كل شئ يبــدأ من مصر..
فإذا أردنا التغيير .. فلنبدأ بعلاوي مصر
بقلم : محمد فؤاد المغازي


محمد فؤاد المغازي
كل شئ يبدأ من مصر لم يعد هناك من يكابر أو يناطح هذه الحقيقة. ففي الماضي حاول بعض العابثين التشكيك بتلك الحقيقة فادعوا أنه بالإمكان إنشاء محور من دول عربية يكون بديلا عن مصر ودورها.

ويذكر التاريخ _أيضا_ أنه قد جرت محاولات تسعي إلي فك الطوق من حول عنق الكيان الصهيوني من خلال عقد اتفاقيات صلح بين "إسرائيل" ودولا عربية صغيرة كلبنان والأردن. وبعد أن تأكد لمعسكر الأعداء التاريخيين أن هذا عبث وجهل بحقائق الواقع العربي..لم يكابروا وتعلموا من خطأ المحاولة..فتوجهوا حيث الحقيقة قابعة على ضفاف النيل..الحقيقة كما وصفها شيمون بيريز في عام 1964 قائلا: " ينبغي الملاحظة أولا، أن ثمة مرشحين عربا للصلح مع "إسرائيل" . هناك مرشحون من الدرجة الثانية والثالثة والرابعة (مثلا لبنان، الأردن، تونس) لكن ما ينقص هو المرشح الأول. وهذا المرشح الأول كان دائما وسيظل أبدا..مصر. إن مفتاح السلم وخطر العدوان يوجد إذن في مكان ما على ضفاف النيل. مصر هي مقدمة الصف كما أنها أهم الدول العربية."
لا أحد غيرها. هكذا تعلموا..وهكذا صححوا..وهكذا حصدوا.

الآن وبعد أن تعرف الجميع واقتنعوا بالحقيقة أن مصر هي عاصمة العرب وبيدها وحدها مفتاح قلعتهم..وأنها حقيقة طبيعية خارج نطاق التغيير بفعل الاستيلاء أو التعصب سواء للاختيار الإقليمي أو القومي..بمعني أن من يتبنى الموقف الإقليمي لا يلغي هذه الحقيقة وإنما يؤثر في حركتها بالإعاقة، ومن يؤيد هذه الحقيقة لاختياره القومي لا يكون قد أتي بجديد وإنما يصبح دعما لها..فالاعتراف بالحقيقة أو برفضها لا يلغيها فوجودها لا تصنعه الاختيارات..والمواقف..والقناعات.

فبعد كل ما جري من تقلبات شهدها الوطن العربي تأكد للجميع أن مصر هي من يملك توجيه الدفة والتأثير فيما يتعلق بقضية الأمن القومي للعرب..أو الأمن لـ "إسرائيل" ..ولا وسطية بين الموقفين. وهنا أعود للقول أن القبول أو الرفض بحلول وسطية بين أمن العرب وأمن "إسرائيل" هي إجراءات تلفيقية..فطبيعة الصراع تطرح على الجميع قوانينها..وأساليب التعامل وحتى الحل..شاء الكل أم أبوا..فهي لا تسمح بتعدد الحلول..وتفرض حلا واحدا على أطراف الصراع وتحصره في :

"وحدة الأرض .. ووحدانية المالك ".

لا تقسيم للأرض فهي وحدة واحدة..ولا ثنائية في ملكيتها فملكيتها تعود لطرف واحد. أما لمن تكون في النهاية؟ فلإجابة هنا مرتبطة بعنصرين أساسيين..الأول: الإرادة . والثاني: الزمن. والعرب كشعب يمتلكون العنصرين..أما الحُكَّامْ المَسْخْ فلا يمتلكون شيئا غير طاعة المحتل..والرضوخ لعبودية مصالحهم.

لقد تجاهل حفيد ست البرين أنور السادات هذه الحقيقة..وتناسي ما تعلم من جدته حول أهمية الأرض وقدسيتها..فدفع حياته ثمنا لتجاهله وتناسيه. لقد ذكر في كتابه (البحث عن الذات) أنه تعلم من جدته أن الأرض تعني كل شيء "ألسنا جميعا نبت الأرض وبدونها لا نكون؟ لاشيء يساوي أنك ابن الأرض ..فالأرض هي الخلود لأن الله أودعها كل سره." !!!

