هل يصبح الخـروج من حضـانـة التاريـخ ..
مقدمـة للتصفيـة التاريخيـة ؟
بقلم : محمد فؤاد المغازي


محمد فؤاد المغازي
تعليقا على ما قاله الأستاذ هيكـل لقناة الجزيرة فقد تحدث عن أن أنظمة السلطة الناطقين بالضاد قد أوصلوا الأمة إلي حالة من التجمد..أخرجتها من التاريخ..والوقوف أمام عتباته..في مشهد مهين وحزين.

التاريخ..والتأريخ له مكانة متميزة في كتابات الأستاذ هيكل فالتاريخ يمثل قاعدة التوجه لفهم كل الأشياء في كتاباته، والمنهج التاريخي هو منهجه، وما نراه اليوم.. يراه الأستاذ هيكل أنه نتاج للإيقاع التاريخي في مراحل جرت وتراكمت في الماضي.

لكن ماذا يعني البقاء في التاريخ ؟ أو الخروج منه ؟؟

لقد فهمت مما قاله الأستاذ هيكل هو أن الطرد أو الخروج من التاريخ جرى بسبب حالة التجمد..التي أصابت الواقع العربي. وهذا يعني غياب التفاعل والتطور داخل المجتمع العربي مقارنة بمجتمعات أخري..فتوصيف الواقع العربي بالجمود هو تعبير عن حالة اجتماعية راكدة قائمة ومستمرة لا تتغير أو أنها لا تتغير بالمعدل المطلوب وبالتالي تعزل نفسها عن حالة التجديد والإبداع المستمرة في المحيط الإنساني.

وهذا يقودنا إلي القول: أن التجمد والخروج من التاريخ قد تسبب فيه غياب أو تغييب مشروعا للنهضة فظلت الشعوب التي لا تتفاعل مع روح العصر ثقافيا وعلميا وبناءا متخلفة عن شعوب أخري تتحرك وتبدع مما أدي إلي اتساع الهوة أو المسافة الحضارية بين الفعل وانتج عنها حالة انفصال بين طرف تجمد فبقي في مكانه لا يصدر عنه أي فعل يستحق أن يسجل في التاريخ، وأطراف تتحرك في الزمان والمكان فيبدعون علميا وثقافيا فيفتح التاريخ لهم صفحاته يسجلون فيها ما يشاءون.

غير أن الخروج من التاريخ بسبب حالة التجمد في عصرنا الحاضر ليست هي المرة الأولي. فإذا اعتمدنا التقسيم التقليدي للتاريخ..حيث مرحلة التاريخ القديم والوسيط والحديث، فإن القدماء من عرب وادي النيل وعرب الرافدين في التاريخ القديم كانوا هم أباء التاريخ ومؤسسيه. أما في مراحل التاريخ الوسيط فقد كانت الحضارة الإسلامية والعربية منارة ضوء مبهر لكل الدنيا.

بعد سقوط الحضارة العربية والإسلامية. تراكمت حالة التجمد وطردنا من التاريخ..وتحولنا إلي إرث تنتقل ملكيته لكل من جاء إلينا غازيا. وبهذا خضعنا نحن العرب لسيطرة الغزاة الذين جاءوا من الغرب ومن الشرق، وجميعهم تلحفوا بالدين يبررون به وحشيتهم واستغلالهم. فمن جاء من الغرب حمل صليبا يبشر بالسلام، ومن جاء من الشرق حملوا الخلافة والهلال يبشرون بالجنة..وكانت النتيجة أن من جاءوا من الغرب والشرق أذاقوا أمة العرب وأمة المسلمين الأمرين.

ثم جاءت مرحلة تاريخية تغير فيها رداء الغزاة من رداء ديني إلي رداء أيديولوجي الأول يبشر بالرأسمالية والديمقراطية، والثاني يبشر بالشيوعية والعدالة الاجتماعية. لم يتركوا لنا فرصة غير فرصة الإذعان لما يعرضونه علينا، فإذا رفضنا العرض الأول فنحن ديكتاتورين، وإذا رفضنا العرض الثاني فنحن رجعيين ونسير في اتجاه معاكس لحركة التاريخ، لم يتركوا لنا حرية أن نشكل بأيدينا وبأنفسنا ما نهوي ونرغب.

فكان ما جري في مصر يمثل نموذجا لما جري في الوطن العربي..تراكمات كلها مذلة وفرض التخلف لدرجة أنهم تعاملوا مع الواقع العربي بأسلوب التحنيط الذي ابتدعه قدماء عرب وادي النيل. وقد تكون في شهادة كاتب فرنسي محايد كجان لا كوتير يصف فيها ما جري في مصر والحالة التي آلت إليها بعد الحرب العالمية الأولي فجعلتها مرشحة لتصفية تاريخية.

