نواح الصدور الممزقة
فادي عاصلة ـ عرابة

إلى ذلك الشخص الذي كنت كلما رأيته مزق بعضاً من جسدي ..

لم يكن غريباً أن تنجب عرابة وهي تلك القرية الصامدة التي تربض في حضن المل وتبكي في البطوف وتلم عناء المل المتعب من قحف الزمن ، لم يكن غريباً على قرية كعرابة ضحت وقدمت الرجال الرجال الذين صارعوا الموت في عبثية الحياة وروا بالنجيع مقلس الصمود وحزوة التي تندب في إقتراب الكابوس في زحف جديد ..

لم يكن غريباً على قرية أنجبت علياً وخيراً وأسيلاً وعلاء ، ولم تحني الجبين ، لم يكن غريباً بعد كل هذا أن تنجب " نداء " ..

هو ابن العشرين من العمر له حضوره القوي في أي جلسة ، كثير الحركة ، لا يعرف الاستقرار او السكون ، واثق من نفسه ، غريب الأطوار أحياناً ، حساساً إلى درجة كبيرة وعاطفته بلا حدود ، يتكلم في أي موضوع تريد ساعات ولديه أسلوب جذاب في الكلام ، لكنه يتلعثم في بضع كلمات يتكلمهم عن نفسه ..

في حضن عرابة عاش ، كان ابن السادسة عشر حين سقط أسيل وعلاء في هبة اكتوبر ، لم أره في فترة المواجهات مطلقاً لكني رأيته يخرج من المل دامع العينين دامي الوجنتين مغبر الملابس ، كان في حالة انهيار تام ، وفي وضع يرثى له ، رآني وقف أمامي بجبين عال ثم قال " مش خسارة بهالوطن ، نادوا فلاسفة الكلام ... ورددوا عرابة أبية ... لا تنسى شهداءها ... من قال أن الدم يجف من أرضها سيبقى أسيل وعلاء نجمة في سماءها ... "

ومضى وابتلعته الوجوه الكثيرة التي خرجت تبكي الشهداء ..

كان مجتهداً جداً في المدرسة ، كان الصديق الوفي ، الذي يترك معالمه منحوتة فوق ضلوعك ، كلماته قليله لكنها مؤثرة وأجوبته بضع كلمات تأخذك في حالة من التفكير لساعات ..
كبرت ، وكبر كمثلي نداء ، لكن في كل يوم كان يكبر نداءه ويعلو ، انهى دراسته بنجاح ، كان ذكياً عبقرياً ، كان كمثل أولائك الأشخاص الخارقين الذين يأتون للدنيا بثياب رجال عاديين ..
قال لي حين أنهى دراسته أنا الآن أسخر من كل دراستي ، من كل المباديء التي جرعتتها طيلة اثني عشرة سنة من العلم ، كل ما جرعناه عن الحياة والأخلاق كان وهماً وزيفاً ..
نداء هو ابن العائلة الجليلية الفقيرة ذات العدد الكبير من أفراد الأسرة وكانت كل الطرق مسدودة لاكمال تعليمه حين اكتشف ان عمق الطعنة المغروزة بخاصرة عائلته التي تجرع البؤس على مرأى من الزمن كان أكبر من حدود الشفاء ... عائلة تبكي الجوع ، ديون متراكمة ليس لها آخر ، أخوة وأخوات كمثله ينتظرون دورهم في العلم ، ووطن يزف كل يوم شهيد ، كل الأبواب قد أقفلت في وجهه ومضى نداء بلا يأس يلبي النداء ..

قال لي ذات يوم بصوت هاديء واثق : " قد نبكي ونذوق الظلم فوق أرض الجليل ، وقد يسقط كل يوم شهيد كعلاء يعانق أسيل ، وقد يحرقنا الفقر وينهشنا القبر ، لكن ما بيننا وما بين الذل إن قلت قرناً قليل .. !!! "

كان غريباً ، كان رجلاً خارقاً ، لم أر شخصاً في ظروف البؤس والقهر يستطيع أن يضحك مثله ، أحياناً كنت أشعر أن فيه مسحة من الجنون ، كان الألم يملأ الصدر ، والحزن والمصائب تلاحقه ، ومع ذلك لم تكن تراه إلا مبتسماً ، لم يكن يتكلم عن ذاته ، كان يبكي بصمت ، ويحترق بصمت ..

