البَيِّـنَةُ عَلَى مَـنْ أدَّعـَـى .. والبَيـَـانُ على مَـنْ أنـْكَـرْ
ماذا لــو فعلها .. العراقيــون؟
بقلم : محمد فؤاد المغازي


محمد فؤاد المغازي
تعود فكرة كتابة هذا المقال إلي الفترة التي سبقت العدوان على العراق. ولم يكن مقالا ولكنها كانت محاولة لدراسة تسعي إلي فهم الدوافع التي حدت بالولايات المتحدة الأمريكية .. إلي أن تتعامل مع ملف أسلحة الدمار الشامل العراقية على هذا النحو، وأن تستولي على البيان العراقي المرسل إلى مجلس الأمن بهذه الطريقة.

كانت البداية ... سؤال:

لماذا تعاملت الولايات المتحدة مع المجتمع الدولي بهذا النهج السفيه والمنفر، ففرضت على الجميع بمن فيهم الدول الكبرى رؤيتها وقرارها، وبطريقة تسئ إليها .. ولا تليق بدولة هي الأعظم والأخطر في نفس الوقت؟ فهل كان سلوكها المتغطرس بسبب حالة مرضية أصابت النخبة الحاكمة بفيروس غرور القوة؟

أم أن الأهمية العلمية والتقنية التي تضمنها البيان العراقي، ودواعي الأمن جعلها لا تأبه بما يمكن أن يقال نقدا لسلوكها السفيه والمنفر؟

فمنذ اللحظة الأولي التي وصل فيها البيان العراقي إلي مجلس الأمن تعاملت الإدارة الأمريكية بحسم في أن تكون أول من يستحوذ ويضطلع عليه، وأن تقرر بمفردها ما هو مسموح أن يراه الآخرون، وما يجب أن يحجب عنهم.

بعدها تحول البيان العراقي إلي بيان أمريكي نتيجة التعديلات التي أدخلت عليه عن طريق الحذف والتعديل، ثم قامت بعد ذلك بتوزيعه على أعضاء مجلس الأمن!!!

هكذا كان النهج الذي تعاملت به الإدارة الأمريكية مع المجتمع الدولي بشأن البيان العراقي، وهو نهج لشذوذه وغرابته يحرض أي باحث على مناقشة الاحتمالات التي دفعت بالإدارة الأمريكية وجعلتها ترتكب تلك الحماقة الظاهرة.

انتهيت إلي أن السلوك المنفر والسفيه الذي أقدمت عليه الإدارة الأمريكية كان مصدره الخوف من أن يكشف البيان العراقي للرأي العام العالمي والأمريكي على وجه الخصوص أحد الاحتمالين :

الأول: أن ما يحويه البيان العراقي يكشف ويعري حجج الولايات المتحدة الأمريكية من أن العراق لم يكن يملك برنامجا جادا وحقيقيا يمكنه من امتلاك أسلحة دمار شامل، وبالتالي فإن الحديث حول أسلحة الدمار الشامل كان مسرحية هزلية خلقتها أجهزة الدعاية في الغرب وفي العراق معا.

الثاني: هو أن يكون العراق قد تمكن بالفعل من الوصول إلي برنامج علمي وتكنولوجي يمكنه من حيازة أسلحة دمار شامل، وقد تم تدميرها بالكامل، لكن بقي في حوزة العراق برنامجا مسجلا على الورق .. يمكن العودة إليه، وخبراء فنيين قادرين على إعادة بنائه وتكوينه ماديا في أي وقت. ونعتقد بأن هذا هو الاحتمال الأقرب إلي الحقيقة .. والتي لا يعرفها غير من كتبوا البيان العراقي .. ومن أطلع عليه من خبراء وقادة في الإدارة الأمريكية.

كانت تقديراتي مبنية على رصد ومتابعة المشروع الأمريكي للسيطرة الكونية .. وعلاقة المشروع بملكية أسلحة الدمار الشامل .. وكان وما زال موقف الولايات المتحدة الأمريكية يرفض (بالمطلق) في أن يمتلك أي بلد عربي على وجه الخصوص، أو أي بلد آخر خارج دائرة الطاعة لأمريكا برنامجا لحيازة أسلحة دمار شامل قد يكون من شأنه إعاقة أو تهديد استكمال مشروع السيطرة الكونية، فضلا عن ذلك فإن امتلاك العراق بالذات لأسلحة الدمار الشامل إضافة إلي أنه قد يعيق مشروع السيطرة .. لكنه بالتأكيد يشكل تهديدا للتعهد الاستراتيجي الذي قطعته الولايات المتحدة الأمريكية على نفسها حماية للأمن الإسرائيلي.

