إحدى المنظمات الأمريكية الأكثر موالاة لإسرائيل، والمعروفة باسم (ميمري)، اتهمت الشيخ عائض القرني؛ بأنه أدلى بتصريحات للتلفزيون السعودي، ينتقد فيها اليهود، ويتهمهم بأنهم أول من مارس العنف، إلى هنا لا جديد في هذا الخبر الذي يعتبر منطقياً في الدفاع عن مصالح المسلمين، لاسيما في هذه المرحلة التي يُهاجمون فيها من غلاة اليهود ومن اليمين الديني المتطرف في أمريكا ، ويتعرض فيها المسلمون للملاحقة والمطاردة، ولكن الغريب، وغير المنطقي؛ أسلوب النفي لهذه التصريحات الذي صدر عن الشيخ عائض القرني لصحيفة الشرق الأوسط، وقوله: أن اليهود ليسوا أول أمة في التاريخ استخدمت العنف بل سبقتهم أمم من قبلهم، وقال القرني إن هذه الادعاءات تضاف إلى آلاف التهم الموجهة ضد المسلمين بمختلف طوائفهم.
فأين الحقيقة في ما قلت يا شيخ عائض القرني؟ ولماذا تكتمها؟ وتتردد في فضح مكنون فكر اليهود الذي ذكره القرآن، وأنت من يحفظ آياته أكثر مني، فما جاء في القرآن عن اليهود لا يخضع لمزاج، ولا ينحكم لظرف الزمان أو المكان، ولا يصح فيه تحريف المعنى، فلماذا تتهرب عند أول منعطف تتعرض فيه للضغط، وتهوي عليك بلاطة تهويل الأكذوبة، وماذا يخيفك، ويمنعك من قول كلمة الحق، وإعلاء قول الله عز وجل في هذا الشأن؟
إن الذين تتهرب من مواجهة باطلهم بقوة حقنا في مواجهة تدليسهم، لسوف يطاردونك إلى آخر العمر، وفي كل مواقع الأرض، ما داموا قد استمرئوا الخطوة الأولى في تهربك من مواجهة زحف افترائهم، ولن تنجو منهم أبدا!!!
إن اليهود أول من استعمل العنف على وجه الأرض!! وما الخطأ يا شيخ عائض، في قول يعترف به أهله من اليهود ويقرّون؟ بل ويفتخرون به، ويتعلمونه في مدارسهم، ويمارسونه على الأرض، ولا يتورعون من التأكيد على حقيقتهم هذه، ولكي لا أبدو متهماً لك بالتهرب من المواجهة، ولكي لا يتهمني أحد بالتجني والظلم، وإصدار الحكم دون إسناد، سأعتمد أولاً على ما تقوله كتب اليهود عن تصرفات اليهود أنفسهم في هذا الشأن:
سأنتقي بعض ما جاء من وصف دقيق لما مارسه اليهود من إرهاب ضد سكان (أريحا) الكنعانية قبل آلاف السنين، وقد صور ذلك سفر يشوع، وراح يصف كيف تصرف اليهود بعد انهيار سور أريحا، وهزيمة سكانها المدنيين أمام جيش اليهود، فقد جاء في الإصحاح السادس: "وصعد الشعب إلى المدينة، كل رجل مع وجْهِه، وأخذوا المدينة، وحرموا كل ما في المدينة من رجل وامرأة، من طفل وشيخ ، حتى البقر والغنم والحمير بحد السيف".
أليس هذا إرهاب منظم لا تشفع فيه براءة الطفولة، ولا يتثلم فيه سيف العنف على رقبة الشيخوخة؟
وفي سفر يشوع، الإصحاح الثامن وصفاً لاقتحام (عاي) إحدى المدن الكنعانية، وهذا الوصف يرجع وفق التقويم اليهودي إلى أكثر من ثلاثة ألاف سنة، يقول: "وأحرق يشوع (عاي) وجعلها تلاً أبدياً خراباً إلى هذا اليوم، أما ملك (عاي) فقد علقه على الخشبة إلى وقت المساء، وعند غروب الشمس، أمر يشوع فأنزلوا جثته عن الخشبة، وطرحها عند مدخل باب المدينة، وأقاموا عليها رُجْمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم".