مضى ذات يوم ولم يلتفت إلي ناديته معاتباً ، وحين أدار وجهه ، صدمت ، كان أحمراً كدم الأفق حين تنتحر الشمس في المغيب ، كان قد تلقى صفعة قوية من شرطي لئيم في احدى المظاهرات في ساحة العين في مدينة الناصرة ..

حينها قال بلغة شعرية مؤلمة :

اللي بوقف بوجه الدبابة
وبقولو عنو ارهابي
من وين بدو يكون
يا من سخنين يا من عرابة

ومضت شهور لم أراه ، لم أكن أراه إلا في المناسبات الوطنية ، في إندور ، وفي عيد الجلاء في الجولان ، مضت ثمانية شهور ولم اراه حين كان غرق في العمل يوصل الليل بالنهار ، ويعمل ويعمل ، يولد قبل الشمس ، ويموت حين يموت القمر ، في أوضع الأعمال عمل ، في النفايات ، في المصانع ، في المحال التجارية ، تلقى الشتائم من المشغلين ، وتحمل عنت الزبائن ، لم يعرف الراحة ، ولم يهنأ له بال ، كان صامداً غريباً ، كان لديه جلادة أسطورية ، لكني أحسست بالصراع الذي يعيشه ، صراع العمل والأمل ..

أول ما تلقاه من بشرى الحياة فور إنتهاء دراستة الثانوية ، كان وفاه خاله الذي أحبه ، ثم إبن خاله ، ثم إبن عمه ، ثم طعنة المآساة التي تعيشها العائلة ..

حتى تلك الفتاة التي أحبها ، ملت من مشاكله المتراكمة ، وملت من مآساته فتركته ..

كان صلباً ولم ينحن ، كثيراً حاولو أن يبعدوه عن درب النضال ، لكنه رفض بشدة ، حتى تلك الفتاة التي كان يبكي لها انتهاءه قالت له ذات يوم حين ضاقت ذرعاً به" حاجة تتبكبك " لم يكن أي شيء ، أكمل طبيعياً الخناجر من كل جهة ، أكمل لكن بصمت ، كأنه بتر لسانه ..

كان يبكي يتمزق ، لكن دون أن يذرف الدموع ، إن أقسى دموعنا هي دموع ذرفناها لكن في الصدر ..
ثم لم أشعر بقدر حزنه إلا حين رأيت بكائيته في الصحف : ..

حاجي تتبكبك

كان الجرح يوسع ...
والدمع بيزيد ...
والنار عم تلسع ...
ضو الحلم البعيد ...
ما شكى همو ...
إلا للقمر الجديد ...
فتح كل قلبو ...
وشد الايد بالايد ...

كان الجرح ...
والجرح بيطول ...
والاسى يكثر ...
والفرح بيزول ...
الشغل عما امارو
والهم دفن دارو
والناس كلها بتعلى
وهو بنزول ...
كان الجرح ...
والجرح بيطول ...

جالو بشي يوم ...
يبكي دمع اللوم ...
شهر صرلو ...
ما ذاق طعم النوم ...

وهو عم يحكي
وقع من احمالو ...
التعب هدو ...
والفرح صدوا ...
كل هموم الدنيا
تلة من جبالو
يا حيف العمر مر
وراح زهرة جيالو ...

وبين الحياة والموت ...
راح ليشكي همو ...
سمع شي صوت ...
حرق باقي دمو ...

" حاجي تتبكبك ...
بكفينا اللي فينا ...
بهمومك تشربك ...
احنا ما يعنينا
حاجي تتبكبك " ...