وقد كان العراق بما توصل إليه يمثل على أقل تقدير مشكلة حقيقية للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والنظام العربي .. على الرغم من صلافة النظام العراقي وجبروته. ولكي أوضح ذلك .. علينا أن نستكشف هذا من خلال عرض مختصر لنظرية الردع بشقيها المتبادل والمنفرد.

تستند نظرية الردع .. في الأساس إلي منظومة من الإجراءات الاستراتيجية والعسكرية والدبلوماسية تقوم بها حكومة ما، بقصد منع الأعداء من القيام بعدوان عليها. لكن إذا اقتنعت الدولة بأن إجراءاتها سوف تكبدها خسائر تفوق ما تطمح إليه من مكاسب تراجعت عن تلك الإجراءات.

وقد تعززت نظرية الردع بعد اكتشاف الأسلحة النووية ووسائل نقلها. وأعتقد كتاب الاستراتيجية المتفائلين أن حالة الردع المتبادل تحول دون نشوب حرب عامة، لأن القيام بأي هجوم كفيل بأن يستثير رد فعل معاكس مدمر ومكلف للطرف الذي بدء بالهجوم.

أما المتشائمين منهم .. فقالوا: أن نظرية الردع لا تمثل ضمانة أكيدة في منع نشوب حرب عامة .. خاصة إذا ما تمكنت أحد الدول المنتجة لأسلحة الدمار الشامل من الحصول على تقنية متطورة للدفاع تبطل مفعول الضربة الانتقامية للطرف الثاني. أو تمكنت دولة من تطوير أسلحة تقليدية تصل قدرتها التدميرية بما يوازي القدرة التدميرية لأسلحة الدمار الشامل .. وهذا بالفعل ما توصلت إليه الولايات المتحدة الأمريكية في زماننا الراهن.

أما التحذير الثاني الموجه للعالم من قبل علماء وكتاب الاستراتيجية .. فيتعلق بالخطر المترتب على انتشار أسلحة الدمار الشامل في المستقبل، وهو خطرا يمثل كارثة مدمرة .. إذا ما تمكن عدد كبير من دول العالم من ملكية أسلحة الدمار الشامل .. عندها يستحيل وضع تلك الدول تحت مظلة من الانضباط والمراقبة.

وبهذا تكون القدرة على إلحاق الأذى المدمر بشقيه النفسي والمادي هي أساس وفلسفة نظرية الردع، ويتحقق ذلك من خلال استخدام أو التهديد باستخدام أسلحة الدمار الشامل سواء كانت نووية، بيولوجية، كيمائية. ويتحقق الخراب الشامل أو التدمير الشامل إقليميا وعالميا من خلال استخدام أسلحة الدمار الشامل أو التهديد باستخدامها وفق نموذجين :

النموذج الأول :

أ_ الردع المتبادل حيث يمتلك فيه أطراف الصراع أسلحة الدمار الشامل. نموذج أزمة كوبا بين الاتحاد السوفيتي وأمريكا. ومثال آخر قد ظهر حديثا بين الهند وباكستان.

ب_ الردع المنفرد حيث يمتلك طرف واحد أسلحة دمار شامل .. في مواجهة طرف أعزل. نموذج إسرائيل والعرب.

النموذج الثاني:

وهو نموذج الردع من خلال التهديد بنشر رقعة أسلحة الدمار الشامل. وهذا ما يهمنا في هذا العرض. لذا، سأعود إلي البيان العراقي وما تجمع حوله من معلومات وتحليلات وأراء.

كيــــــف ؟

لقد بدء يتكشف لي أن البيان العراقي ليس 12 ألف صفحة من الورق ومجموعة من CD، وإنما هو في حقيقة الأمر مجموعة من القدرات يمكن أن تشكل في النهاية محصلة لقوة تمكن العراق في الوصول إلي حالة الردع المتبادل (النموذج الأول) بينه وبين أمريكا وبريطانيا إلي حد كبير.. وبذلك تصبح الحرب من قبل الولايات المتحدة وحلفائها على العراق مخاطرة مجنونة.

كان البيان العراقي ومازال يمثل خزان ضخم لقوة لم نتنبه إلي تفعيل تأثيرها النفسي وبالتالي تأثيرها المادي. فهذا البيان الذي يعكس واقع أشبة بالمجمع الضخم بما احتواه من قدرات علمية وتقنية كلفت العراق مليارات الدولارات أنفقت للوصول أولا إلي الحقيقة العلمية الخاصة بأسلحة الدمار الشامل .. فالوصول إلي الحقيقة العلمية لأسلحة الدمار الشامل ليس بالأمر السهل، ولا يتحقق عبر صفقة يمكن دفع تكاليفها بمجرد التوقيع على شيك. أو تؤمنه دولة حليفة أو صديقة لدولة أخري.