ونحن نعتقد أن ما تعرضت له مصر وما كان ينتظرها من مصير كان هو نفس الحالة ونفس المصير الذي كان تنتظره أمة العرب..تصفية تاريخية. ونشير هنا إلي أن التصفية التاريخية هي حالة أسوأ جدا من الخروج من التاريخ نفسه، فهي حالة تصل بأي شعب إلي مرحلة ذوبان يصعب بعدها أن يتعرف على نفسه.

بعد قرون من الزمان عادت أمة العرب إلي حضانة التاريخ بالاقتحام لا بالمنة أو بالمساومة..وأخلي لها مكانا في بؤرة التاريخ. وارتبطت عودة أمة العرب إلي التاريخ الحديث دورا وروحا وإبداعا بثورة يوليو وقائدها جمال عبد الناصر..وأصبح لها كامل الحق في أن تختار لنفسها ما تقرره بإرادة فاعلة..وأعلن عن المشروع الحضاري الناصري من عاصمة العرب في القاهرة.

كشفت مرحلة التحرر الوطني وما رافقها من حركة نشطة وجادة نحو التغيير عن حجم القوي المتربصة بأمة العرب والمسلمين..وأصبح البقاء في دائرة التاريخ وفي دائرة التطور يتطلب منا أن ندفع ثمن البقاء وأن نسدد ضريبة التطور. وكانت الأمة العربية على استعداد أن تدفع الثمن وتتحمل تكلفة البقاء فيه، لكن حكامها بعد أن نالوا من مشروع النهضة الناصري..لم يكونوا على استعداد للتخلي عن مكاسبهم الحرام فنشأ حلف طبيعي بينهم وبين قوي السيطرة الخارجية.

بعد وصول الثورة المضادة بقيادة أنور السادات تحول دور مصر الريادي إلي دور يدعم قوي السيطرة سواء القادمة من الخارج أو المتحالفة معها في الداخل. ثم جاء من بعده حاكم بليد الإحساس، جهله يفوق أضعاف أضعاف معرفته بالتاريخ أو بأي فرع من فروع العلوم..أصبح الخديوي الثاني في منوفيا العظمي صهيونيا أكثر من الصهاينة، وأمريكيا هوايته رعى البقر في الحزب الوطني.

والآن يعتقد أصحاب المشروع الغربي – الصهيوني..بقيادة الرعاة أن الفرصة مواتية للوصول إلي تصفية تاريخية لأمة العرب، خاصة وأن العالم يعيش حالة فوضي شاملة، وخلل في موازين القوي لا نعتقد أن تصحيحه سيستغرق وقتا منظورا، إضافة إلي أن العرب كما قال الأستاذ هيكل خارج حضانة التاريخ كل هذا يمثل في مجمله فرصة سانحة يتمكن فيها المشروع الغربي-الصهيوني من تحقيق تصفية تاريخية لأمة العرب وبالتالي أمة المسلمين، فينجح فيما فشلت فيه قوي السيطرة في مراحل تاريخية سابقة.

غير أن استمرار أن تبقى أمة العرب في حالة من التجمد والتحنيط أمرا يصعب القبول به، وأن تبقي خارج التاريخ وحركته وتفاعلاته أمر مستحيل..إنها مرحلة عابرة حتى وإن طال زمانها.. فالتغيير قادم لا ريب فيه.

كذلك فإن عملية التغيير سوف تطرح بالطبيعة مناقشة أسباب التجمد التي جرت لمعرفة ما هو مطلوب تغييره، وبالتالي تحديد المسئولية، وتحديد المسئولية سوف يفرض بدوره محاسبة المتسببين على ما وصلت إليه الأمة من هوان وسوء حال..لدرجة إسقاط عضويتها من التاريخ.

وهنا يقودنا توصيف الواقع المتجمد والجلوس أمام عتبات التاريخ في مذلة إلي دراسة إشكاليات التغيير وأدواته. فالتغيير القادم سيقود حتما إلي مواجهة حادة ومباشرة مع القوي السياسية التي تملك بزمام السلطة وهي قوي تدرك جيدا أن الحقيقة سوف تتكشف في يوم من الأيام، وأن التغيير القادم سوف يقتلعها من جذورها..لهذا نتوقع أن منظومة الحكم في المنطقة العربية سوف تقاتل بشراسة فإذا لم تتمكن في البقاء ممسكة بالسلطة..فإنها سوف تلوذ بالفرار إلي عواصم الدول التي أودعت في بنوكها أموال النهب.

فإلي لقاء نناقش فيه قضية التغيير وأدواته.

محمد فؤاد المغازي

تاريخ النشر : 29.04.2005