطرة على شمس الشرق، والتحكم في أشعتها، واحتواء العالم بباقي أعضاء الجسد، لأن لليهود طموح لا يحد، وحلم لا يقوى عليه أحد.
* الكاتب حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين
fshamala@yahoo.com
تاريخ النشر : 07-03-2005