وما زلت أتذكر عما قيل عن محاولة مصر في طلب المساعدة من الصين كي تسهم في تطوير برنامجها النووي _كي يظل مسايرا للبرنامج النووي الإسرائيلي_ عبر وعد قطعه على نفسه شواين لاي لجمال عبد الناصر.

وعندما طلبت مصر من الصين أن توفي بوعدها، تراجع شواين لاي، وكان رده على الطلب العربي، أن هذا طريق يجب أن تسلكه كل دولة معتمدة على كفاءتها وقدراتها الذاتية. ولعل شواين لاي قد تبني في رده على مصر نفس الرد السوفيتي على طلب الصين نفسها.. حيث رفض السوفيت تقديم العون للصين في مجال دعم برنامجها النووي .. وهم أبناء أيديولوجية المفروض أنها واحدة!!

إذن ما حققه العراق في مجال الحصول على أسلحة دمار شامل كان مطلبا ملحا لدواعي الأمن القومي أكثر منه لدواعي الأمن الوطني العراقي، بغض النظر عن موقفنا من النظام العراقي.

وبهذا أتيح للعراق في مرحلة ما خلق قـَـدْرِّ من التوازن عبر نموذج " الردع المتبادل " أفسدته تقديرات وإجراءات سياسية للقيادة العراقية.

كان هذا هو واقع العراق في مرحلة ما قبل عدوان أمريكا وبريطانيا والنظام العربي على العراق. لذا لم يكن العراق في تقديري قد خسر كل شئ، وإنما كان في مقدوره أن يهدد بما تبقي لديه من أوراق للضغط على حلف الغزو القادم .. وهــــو:

" أن يلوح العراق بنشر بيانه الحقيقي الذي أرسله إلي مجلس الأمن .. على العالم كله"

فالبرنامج الذي أودعه العراق في أيدي الأمريكيين وليس في يد مجلس الأمن يؤكد على توصل العراق إلي الحقيقة العلمية لأسلحة الدمار الشامل، وأن العراق قد توفرت له خبرات يقاس عمرها بعقدين على الأقل من الزمان، وهي محصلة لجهد علماء عرب دفع البعض منهم حياته ثمنا للوصول إلي الحقيقية العلمية التي تشكل الدعامة الأولي لبناء برنامج أسلحة دمار شامل، وتكاليف باهظة تقدر بالمليارات دفعها العراق ثمنا للوصول إلي تلك القدرات.

كل هذا يقدمه العراق إلي كل دول العالم في مقابل 10 سنت..لا يطالب بتحويلها إلي حساباته.

ويوفر على كل دولة الانتظار عشرات السنين لتصل إلي ما وصل إليه العراق ، بمعني أن كل دولة سوف تبدأ من حيث انتهي إليه العراق .. وفي خلال دقيقتين على الأكثر.

كذلك يوفر العراق بنشر بيانه على دول العالم حماية أرواح علماء الآخرين .. وتوفر عليهم التقدم في طلب عون لن يحصلوا عليه من أي طرف آخر .. مهما كان نوع العلاقات التي تربطها بذلك الطرف، وما جري مع إسرائيل وحصولها على كل المساعدات المعلوماتية العلمية والفنية والمادية من الغرب يمثل شذوذا وخروجا على قاعدة صارمة تحكم نشر أسلحة الدمار الشامل.

والبرنامج العراقي هو في نهاية المطاف ومن غير مكابرة .. سيفرض أوضاعا جديدة على صعيد السيادة والأمن، فهو يمثل خطوة مهمة بالنسبة لأغلبية الدول التي لا تملك أسلحة دمار شامل في أن تستعيد أمنها وسيادتها لمجرد معرفتها بالحقائق العلمية لأسلحة الدمار الشامل .. وبذلك تضع نهاية لحالة الابتزاز المستمرة للدول التي في حوزتها أسلحة الدمار الشامل لدول لا تملك أوراقا للتوت تكفي غطاء لعوراتها الأمنية وفي المقدمة منهم الدول العربية.

