سلاح المقاومة وفرضية كظم الغيظ
بقلم : د. فايز صلاح أبو شمالة

        نحن الشعب العربي الفلسطيني، نعيش على جزء صغير جداً، من جزء صغير جداً من فلسطين، صابرون مرابطون، حالمون بغدٍ أفضل، ورغم ما نحن فيه من ضنكٍ، وما نعانيه من جورٍ، فقد توصلنا إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار مع إسرائيل، التي كانت، وما زالت رأس حربة كل مصائبنا، إن آمالنا في وقف إطلاق النار تمثلت في تفتيت صخرة المأساة التي تسد مجرى حياتنا السياسية، وأن يكسر لوح الجليد الحائل دون انفتاحنا على العالم، وأن يعيننا كل ذلك على تسميد التراب تحت أقدام الأجيال بالكرامة والحرية، مع أننا نعرف بالتجربة التي نخبرها جيداً؛ أن إسرائيل لن يهدأ لها بال، ولن تستكين لوقف إطلاق النار، ما دام هنالك بندقية واحدة غير مرقمة القيد إلى جوارها، لذا ستحرص إسرائيل في المرحلة القادمة على القيام بعملين بعد أن تأكد لها فشل جهودها العسكرية في كسر عنق البنادق المقاومة.

        العمل الإسرائيلي الأول: توظيف اتفاق وقف إطلاق النار لخدمة المصالح الإسرائيلية، والتي تتمثل في نزع سلاح المقاومة بالوسائل الدبلوماسية بعد أن عجزت عن تحقيق ذلك بالقوة العسكرية، أي أنها ستكسر ظهر البندقية عن طريق الإغراء، والضغط على عصب المصالح الحياتية للسكان، وهذه سياسة يعرفها الأسرى الفلسطينيون الذي أمضوا فترات سجن طويلة، فقد كانت إدارة السجن تقدم للسجناء الوعود مقابل فك الإضراب عن الطعام، وتبدأ بعد ذلك بالتسويف، والابتزاز، فمثلاً كانت توافق على زيادة كمية الشاي والسكر المسموح بها للسجناء، مقابل موافقة السجناء على الوقوف للضابط أثناء عدد السجناء، أو السماح بدخول زيت الزيتون من الأهل مقابل تجاوب السجين مع الضابط وهو يقرأ الأسماء.

        تلك سياسة ذكية تحقق الأهداف الاستراتيجية على النفس الطويل، دون استخدام القوة المادية، وهو ما يمارسه الإسرائيليون عملياً في هذه الأيام على أرض الواقع، فلم يقدموا بعد أي تسهيل ملموس عملي، ولم يتلمس الفلسطيني فرقاً بين إطلاق النار وعدمه، سوى توقف دوي القذائف الإسرائيلية، بينما الإسرائيليون يطالبون السلطة الفلسطينية بإلحاح شديد للعمل على الأرض أولاً قبل تقديم أي تسهيلات حياتية، وتشترط إسرائيل تقديم هذه التسهيلات بمستوى النتائج التي تتحقق، بمعنى أخر؛ موائمة ما يقدم بما يتحقق.

        العمل الإسرائيلي الثاني: الحرص على توفير الأجواء العامة الاستفزازية المساعدة على خرق وقف إطلاق النار، أو محاولة جر بعض قوى المقاومة من الفلسطينيين إلى العمل المقاوم المحدود، كردة فعل، وهذا ما تحتاجه إسرائيل كذريعة فقط، لا لاستئناف المواجهات الميدانية ـ فقد استسلمت إسرائيل إلى استحالة الحسم العسكري ـ إنما تسعى إلى توظيف كل خرق لوقف إطلاق للضغط على السلطة الفلسطينية لجمع سلاح المقاومة، وإلقاء القبض على المقاومين، وبغض النظر عن استعداد السلطة، أو عدم قدرتها، فإن مجرد التفكير بهذا الأمر، أو التلويح به، هو غاية ما تتمناه إسرائيل في هذه المرحلة، لأن توفر النية بحد ذاته نصف العمل، ويكفي إسرائيل أن تخلق في العقل الفلسطيني، والعقل العربي، والدولي هذه الفرضية، وتؤسس لفكرة النتيجة والسبب، لتشير دائماً إلى أن المقاوم الفلسطيني هو السبب في كل ما يعانيه الفلسطينيون، أما سلاح إسرائيل المتجبر الماحق فهو بريء من دم الفلسطينيين.

        ما سبق من اجتهاد مستمدٌ من التجربة الميدانية، ويفرض على الفلسطينيين:

        أولاً: على المقاومة الفلسطينية مواصلة التقييد بوقف إطلاق النار، وقد بدأ شعبنا يتفوه بصوت عالٍ عن هذا الالتزام الواعي الحريص بوقف إطلاق النار، وهذه المسئولية العالية التي أبداها المقاومون، وهذا الانضباط الحديدي من رجال المقاومة، وكأن لم يكن يوماً من الأيام في قطاع غزة مواجهات، ومقاومون، وسلاح مقاومة، وبالتالي؛ فنحن بحاجة إلى عدم توفير الذرائع الإسرائيلية، وإلى مزيد من كظم الغيظ، وكتم الأنين، ما دامت البندقية على قيد الحياة، وتتردد فيها أنفاس الكرامة.

        ثانياً: على السلطة الفلسطينية أن تنسى فكرة نزع سلاح المقاومة، وأن تسقطها عن طاولة المفاوضات مهما كلف الأمر، لأن سلاح المقاومة ورقة ضغط قوية في يد المفاوض الفلسطيني، وسنخرج جميعاً ـ سلطة وشعب ورجال مقاومة ـ لجمع السلاح، وإلقائه في اليم، بعد أن ينهي مهمته كاملة، وبالتالي على السلطة الفلسطينية الحذر، وعدم تغذية الأباطيل الإسرائيلية التي تتردد عن استعداد السلطة الفلسطينية للعمل بعد توفر الشروط الموائمة، أو ضرورة العمل بعد استكمال الانسحاب والعودة إلى ما كان عليه الحال السيئ قبل 28/9/2000، أو ما يحلو للبعض من ترديده، وكأنه قدرُ لا رادّ له في هذه المرحلة الحرجة التي تعمم فيها مقولة: سلطة واحدة تعني قرار واحد وتعني سلاح واحد!!!

        إن هذا القول لا ينطبق مطلقاً على حالتنا الفلسطينية، لأن السلطة الحقيقية على أرض السلطة الفلسطينية هي سلطة الجندي الإسرائيلي، وعربدة سلاحه الأصم، ومن يتشكك في هذا الكلام، فليتلفت يميناً وشمالاً، وينظر إلى السماء، ويطوف ببصره على امتداد الأزرق، ويحاول أن ينتقل بين خان يونس وغزة، ونابلس والقدس، أو يحاول أن يجتاز الحواجز، أو يحاول السفر إلى الخارج!!.

        نحن الشعب العربي الفلسطيني الذي يختنق من اشتراطات الموت التفاوضي، وتضرست أسنانه من تجربة جمع السلاح المقاوم، ومما صدقناه، ثم خبرناهْ، نشهد أن جريمة الجرائم أن نعاود تجريب ما جربناهْ، ذاك الذي لَعَقْنا باللسانِ جَمْرهُ، واكتوتْ من نارِهِ الجِباهْ!!


* الكاتب : أسير محرر من السجون الإسرائيلية، أمضى عشر سنوات من عمره خلف القضبان.
حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين.


fshamala@yahoo.com
تاريخ النشر : 03-03-2005