لمن ستورث مقعد الجرح يا سالم ؟
فادي عاصلة ـ عرابة
الليلة قررت بعد ان علق الأسرى اضرابهم ، ان أعلق أنا أيضاً اضرابي حين كنت متضامناً معهم ، وعدت إلى البيت بابتسامة راضية بعض الشيء ، وخلال عودتي مررت بمحاذاة مقبرة القرية ، ولفت إنتباهي إسمك عزيزي سالم من بين الأسماء الكثيرة المحفورة فوق الشواهد ، وعادت بي ذاكرتي سنين إلى ما قبل الجرح ...
عدت إلى البيت وكنت يا سالم ما تزال تطأ أرصفة صدري ، لتزيل طبقات الغبار وتعود كما لم ترحل ! ( الحزن ) ( الاصالة ) ( الوطن ) بين هذه الثلاث نقاط كنت تمضي يا سالم بثقة دونما أي رجفة ...
لماذا لم تأكل يا سالم غير كسرات النهاية ؟ وترتوي ببعض قهر المرحلة ؟ سالم لما لم تخبرني أنك تحمل كل حقائب الرحيل كي أحمل جزءاً منها وأمضي معك ، فالجليل يا سالم كله بحاجة إليك ...
قالت ذات يوم جدتي : " سليمة ما بتحب إلا الزين " سالم كنت أعرف أنك " زين " لكني لم أعرف أنك زين سليمة الذي أحبته ... (سليمة هي كلمة عامية قديمة في الجليل معناها المقبرة)
ليس غريب أن أشتاق إليك الآن وقد مرت ثلاث سنين ..التقيتك في المدرسة ، في فترة المواجهات ، أثر سقوط شهداء الجليل ، وقفت في منتصف الساحة وقلت بصوت هز أركان المدرسة : " شباب وصبايا في ناس بيناتنا خسرت كل عمرها ، وإحنا مستعدين نخسر شوية دروس ، اللي هان عليه دم أسيل وعلاء ، يفوت ويتعلم ، واللي عندو كرامة يلحقنا ... " سالم لا أنساك خارجاً من المدرسة وخلفك مدرسة متكاملة تهتف صوتً واحد ونبرة واحدة وصرخة واحدة ... يا أسيل ويا مجروح دمك هدر ما بروح ... دمك علاء ينادي حرة يا أرض بلادي ... من عرابة لبيروت وحدة شعب ما بتموت ... من عرابة للخليل وحدة دم عم بتسيل ...
سالم شمساوي ، ما زلت في ذاكرتي ، وفي أوراقي ورسائلي ... ما زالت رسالتك حين تخرجنا من المدرسة تلسعني ... حين كتبت " الآن انتهت فترة الايدي النواعم ، وبدأت المعركة الحقيقة في الحياة ، وبدأت الأيام الحقيقة وهذه هي المدرسة الحقيقية ... "
سالم شمساوي ، كيف زرعت اسمك في كل فلسطيني ، وكيف حفرت صورتك في كل قلب ، كيف عزفت نشيد النهاية وفي كل معزوفة تبدأ ... سالم شمساوي عاد من الجولان ، غادر إلى اندور ، رجع من الغابسية ، ذهب إلى الجلمة ... سالم كم تملك من القدرة في التنقل من احتجاج إلى احتجاج ومن مسيرة إلى أخرى ، ومن قرية مهجرة ، إلى قرية غير معترف بها ...
دخلت علي ذات مرة كنت أتناول غدائي ، نظرت إلي بلوم قاسي وقلت : " أنا لا استوعب كيف تطاوعك نفسك أن تأكل وآلاف الأسرى مضربون عن الطعام " ارتجفت يدي وسقط رغيف الخبز ، وبصقت ما تبقى في فمي من آثار الجريمة ! ثم أكملت وكادت تنزل دموع تحرقني وقلت " سقط شهيد باضراب الطعام ، حري يا أخي أن تمتنع عن الطعام إسبوع ، فهو امتنع عن الطعام دهراً ... "
سالم شمساوي أيها الفارس الأصيل ، كيف حملت كل عناء القضية ؟ ولم تحني جبينك ، وبقيت شامخاً كزيتون عرابة ، لا أنسى حين اقتادوك للتحقيق ، حين حققوا معك ثمانية وأربعون ساعة لم تقل خلالهم سوى : " بعرفش ، مكنتش ، مشفتش " وخرجت دامي العينين ، محمر الوجنتين للكمات أثر بارز في عيونك وجفونك ، ثم قلت لي حين رأيتك : " يبلطوا البحر " ومضيت بصمت ...
ومنذ ذلك اليوم يا سالم لم أعد أراك كثيراً ، صرت تتحرك تحت الرمال ، ثم رأيت بعد فترة في الصفحة الأولى من الجريدة الصباحية ، وأنت مكبل اليدين ، رافعاً راية النصر في عيناك حزن قد اعتدت عليه ، وحينما صدر الحكم بالسجن ثلاث سنوات ضحكت ومضيت دونما أي كلمة ...
كيف سجنت السجان يا سالم وأنت السجين ، كيف عريت كل الأنظمة ، وكيف أصبحت صوت الأسير ، حين قدت من داخل السجن معركة الأمعاء الخاوية ، وصرخة الجياع ، وأعلنت الإضراب المفتوح عن الطعام أنت ورفاقك ، رافضين كل حالات التحقير والاذلال بحق الأسير الفلسطيني ، اثنان واربعون يوماً يا سالم وأنت مضرب عن الطعام رافض أن تأكل لقمة ذل ، وفي النهاية رضخت إدارة السجن لمطالبكم ووافقت ، فعاد رفاقك الأسرى كي يبشروك بالنصر ، فكنت جثة هامدة يابسة ...
سالم شمساوي شهيد الحركة الأسيرة ، دفونك في مقبرة القرية بكل صمت ، لم يصرخ أحد ، لكن الكل كان يبكي بصمت ... أذكر أني رأيت أحد الاطفال يقول لأمه .. : "ماما بدي سالم ، خليه يجي عنا"
أذكر يا سالم حين أتوا بك جثة صرخت إحدى النساء في القرية تنادي .. :
مرحبابك يلي تستاهل الترحيب ...
يا عز الحبايب ما يغلا عليك حبيب
ان غبت نكدت وان حضرت يطيب
حيشاك يا سالم من بين النجوم تغيب
مرحبابك مرحبا ريحة جيابك رصاص ومحلبا
العين تبكي عليك من بعيد
والقلب يدمي ويقلك مرحبا ...
الليلة قررت بعد أن علق الأسرى اضرابهم أن أعلق اضرابي ، لكن لا يا سالم ، اجلالاً لك في الذكرى الثالثة لاستشهادك ، لن أعلق اضرابي ، اجلالاً لك سأضرب اسبوعاً آخر عن الطعام ...
ربما ارتشف طعم الحرية ببضع قطرات من الموت ... سالم شمساوي إثنان وأربعون يوماً من صيام ، ليتني أستطيع أن أصوم إثنان وأربعون سنة ... سالم شمساوي إجلالاً لك في رسالتي الشاحبة لن تنتهي الرسالة بعطر أكثر من اسمك ... سالم شمساوي ...
فادي عاصلة ـ عرابة