بعدها جاء دور الإجابة على السؤال هل يستطيع العراق توصيل تلك المعلومات التي تضمنها بيانه المرسل لمجلس الأمن .. إلي العالم؟

الجواب : نعـــــم.
كيف؟
فالإعلان الذي يحتوي على أكثر من 12 ألف صفحة يمكن تحميلها على CD واحدة سعتها 880 MG .. وبعد لحظات ستتكفل الإنترنت بإتمام المهمة. بعدها يصبح التقرير في حوزة كل دول العالم..بدءا بيجيبوتي وانتهاء بتوصيل نسخة ثانية للإدارة الأمريكية والبريطانية..منقحة وأكثر تفصيلا.

دواعي النشــر:
أولا: أن العراق في نشره لبيانه كان مدفوعا بالبحث عن وسائل تجنبه عدوانا خارجيا لا يُنـْكِـرُهُ العازمين على تنفيذه. فقد استبدلت الإدارتين الأمريكية والبريطانية قرار مجلس الأمن المتعلق " بإزالة أسلحة الدمار الشامل " بقرار مخالف ومنفرد يستهدف " إزالة النظام السياسي " القائم في العراق.

ثانيا: لقد سجلت الإدارتين الأمريكية والبريطانية على أنفسهم وأمام كل العالم أنهم الطرف الذي يهدد بالعدوان ويستعد للغزو المسلح لدولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة. الأمر الذي يعطى العراق كامل الحق في أن يمارس كل وسائل الدفاع المتاحة .. دفاعا عن نفسه وفقا لنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.

ثالثا: أن العراق سوف يبرر إجراء نشر إعلانه برغبته في أن يشرك أكبر عدد من العلماء والخبراء من جميع أنحاء العالم .. ومن بينهم علماء أمريكيون وبريطانيون ليقدموا شهادتهم العلمية والتقنية حول ما جاء في البيان العراقي، بغية التوصل إلي تقييم علمي ومهني محايد من شأنه أن ينصف العراق، وبالتالي يجرد الإدارتين الأمريكية والبريطانية من أي سند يبرر عدوانهم على الشعب العراقي .. وهذا ما ثبت التأكد منه الآن.

رابعا: أن نشر البيان العراقي من وجهة نظر العراقيين كان سيسهل على المجتمع الدولي بجميع مؤسساته الإقليمية والدولية والعلمية في تحديد موقفهم بشكل واضح وحازم من قضية الغزو والعدوان على الشعب العراقي .. وهذا ما حدث بالفعل على مستوي حركة الشارع العالمي وَتـَمَثـَّلَ في المظاهرات التي غطت الكرة الأرضية .. وتحولت إلي ظاهرة متفردة في تاريخ البشرية .. في الوقت الذي كانت هناك مواقف خجولة ومتواطئة لدول كثيرة .. أما النظام العربي فكان يتعامل مع الشأن العراقي حربا وسلما بنهج تآمري.

خامسا: إن السلوك العدواني الذي تمادت فيه إدارتي بوش وبلير تجاه النظام العراقي لم يترك للنظام العراقي غير البحث عن أسباب تمكنه من المقاومة والدفاع عن وجوده .. وبأي طريقة وبأي ثمن .. خاصة بعد أن تأكد للنظام العراقي أن العدوان واقع لا محالة، وكانت المؤشرات قاطعة وظاهرة في التبليغ الاستراتيجي الذي وصل إلي قيادة القوات المسلحة الأمريكية والبريطانية للإطاحة بالنظام السياسي، أو من خلال الدعوة والتحريض بقتل رموز النظام وتأييد الانقلاب عليهم عبر الجيش العراقي.

كل هذا وغيره قد وضع النظام العراقي وظهره للضياع .. ولم يعد هناك ما يخسره، لهذا أقدم النظام العراقي على نشر إعلانه على العالم، وإذا كانت النتائج المترتبة على نشر الإعلان مدمرة وشاملة، فسيكون المسئول عنها أمام الرأي العالم العالمي والأمريكي والبريطاني هما الإدارتين الأمريكية والبريطانية، وليس صدام حسين وحده.

سادسا: إن إدارتي بوش وبلير قد وضعوا الدولة الأمريكية والبريطانية في خصومة مكشوفة مع النظام العالمي ومواثيقه المتمثلة في " القانون الدولي " و " ميثاق الأمم المتحدة " الأمر الذي قوض كل ادعاءاتهم بالحرص على أمن ومصالح المجتمع الدولي.

فأصبحت الإدارتين في موقع الخارجين على الشرعية الدولية ومواثيقها، وأن أدلة العدوان المتمثلة في موقفي بوش وبلير أدلة يصعب التحايل عليها من خلال تفسيرات مغلوطة فيما بعد، خاصة بعد أن أصبح العالم يمثل شاهد إثبات، وطرفا فاعلا في الأزمة .. وبالتالي فإن بوش وبلير قد وضعوا أنفسهم في موقع مجرمين حرب يجب القصاص منهم.