وقد يكون مفيدا _ أيضا _ أن نتذكر مع حكمة ست البرين جدة السادات ما قاله بن جوريون حول الأرض التي شكلت أرضية الصراع وجائزته..:" ليس هناك حل..الأرض واحدة ولا يمكن تقسيمها، والصراع على الأرض بين أثنين، وهى لابد أن تكون لأحدهما فقط، ولابد أن يكون الشعب "الإسرائيلي" هو الذي يحصل على هذه الأرض بمفرده. والحل الوحيد بالنسبة له _إذا كان هناك حل_ أن يسعى بكل الوسائل، بما فيها القوة والسياسة وحتى الخديعة، لكي يجعل الطرف الآخر يرضى بالتنازل عن مطلبه."

رغم كل هذا الوضوح والثبوت المتعلق بوحدة الأرض ووحدانية المالك..لم يزل هناك من يتصور أنه بالإمكان فرض حلا مغايرا خارج ما تفرضه طبيعة الصراع..ويتبنى وجهة النظر هذه قوي كبري تؤيد "إسرائيل" ..مستندين في ذلك إلي الخلل القائم في موازين القوة بين أطراف الصراع..وهذا وهم مصدره أمران..وهم القوة وغطرستها والتأييد الأعمى لـ "إسرائيل" ..والثاني الجهل بطبيعة الصراع نفسه.

فالقوي الكبرى قد تستطيع استغلال الخلل في موازين القوة وهو الآن لصالح "إسرائيل" فتفرض حلولا وشروطا مؤقتة بالقوة..وتجد من يتقبلها بدعوى الواقعية الخائنة وهي أكثر المفردات المستخدمة في تبرير العجز السخيف والمهين، لكن هذه الشروط والحلول تظل مؤقتة هي الأخرى لأنها مرتبطة أساسا بعنصر متغير..طال زمانه أو قصر.

فعلى مدي ثلاث عقود بدأت بكامب ديفيد وصولا إلي أسلوا جرت عملية فرز صاحبها أن كل فريق قد أخرج كل ما في جعبته تدعيما لرؤيته..حتى الخيانة تحولت إلي وجهة نظر وكان منظري الخيانة هم أكثر الجميع حظا في عرض وجهة نظرهم وذلك بفضل أموال النفط العربي..قياسا على عرض وجهة النظر الوطنية والقومية.

في الوقت الذي لم يكن فيه النظام العربي بحاجة إلي وقت كي يحدد اختياراته..وإنما ينتظر فرصة..فالغالبية من حكامه قد تحددت اختياراتهم منذ زمان، وكانوا ينتظرون أن تبدأ النخبة الحاكمة في مصر بالخطوة الأولي والتي تولاها السادات وتمسك بها من بعده علاوي مصر..فجاءت اتفاقية كامب ديفيد لتفتح لهم الطريق..ولتبدأ مرحلة معادية للمرحلة التي سبقتها..مرحلة المد القومي التحرري بقيادة جمال عبد الناصر.

أما الاختيار الشعبي فقد أحتاج وقتا ليعيد تشكيل مواقفه بعد أن تعرض إلي تشويش وتضليل طال كل شئ العقل والوجدان والجغرافيا والتاريخ والثقافة وحتى الدين على أيدي أجهزة الدعاية الغربية والعربية وجيش من المستكتبين باعي الخبز المسموم.

بعد تلك الجولة التاريخية الشاذة والمتذبذة...نستطيع القول أننا قد وصلنا إلي مرحلة نهاية مرحلة انتهت..ومرحلة توشك أن تبدأ..مرحلة جديدة من حيث الاتجاه والتوجه وهي مرحلة التغيير لرؤية سائدة بالقوة يمثلها النظام العربي كشكل ظاهر حان رحيلها، ورؤية شعبية تسعي لاستعادة السلطة. صحيح أن التغيير القادم لن تظهر نتائجه بين ليلة وضحاها وسوف يحتاج وقتا..لكن المهم أن مرحلة التغيير قد بدأت.