لملم كلماتو ...
وجمع دمعاتو ...
وقال بصوت ...
أعلى من الموت

" ما عاد رح اتبكبك ...
وقسم بالدم ...
ياللي علي الارض سال ...
قسم بالقلب ان بعد فيو حمال ...
لحرق دموع الدني واعمل منها حبال ...
وأشنق اللي جرحني ...
وأعمل من شراينو سنسال ...
وأحفر قصص ما بتنقال ...
وأحكي عن وطن حبو ما زال ...
وأحكي عن السنا بنص المنا اغتال
عمري اللي انقضى و ما طال ...
قسم بالدم
ياللي ع الارض سال ...
قسم بالقلب ان بعد فيو حمال ...
لحرق دموع الدني واعمل منها حبال...
وأشنق اللي جرحني ...
وأعمل من شراينو سنسال ...
وأحفر قصص ما بتنقال ...
وأحكي عن وطن حبو ما زال ...
وأحكي عن السنا بنص المنا اغتال
عمري اللي انقضى و ما طال ...
قسم بالدم لكتب معلقتي ...
معلقة تنحكى ع مر الجيال ... "

عاد للعمل الذي لا مفر منه منذ الفجر حتى ثلث الليل الأول ، كان لا بد من العمل ، كي ينقذ عائلته من الغرق في بحر من القهر والانتهاء ، دخل ذات يوم البيت في الساعة الثانية صباحاً رأى بقايا احتفال لم يعر الامر اهتماماً ، وبعد أسابيع دخل البيت رأى اخته " بيان " تلك الأخت التي أحبها وحكى وشكى لها عن همومه ، عانقها وقبلها ، ثم استئذنته في الرحيل ، استغرب وسألها لأين ؟ فقالت لبيتي ؟ صدم ثم سألها وأي بيت ؟ فقال بيت زوجي .. وحين سمع هذه العبارة كأن طعنة هشمت ضلوعه ومزقت صدره ، دخل غرفته ، وخرج منها إلى المشفى ..

هل تعرفون معنى الموت في الحياة ؟ معنى أن تلملم أشلاءك الممزقة وتنثرها في مهب الجرح الذي لا يلتئم ، إلا بالملح المبروش الذي يفتح إنتهاءك في مهب ضياعك الذي تذرفه دمعاً ككانون الذي يهطل من طعنة الغيم في سماء الرحيل الأخير ..

عاد إلى عمله ، وكلما تذكر أخته بكى .. كان يتذكرها في دمى الأطفال في اصفرار الليمون ، في مطر كانون ، في أزقة الشوارع ، في لهة العاشقين ، كان يتذكرها في الرمان ، وفي الزيتون ، كان يتذكرها في كل شيء يعيد إلى بعض روائح الماضي ، عاد إلى الوطن يزف له ما له من وجد الصدور المحفور عليها أسماء كان لها شوق كأسواق المدن العتيقة ... كان صامداً فليجن الزمن ، ولتعصف الأقدار قدرما شاءت لكن لن أتنازل ..

وبقي .. سنتين وهو يعمل ليل نهار ، يلملم جراحات عائلته ويشفيها أول بأول ، حتى أحياها ، تلك العائلة المنكوية عادت إلى الحياة ، ماتت كل الديون ، ورجعت الحال إلى أكثر من ممتازة ..

بدمعه بألمه بسهر الليالي ، بالحزن بالقهر ، بالألم بمرادفات النهاية لملم كل مآسيه وعاشوا من جديد ..

" نداء " هو شاب فلسطيني في العشرين من العمر ، لم ينحني يوماً له حظوره القوي ، وله عينان حادتان تنمان عن ذكاء خارق ، ولديه هدوء العاصفة وعصف الهدوء ، يقتلك بصمته ، ويحيك بكلماته ، تنقل في الجراح ، من جرح الوطن ، وجرح العاطفة ، وجرح العائلة ، وفي الثلاث تلقى ثلاث طعنات ..