غير أن الأهم .. والمترتب على هذا كله هو حال العالم بعد نشر الإعلان العراقي؟
وهنا لا أقدم تفسيرا، وإنما أطرح مجموعة من الاحتمالات والأسئلة .. من بينها مثلا :
_أن نشر الإعلان العراقي سيكون بمثابة نقطة تاريخية فاصلة في حياة البشر. ولسوف يقال عالم ما قبل النشر، وعالم ما بعد النشر. أما أبرز سمات عالم ما بعد النشر ستكون بالتأكيد ظاهرة العنف والتهديد والابتزاز وبأساليب خطيرة لم تعرف من قبل، وستخلق حالة يستحيل السيطرة عليها مرة أخري والعودة إلي الحالة الكونية السابقة على نشر الإعلان العراقي.

_ أن عالم ما بعد النشر والحالة الكونية الجديدة سوف تساهم بفعل الواقع الجديد في تشكيل جماعات وتنظيمات جديدة بأفكار وأيديولوجيات ومعتقدات تتناسب في أهدافها وأساليبها مع المناخ السائد. ولا نعتقد أن المصالح الأمريكية والبريطانية والغربية عموما سوف تكون في مأمن. ولن يكون في مقدور أمريكا وحلفائها القدرة على فرض رؤيتها وشروطها على الآخرين. أشك في هذا كثيرا كثيرا.

_ أن عالم ما بعد النشر لن يكون الابتزاز فيه قاصرا على الدول التي كانت تملك أسلحة دمار شامل قبل نشر الإعلان، وإنما سيتسع نطاق الابتزاز والتهديد ليشمل المنتجين الجدد. ولن ينحصر نطاق التهديد باستخدام أسلحة الدمار الشامل في نطاق الصراعات الإقليمية والدولية، وإنما سيصل إلي التهديد باستخدامها في فض نزاعات محلية وفي إطار المجتمع الواحد.

فالبيان العراقي سيصل بكل تأكيد إلي أيدي قوي سياسية معادية للمشروع الغربي _ الصهيوني، وإلي الجماعات الأصولية بكل أطيافها السياسية والعقائدية في العالم، ويأتي تنظيم القاعدة _ بعبع الغرب_ في المقدمة منها. وهي في مجملها قوي منتشرة على رقعة جغرافية وسياسية يتعذر وضعهم تحت أي شكل من أشكال المراقبة أو السيطرة، أو القدرة على تهديدهم بالعقاب، العكس هو الصحيح.

فماذا لو تمكن تنظيم القاعدة أو غيره من التنظيمات الأصولية المتعصبة .. من الاستعانة بما ورد في التقرير العراقي من معلومات تساعدهم في صنع أسلحة تدمير شامل؟ ليس بالضرورة أن تكون أسلحة نووية .. وليس بالضرورة أن تكون أسلحة كيمائية أو جرثومية في مستوي نقاء ونظافة أسلحة الدمار الشامل لحلف الناتو. فلتكن أسلحة دمار شامل قذرة لكنها قادرة على التدمير الشامل لمن صنعت من أجلهم، ووسيلة ابتزاز تنحني أمامها كل الرؤوس بدءا برأس بوش وبلير وانتهاء برأس الرجاء الصالح.

_ ماذا لو تمكن الفلسطينيون، أو أي شعب آخر حرم قصرا من حقوقه التاريخية، من تصنيع أسلحة دمار شامل (كيمائي أو جرثومي) حتى وإن كانت بشكل بدائي؟ أليس في هذا ما يحقق لهم شكلا من أشكال الردع المتبادل .. والمتوازن إلي حد ما، وبالتالي يمكنهم من موقف تفاوضي أقوي وأفضل؟ وهل أبالغ إذا ما قلت أن حصول الفلسطينيون على أسلحة دمار شامل جرثومية أو كيمائية سيكون أيسر عليهم من حصولهم على عدد من قاذفات RBG.

_ وهل أبالغ إذا ما قلت أن من بين الكوارث التي ستترتب على نشر البيان العراقي هو ظهور جماعات جديدة من المافيا تتولى توظيف الاستثمارات في مجال إنتاج أسلحة الدمار الشامل وعرضها للبيع، وبأسعار سيراعي أن تكون في مقدرة الجميع.