أبعد هذه الأعمال الإرهابية عنف؟ أليس هذا تاريخ اليهود؟ بل أنهم يفتخرون بهذا التاريخ، ويتعلمونه، ويحفظونه، وهذا التاريخ قدوتهم الذي يقتدى، فأي تاريخ لأقوام أخر، ما زالت تحتفظ به كتب التاريخ، ويتحدث عن إرهاب يسبق هذا الإرهاب المتقن؟ ألا يكفي هذا دليلاً على أن اليهود أول من استعمل الإرهاب في التاريخ ضد سكان آمنين؟ إضافة لما سبق، فإن هذا القول المثبت، الموثق، يشهد على أن لا أحد على وجه الأرض سبق اليهود في التباهي بأنهم مارسوا الإرهاب العنيف لتحقيق أغراضهم السياسية والعقائدية؟
فإذا كان التناخ والتلمود، وغيرها من أسفار اليهودية العتيقة مرشداً ليهود اليوم، وبئر مائهم الذي ينضحون منه دلاءهم، فإن ما في أسفار العهد القديم من تحريض يفيض عن منطقة الشرق الأوسط، ويطُفُّ على الكرة الأرضية، ففي سفر ميخا في الإصحاح الخامس على سبيل المثال " قومي ودوسي يا بنت صهيون لأني أجعل قرنك حديداً، وأظلافك أجعلها نحاساً، فتسحقين شعوباً كثيرين، وأحرم غنيمتهم للرب، وثروتهم لسيد كل الأرض"، وفي الإصحاح السادس من سفر ميخا نفسه، "وتكون بقية يعقوب بين الأمم في وسط شعوب كثيرين كالأسد بين وحوش الوعر، كشبل الأسد بين قطعان الغنم الذي إذا عبر يدوس ويفترس وليس من ينقذ، لترتفع يدك على مبغضيك، وينقرض كل أعدائك"
ذلك هو الصحن الذي يتناول منه اليهود طعامهم الفكري، وتنمو فيه عضلات سلوكهم، وفي ذلك لا يختلف كلام العهد القديم عن كلام العهد الحديث الذي يعيش فيه (إهود براك)، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق لشارون، وهو يقول في لقاء مع أريه شبيط في ملحق صحيفة هآرتس في 4-10-1996 : " نحن نعيش في بيئة ليست بالهينة، نحن نعيش في "فيلا " داخل غابة، هذه البيئة لا تمنح فرصة ثانية للضعفاء، ولا تتسامح مع من لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وعلينا أن ندرك أننا لسنا مجرد أرنب مستضعف داخل هذه الغابة، ولكننا فهدٌ، أو خرتيت، أو على أقل تقدير أسدٌ ذو مبادئ وقيم"، إنها القيم المستوردة من التاريخ، من عالم آخر، مهدت لدخول الجيش الإسرائيلي الرهيب مدينة جنين، ومخيمها، ومخيم رفح وجباليا في فلسطين بكل القوة العسكرية الإسرائيلية المفترسة التي لا ترحم.
نفس منطق القوة والعنف، وفي الزمن الراهن، في القرن العشرين، يتباهي مناحيم بيجن رئيس وزراء إسرائيل، بأنه لولا مذبحة دير ياسين، وهي أكبر عمل إرهابي، لولاها لم هرب الفلسطينيون، ولما قامت دولة إسرائيل، وهو الذي يقول في مذكراته، معتزاً بالمحارب اليهودي " إنه قد ولدتْ من الدم والنار والدمع والرماد فئة جديدة من الجنس البشري، فئة لم تكن معروفة للعالم طوال ما يربو على ألف وثمانمائة عام، تلك هي فئة اليهودي المحارب، إن ذلك اليهودي الذي كان يعتبره العالم ميتاً، دفن ولن يعود إلى الحياة مرة ثانية، قد هب من رقاده لأنه تعلم تلك الحقيقة الواضحة، حقيقة الحياة والموت، وإنه لن ينحدر قط ثانية إلى الهوة، ولن يختفي من على وجه الأرض"
إنها التعاليم اليهودية الواحدة، التي أملت على ( هيبل) ليكتب باللغة العبرية في موقع (الذاكر الإلكتروني) يصف لليهود آلية العمل مع الشعوب الأخرى، وكيفية محق الأمم حين قال: " بداية نزيل منهم الذاكرة، ندمر كتبهم، ثقافتهم، وأجيالهم وكل من سيؤلف كتبأ أخرى من أجلهم، ثم نقدم لهم ثقافة أخرى، إيجاد تاريخ آخر، بعد ذلك رويداً رويداً يبدأ الشعب في النسيان، ينسى ما كان عليه في الماضي، وما هو عليه اليوم، والعالم من حوله كذلك، يسبقه إلى النسيان".