نداء هو شاب عرفته ورأيته في كل مكان ، تارة يغني للقدس وتارة يغني للألم ، ولم يكن قلبه سوى لوطنه لا لحزب أو زعيم ..

مساء ليلة دافئة من أيار ، أنهى عمله مبكراً ، وجلس يتسامر مع صديقين ، دخل عليه شخص عانقه وحياه ، لم يعرفه ، لكنه كان ابن عمه الذي أنساه العمل شكله ووجهه . " نداء " هو الشخص الذي لم يرى الشمس في عرابة طيلة مئتان وخمسون يوم ، دون أن يحني جبينه ..

نداء هو الشخص الذي لم ير أخاه فترة سنة ونصف لظروف تسمو فوق الشوق الأخوي وفوق اللهفة والحب ، نداء هو ابن العشرين قرن ، الذي جمع كل جلادة التاريخ في قبضة ساعده الممزقه ..

نداء هو شخص من عرابة يبكي ويضحك ويحزن ويتألم ويأكل ويشرب وينام وهو شخص عادي وليس كما قال ذاك المشغل اليهودي عنه " ما شاء الله حمار شغل " ..

نداء هو فلسطيني رفض كل مغريات العدو حين أغروه بالمال مقابل أن يضحك أطفالهم فوق المسرح ، ورفض أن يمنحهم قطرة حبر من قلمه ، هو الرجل الأصيل وهو الفلسطيني الجليل، الذي ما زال يدفع ضريبة الكرامة ، وضريبة الحياة ..

لم يكن غريباً أن عرابة تلك القرية التي تذرف الصمود في مقلس ، وتعانق البطوف وتلبس المل ، لم يكن غريب على قرية فقدت علياً وخيراً وأسيلاً وعلاء ، لم يكن غريباً على قرية اعتادت أن تضحي بالرجال الرجال وتقدم الثمن ، أن تفقد أيضاً نداء ..

حين أفاقت عرابة على فجر لم يشرق ، كي تودع نداء ، حين هبت كل الرجال تبكيه ، وتبكي الشهيد الجديد ..

نداء هو مناضل فلسطيني وليس من القطب الشمالي ، ضحى كثيراً ، ومات ، مات بكل بساطة ، بعضنا يأتي للحياة كي يحياها ويعيش فوقها ، وبعضها يجيء الحياة مسافراً ، كنداء ، الذي أثبت أن الشمعة تحترق لتنير للآخرين دروبهم وليس لتموت ، لم يأخذ شيئاً من عبث وفرح الشباب ولم يكن يوماً مراهقاً ولم يعش طفولته .....

نداء هو الوطن ، هو الشخص الذي أحب عرابة ، وكتب لعرابة ، وهو الشخص الذي ودعها مبكراً ، فحين التئمت الجراح ، عاد ليلملم أشلاءه فتناثرت من جديد إلى اللاعودة ..

حين أفاقت عرابة في العاشر من كانون الأول على جثة مبتسمة وفيها ثلاثة طعنات وثلاثة طلقات ، وبصمة حذاء فوق صدره ..

فخرج الكل ليشيع فارس الجليل الذي لم يمت ..

مات نداء كشخص ، لكن نداء لم يمت ، وعاد المشيعون ، الكل يبكي والكل ينتهي ، كان نداء إبن كل شخص لديه ضمير ، وفي كل بيت في عرابة قد أفتتح له بيت عزاء وكل بيت في عرابة فقد في هذا اليوم نداء ..

مات نداء كشخص وبقي نداءه أكثر من البقاء ، نرويك فلسطين بالدماء ، مات جسداً تحت باب السماء ، مات ولم يمت النداء ..

: " قد نبكي ونذوق الظلم فوق أرض الجليل ، وقد يسقط كل يوم شهيد كعلاء يعانق أسيل ، وقد يحرقنا الفقر وينهشنا القبر ، لكن ما بيننا وما بين الذل إن قلت قرناً قليل .."..

فادي عاصلة ـ عرابة
09.09.2004