_ وماذا بعد خمس..أو عشر سنوات عندما تصبح قدرات الدول القادرة على امتلاك أسلحة دمار شامل أضعاف أضعاف ما هي عليه الآن؟ هل سيصبح في مقدور الأمريكيين أو حلف الناتو بأكمله التلويح بالتهديد وبفرض الحصار على أحد؟

_ ألا يفسر توسيع رقعة الناتو في أوروبا وغيرها .. وعبر نموذج جديد يعرف بالدول الحليفة والصديقة رقم واحد للولايات المتحدة الأمريكية، هو شكل من أشكال وضع أكبر عدد من دول العالم تحت الرقابة والوصاية الأمريكية .. حتى لا تتطلع لحيازة أسلحة دمار شامل؟

_ ما هو حال البيئة الكونية؟ وهل يتحمل الغرب الحر والديمقراطي وسكانه المنعمين .. العيش وراء كمامات، وأن يسيروا في الشوارع كالأشباح؟

_ ما هو حال العالم الذي سيعيش وبصفة دائمة على حافة الهاوية، وانعكاسات هذا كله على الأداء الاقتصادي العالمي للدول المتقدمة .. ناهيك عن دول المعونات؟ ماذا ستكون عليه حال الأسعار؟ العمالة؟ التبادل التجاري؟ وهل سيكون هناك من يهتم بالتنمية .. ولمن إذا كان العالم يسير إلي نهايته؟

_ ماذا سيكون حال العالم إذا ما أصيب الاقتصاد الأمريكي بالعطب، ونتائج ذلك على الاقتصاد العالمي بأكمله، باعتبار أن الاقتصاد الأمريكي يمثل عصب الاقتصاد العالمي وقاعدته.

_ ما هو حال العالم إذا ما توقف أو تراجع انتقال رؤوس الأموال في العالم والتي تقدر بأرقام فلكية في اليوم الواحد؟

_ ما هو حال العالم إذا ما توقفت أو تباطأ انتقال مصادر الطاقة إلي المجتمعات المستهلكة؟ بل أكثر من هذا..هل تمتلك الإدارتين الأمريكية والبريطانية القدرة على تأمين بقاء منابع النفط بغير تدمير شامل؟

_ ما هو حال العالم إذا ما امتلكت غالبية أطراف الصراع الحضاري أسلحة دمار شامل؟ هل سيكون حسم الصراعات وفض المنازعات بعد ذلك عبر الحوار بالكلمة وبالحجة؟ أم بالجمرة الخبيثة؟

إن التحذيرات التي قال بها كتاب الاستراتيجية كانت صحيحة. وأن خطر انتشار أسلحة الدمار الشامل خطر حقيقي، وسوف يظل تهديده قائما، طالما أن هناك دولا تمتلك أسلحة دمار شامل تهدد بها ألآخرين وتبتزهم.

ولقد كشفت التصريحات التي أطلقها جورج بوش في 12/2/2004 لتؤكد على أن اتساع فرص انتشار أسلحة الدمار الشامل خاصة (الكيميائي والبيولوجي) ممكنة، وأن انتشارها هو مسألة وقت، وقد أصبح في مقدور الراغبين في الحصول عليها من إنتاجها داخل الولايات المتحدة وبمواد ومعدات يمكن شرائها من السوق الأمريكي ومن أسواق دول الابتزاز .. لكن تظل الحقيقة العلمية لإنتاج تلك الأسلحة غائبة عن الكثيرين .. وهي في حوزة العراق.

لهذا جاءت تعهدات بوش للأمريكيين تعبيرا حقيقيا عن حالة الرعب التي تعيشها الإدارة الأمريكية.. وعكست الإجراءات التي تضمنها بيان بوش .. عن حجم الكارثة التي ينتظرها الجميع .. فقد ورد في بيانه ما يلي :

1_ تفكيك الشبكات التي تبيع أسلحة الدمار الشامل ومكوناتها في السوق السوداء.

2_ تعزيز القوانين المتعلقة بمكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل في دول العالم كافة.

3_ حس مجلس الأمن الدولي على تمرير قرار يوجب على الدول كافة تجريم عملية انتشار أسلحة الدمار الشامل مع تشديد الرقابة على الحدود وتأمين المواد الحساسة.

4_ حس الدول الأربعين التي تصنع المكونات النووية على حظر بيع المعدات والتكنولوجيا للدول لا تملك معدات لتخصيب اليورانيوم أو محطات للمعالجة .

5_ الدعوة لاستصدار تصديق من مجلس الشيوخ الأمريكي على البرتوكول الإضافي لمعاهدة منع انتشار ألأسلحة النووية، ويقتضي البرتوكول من الدول الإعلان عن أنشطتها النووية والسماح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بتفتيش منشئاتها النووية.