فهل من عنف وإرهاب فكري أبعد مدى من هذا الاعتراف اليهودي؟
إن ما يشهده العالم هذه الأيام من إرهاب إسرائيلي ضد الفلسطينيين، لا يمكن فصله عن تعاليم الكتب اليهودية، وبالتالي توجيه الاتهام المباشر لليهود بالمسئولية المباشرة عن المصائب التي حلت بالشعب العربي الفلسطيني، وهذا الرأي لا يختلف مع تعاليم الدين الإسلامي الذي جاء متمماً لما سبق من أديان سماوية، لقد كرم القرآن الكريم جميع الأنبياء بما فيهم أنبياء بني إسرائيل، وأتى على ذكر اليهود وبني إسرائيل في القرآن الكريم في أكثر من سورة، منها:
سورة البقرة، الآيات 40- 79، 87، 97، 122،
سورة آل عمران الآيات، 52- 54، 110-112،
سورة الجاثية، آية 16،
سورة الأعراف، آية 166،
سورة النساء، الآيات، 46-47، 152-156، 160-162،
سورة الحشر، الآية، 2،
سورة المائدة، الآيات، 12-12، 60-71، 78-82، 110
إن الدارس المدقق في ما سبق من آيات قرآنية، يستنتج أنها وصفت اليهود على هيئتين متناقضتين، ولكل هيئة دلالة مستوحاة من تصرف الموصوف؛ الأولى:
قال تعالى: "ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكمة والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين" سورة الجاثية، آية 16
وقوله تعالى: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً، وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلوة وآتيتم الزكوة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضاَ حسناً لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار، فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل" سورة المائدة، آية 12
أما الهيئة الثانية لليهود فقد وردت في:
قوله تعالى: "وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولُعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدنّ كثيراً منهم ما أنزل إليك من ربك طغياناً وكفراً وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً والله لا يحب المفسدين" سورة المائدة، آية 64
وقوله تعالى: "لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" سورة المائدة، آية 78
وقوله تعالى: " فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خسئين" سورة الأعراف، آية 166
لم يقف القرآن الكريم موقفاً مهادناً من سلوك اليهود الذين مسحوا جلد ذاكرتهم، ووشموا عليه تعاليم أسفارهم القديمة، وهذا ينسجم مع ما عاناه العربي الفلسطيني، وعرفه وفق تجربة الاحتكاك اليومي مع اليهود، فإذا به يقدم وصفاً لليهودي الذي احتل بيته، وقلع نسله، وفدغ رزقه، وهتك تاريخه، وذبح زرعه، واغتصب أرضه، ومزق روحه، وسجن ولده، لم يجد العربي الفلسطيني وصفاً لليهودي إلا ضمن الفئة الثانية، التي توعدها الله، واستحقت الغضب إلى يوم الدين، فكلما تحسس العربي جراحه وجد من خلفها يهودياً متربصاً، وكلما ضغطت عليه مأساته، وانفجرت مصائبه، وسال دمعه، وجد محركها يهودياً ليس متحرراً من التراث، والتعاليم الدينية، والممارسات الفوقية، وعنجهية القوة.
فكيف ننفي عن اليهود صفة الإرهاب، وهذه أمي (آمنة الرنتيسي) تقعد أمامي لاجئة في مخيم خان يونس بعد أن اغتصب اليهود أرضها في فلسطين سنة 1948، وهؤلاء أهل بيتي، وأولادي، قد سحق وجدانهم، وضيق مستقبلهم بطش جند الاحتلال اليهودي لقطاع غزة سنة 1967، وهذا جسدي الذي يحمل علامات الإرهاب اليهودي، والتعذيب في السجون؟
* الكاتب : أسير محرر من السجون الإسرائيلية، أمضى عشر سنوات من عمره خلف القضبان.
حاصل على شهادة الدكتوراه في موضوعة الحرب والسلام في الشعر العربي والشعر العبري على أرض فلسطين.
fshamala@yahoo.com
تاريخ النشر : 01-03-2005