غير أن البداية الصحيحة للتغيير تحتاج إلي تحديد واضح..من أين نبدأ ؟ والجواب: من حيث بدأ التخريب..من قلعة العرب مصر. فلولا معاهدة كامب ديفيد ما كان هناك معاهدة عربة، ولا جرؤ أحد على التوقيع على أسلوا، ولا انتشر التمثيل الصهيوني في العديد من الدول العربية تحت مسميات مختلفة.

لهذا..علينا أن نستعيد مصر..ولكي نستعيد مصر علينا أن نبدأ بإسقاط علاوي مصر ونظامه. إذا نجحنا في إسقاطه..فإن هذا سوف يساهم في تساقط كل علاوي من المغرب حتى علاوي بغداد مرورا بعلاوي فلسطين القادم. وساعتها سوف تجد كل حركة تغيير على خريطة الوطن العربي دعم وحماية مصر..وسيتبدل دورها..فمن دور في خدمة قوي الاحتلال إلي دور في مقاومته وكسره.

ولتدليل على أن مرحلة التغيير قد بدأت هو ما نشهده من إجراءات تعكس حالة التوتر لنظام علاوي..فبعد مقتل الجنود المصريين عن عمد، وقضية الطلبة المصريين، فكان رد النظام هو تبادل رسائل المودة مع النظام الصهيوني والإفراج عن جاسوس صهيوني تبعها التوقيع على اتفاقية شراكة في التصنيع أي شراكة في الجانب الاقتصادي وبصورة فجة لم تراعي مشاعر أحد. هذه الحالة المضطربة..والغير متوازنة تعكس حالة تخوف تدركها قوي السيطرة الخارجية والداخلية..فأرادت أن تبادر هي بالهجوم وتفرض التطبيع الاقتصادي والتجاري على الشعب العربي عنوة مبتدئين بمصر..ومن خلال شريحة اجتماعية من العملاء والسماسرة وتجار الأوطان..لقبوا أنفسهم بالمستثمرين المصريين.

إذا كانت هذه الإجراءات تعبر عن حالة الاضطراب السائدة في معسكر السيطرة..إلا أنها تمثل أيضا خطرا وعبئا على حركة التغيير..وتأتي الخطورة من كونها قد بدأت من مصر، فإذا ما وجدت فرصة للنجاح في قلعة العرب..بعدها يمكن تعميم قاعدة المشاركة وبأشكال متعددة مع أعضاء النظام العربي..فقد نراهم غدا يطبقون التطبيع الاقتصادي والمالي والزراعي، وقد لا نفاجئ بتطبيع شراكة مماثلة تشترك فيه الدول النفطية مع "إسرائيل" من خلال تسويق النفط مثلا. وقد يكون من بين النتائج المترتبة على التطبيع بالمشاركة في المجال الاقتصادي والتجاري والمالي ما يمنح التطبيع السياسي والثقافي فرصة العودة لدور تجمد.

إن البشري والتباشير قد جاءت من القاهرة فقد خرجت الناس تقول لعلاوي مصر..كفي. قالوها في قلب القاهرة. ونحن في الخارج نستطيع أن نقول أكثر فأيدي علاي مصر المرتعشة ليست لا بالقوة ولا بالطول حتى تصل إلينا في المهجر، وحتى وإن وصلت..فعلينا أن نسدد ثمن موقفنا ففي داخل الوطن الكبير هناك من الشرفاء من يدفعون أرواحهم وحريتهم تسديدا لفاتورة الحرية. إن الشعار الذي رفعته طلائع التغيير في القاهرة قد يتبدى لضعاف النفوس والمغرورين أنه مجرد كلام..مجرد تنفيس ثم نعود إلي حيث كنا..والحقيقة عكس ذلك. فشعار لا لتوريث السلطة يختزن من المعاني الكثير..فهو يعني الرفض لتوريث الاستغلال..الرفض لتوريث المذلة..الرفض لتوريث تبديد الثروة الوطنية والأمن الوطني والقومي..الرفض لتحويل مصر كعلب الليل.
وكلمة كفي تعني..أن التغيير بالفعل قد بدأ..وأنه سوف يفاجئ الجميع..وأولهم الواثقين من استحالة حدوثه.

محمد فؤاد المغازي

تاريخ النشر : 29.12.2004