هذا هو بيان بوش..مجموعة من الإجراءات الآمرة يتوعد بها من لا يطيعه من دول العالم، رجل صعب أن يتعلم، وأن يدرك أن الأمن القومي لأي بلد .. هو جزء من الأمن العالمي، فلا يتحقق الأول إلا في نطاق الأخير.

لكن على ما يبدو أن جورج بوش وإدارته يمثلان خطرا يهدد الأمن القومي الأمريكي والأمن العالمي .. وأن الإدارة الأمريكية لم تتعلم من أن أهم ما كشفت عنه أحداث 11 من سبتمبر من عام البرجين أنها أظهرت أنه لا توجد دولة خارج إطار دائرة الإصابة والتصويب. وعندما تكون الإصابة والتصويب تتعلق بدولة تتسع دائرة الكراهية لها في العالم كل يوم .. فإن إصابة أمنها القومي هو أكثر الأهداف عرضة للعطب.

ملحوظة أخيرة أعتقد أنها تهم العرب بالدرجة الأولي .. وهي حول واقعة العالم الباكستاني عبد القدير خان وما كشفت عنه :

أولا: أن نشر أسلحة الدمار الشامل ممكن وبأسهل مما يعتقده الكثيرون، وأن الرقابة والسيطرة على علماء دولة واحدة، هي مجرد أمنية أكثر من كونها حقيقة. أننا نعتقد أن كل ما فعله العالم الباكستاني هو أنه نقل معلومات ورسومات، ولم يقم بنقل معدات تكنولوجية لصعوبة إخفائها وتسريبها .. خاصة وأن الحديث كان مرتبطا بأسلحة نووية فقط.

ونعتقد .. أن هذه المعلومات وغيرها بالتأكيد كانت في حوزة العراقيين.

ثانيا: في الوقت الذي أصبح فيه العالم الباكستاني في دائرة الضوء، فإن هناك مفارقة غريبة لا أجد لها تفسيرا من قبل أجهزة الدعاية ووسائل الإعلام في العالم وتتعلق بالعلماء العراقيين .. فبدون مقدمات أو تفسيرات اختفت أخبارهم، وحجبت الأضواء المسلطة عليهم، وتوقفت الأحاديث التي كانت تملأ الدنيا عنهم وأصبحوا مجرد ذكري!!!

فلم يعد يهتم بهم أحد، وأصبح مجرد السؤال عما يجري معهم الآن وفي ظل الوجود الأمريكي البريطاني في العراق أمرا لا يهم أحد .. وحتى بعد نشر خبر يقول أن هناك أكثر من ثلاثين عالما عراقيا قد قتلوا منذ احتلال العراق !!!!!

فهل يمكن بلع وهضم ما يجري بشأن العلماء العراقيين الذين كانوا في يوم قريب من أهم القضايا التي يناقشها مجلس الأمن، ويمثلون الموضوع الأول على أجندة الصحافة في العالم، والمدرجين على لائحة التصفية بالقتل من قبل المخابرات الأمريكية والبريطانية والإسرائيلية على وجه الخصوص، ومثلوا بالأمس القريب للإدارتين الأمريكية والبريطانية أفضل المبررات للعدوان على العراق.!!! يا سبحان الله!!!

أصــــــــل إلي القــــــــول :
أن نشر البيان العراقي كان من الممكن أن يمثل كارثة تهدد العالم.
ورغم هذا لم يفعلها العراقيون. ورغم هذا لم يفعلها العراقيون. ورغم هذا لم يفعلها العراقيون.

وكان من الممكن أن يقود نشر البيان العراقي إلي وقفة جادة للمجتمع الدولي يستكشف حجم الأخطار المدمرة لوجوده. ويتيح أمامه الفرصة للبحث عن منهاج جاد وجديد لقواعد التعامل بين الدول. فإما أن يسود أمن دولي على قاعدة توازن الرعب بين الكل. أو أن يتم نزع أسلحة الدمار الشامل ومن الكل. وأن يحتكم العالم إلي قانون دولي واحد يتساوى أمامه الجميع، وتطبق أحكامه على الجميع بغير استثناء، وأن يكون للجميع ضمانات أمن عبر ميثاق أممي جديد لا يميز بين دولة كبري أو صغري.

قد يقول قائل أن ما أكتبه هو تعزيزا وتأييدا للموقف الأمريكي والبريطاني .. بأن العراق كان يمثل خطرا على الآخرين .. وهذا ليس صحيحا، فالذي يمثل خطرا يهدد العالم هو وجود أفراد على شاكلة بوش وبلير يمتلكون من وسائل القوة والقرار ما يمكنهم من ابتزاز الآخرين، وفي تهديد الأمن والسلم الدوليين.

كذلك فإن الحديث هنا يجري عن حالة العراق قبل أن يتم تجريده من أسلحة الدمار الشامل والقدرة على استئناف إنتاجها مرة ثانية. فلم يعد العراق يمتلك غير الحقيقة العلمية النظرية فقط.

وأجزم .. وأجزم أن من أهم دوافع الحرب الأساسية على العراق كان إصرار الأمريكيين وغيرهم على محو الملف العلمي لأسلحة الدمار الشامل (وخاصة البرنامج البيولوجي والكيميائي) .. سواء كان هذا الملف مخبأ في خزائن من الصلب، أو خزائن أصلب هي عقول العلماء العراقيين .. إضافة إلي تحقيق أهداف ومكاسب رئيسية .. كالقول بأن أمريكا وبريطانيا أشعلوا حربا لحساب طرف ثالث هو الكيان العنصري الصهيوني .. والاستيلاء المباشر على منابع النفط .. وتغيير جغرافي واجتماعي وسياسي وثقافي ومؤسسي وحتى ديني للمنطقة العربية بما يحقق بعد فترة زمنية تصفية تاريخية لأمة العرب.

إن التدليل على صحة أو خطأ ما طرحته من أفكار تحدده الإجابة على سؤالين :

الأول: هل يساهم نشر البيان العراقي ( المتضمن الحقائق العلمية والتقنية حول أنتاج أسلحة الدمار الشامل والتي بررت العدوان على العراق) على العالم في توسيع رقعة انتشار أسلحة الدمار الشامل؟

إذا كانت الإجابة بلا .. فلا داعي لقراءة السؤال الثاني أصلا .. وعندها فإني أعتذر لكل من أضاع وقته في قراءة هذا المقال.

أما إذا كانت الإجابة على السؤال الأول بنعــــــــــــم.

فإن السؤال الثاني المطروح:

هل تستطيع الدول المتقدمة في مجال الانترنت من منع عرض البيان العراقي على الانترنت؟

إذا كانت الإجابة بنعم .. عندها تصبح محاولة نشر البيان العراقي على العالم بغير ذي قيمة .. ويصبح ما طرحته لا يعدوا عن كونه تحذير.

أما إذا كانت الإجابة باستحالة المنع .. وأن ما تضمنه البيان العراقي سيصل إلي الجميع عندها يتأكد لنا أن العراق كان في مقدوره أن يمنع الحرب من خلال نموذج الردع المتبادل.

وأخيــرا .. إن ما كتبته وتوصلت إليه كان قبل اندلاع الحرب .. وقبل أن يعلن جورج بوش بيانه على العالم في 12/2/2004. كما حاولت أن استأنس برأي آخرين من بينهم أخي وصديقي الأستاذ محمد عبد الحكم دياب الكاتب والمفكر القومي بجريدة القدس الصادرة في لندن .. والذي ساهم بدوره في ترتيب لقاء جمعنا مع الأستاذ عبد الباري عطوان رئيس التحرير .. والذي سهل هو الآخر بدوره في طلب لقاء مع الزعيم العربي وأحد رموز حركة التحرر العالمي الرئيس أحمد بن بللا .. عندما حضر إلي برلين.

غير أن فرصتي في الشرح والتفصيل كانت أفضل بكثير مع الأستاذين محمد عبد الحكم دياب وعبد الباري عطوان منها مع الرئيس أحمد بن بللا .. وكانت تخوفاته أن نشر البيان العراقي يعطي المبرر للإدارتين الأمريكية والبريطانية بأن العراق بالفعل يشكل خطرا على العالم، وبالتالي يسهل العدوان ويبرره.

ورغم أن تفسير الرئيس بن بللا قد أكد لي معقولية ما توصلت إليه .. لكن فرصتي لشرح الفكرة متكاملة لم تكن متاحة بفعل ارتباطاته وضيق وقته، وتركت له نسخة من هذا المقال التفصيلي.

وفي النهاية فإنني اترك لمن تحاورت معهم وناقشتهم حرية الاختيار أن يصادقوا على ما ورد في هذا المقال، فالمقال وصاحبه لا يدعي الحكمة بأثر رجعي .. إنها معايشة لمواطن عربي .. يشعر بهموم أمته مثل ملايين آخرين .. قد يخطأ أو يصيب لكنه يرفض أن يتحجر .. أو يستسلم.

محمد فؤاد المغازي

تاريخ النشر : 23:48 25.08.04