نصر أكتوبر العسكري .. ودور النخبة في دعم الثورة المضادة (2)
بقلم : محمد فؤاد المغازي

محمد فـؤاد المغازي
استشعرت خياشيم النخبة الليبرالية بأن توجهات السادات سوف تفضي إلي تغيير في البنية الأساسية في المجتمع العربي في مصر، وسينعكس هذا بالضرورة على مجمل علاقاته المحلية والإقليمية والدولية. وكانت مؤشرات التغيير قد ظهرت في العديد من الإشارات .. من بينها جنسية الشخصيات والوفود الأجنبية والعربية التي بدأت تدفق على عاصمة العرب القاهرة، إضافة إلي الإشارات الصادرة عن السادات ومعسكره.

كما جرت حركة تغييرات شملت قيادات مؤسسات الأمن ( الجيش ، والشرطة ) .. والتي أعلنت فورا عن ولاءها وتأييدها لقائد الثورة المضادة أنور السادات. إلا أن التغييرات التي جرت في إطار مؤسسة الدعاية ( الإعلام ) مع بداية عام 1974 كانت تحمل دلالات للتغيير واضحة تنبؤ بأن الهجوم الشرس على التجربة الناصرية وعبد الناصر قد اقترب موعده.

ففي 31/1/1974 أصدر السادات قرارا بإبعاد محمد حسنين هيكل عن رئاسة جريدة الأهرام، ليحل محله على أمين في 2/2/1974 وهو شخصية أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها شخصية معادية لعبد الناصر والناصرية ولها علاقات مشبوهة بأجهزة المخابرات البريطانية والسعودية.

وفي 27/1/1974 أفرج السادات عن مصطفى أمين الشقيق التوأم لعلي أمين، والذي صدر بحقه حكما بالسجن لقيامه بالتجسس لحساب المخابرات الأمريكية، وقد أسند إليه السادات رئاسة تحرير جريدة الأخبار.

ويذكر هيكل..أن الشخصيات التي توسطت لدى الرئيس السادات للإفراج عن مصطفي وعلي أمين، كانوا هنرى كيسنجر، وسلطان أبن عبد العزيز شقيق الملك فهد، وكمال أدهم رئيس المخابرات السعودية.

كما سمح السادات بعودة أسرة أبو الفتح وهى أسرة إقطاعية كان محمود أبو الفتح يمتلك جريدة "المصري" ويتولى أخوه أحمد أبو الفتح رئاسة تحريرها، وكان معروفا للمصريين أن حسين أبو الفتح قد تولى إدارة إذاعة مصر الحرة الموجهة بالعداء لثورة يوليو وعبد الناصر أثناء العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956، وكان مصدر تمويل هذه الإذاعة يأتي من المخابرات البريطانية.

ويشير د. سمير أمين .. إلي أن الرئيس السادات أعاد الاعتبار للعديد من العملاء من سياسي النظام القديم المعروفين بميولهم الأمريكية، مثل الأخوين مصطفى وعلي أمين، ولكبار الملاك العقاريين الذين حاولوا مقاومة الإصلاح الزراعي، ولرجال أعمال مفسدين، ليضعهم في مواقع قيادية أساسية.

..........

بعد أن اطمئن السادات إلي أن الكوادر الناصرية المؤمنة بمشروع النهضة لثورة يوليو والتي قاتلت من أجله ودخلت في مواجهة مع السادات ومع غيره من رموز نظامه قد تم لفظهم من نظامه الجديد، وأن الرموز المتبقية في السلطة والتي كانت محسوبة على التيار الناصري قد استبدلت جلودها وأصبحت تقاتل في الصفوف الأولي في معسكره.

انطلق قائد الثورة المضادة ومن خلفه رهط من الأفاقين اللبراليين يشاركهم جماعة الإخوان .. في حملتهم على ثورة يوليو وجمال عبد الناصر لتمهيد المسرح السياسي لمشروع الثورة المضادة .. المجهول الملامح لغالبية أبناء المجتمع العربي .. والذي ستتكشف ملامحه بالتدريج مع مستقبل الأيام.

ضمت قائمة النخبة من اللبراليين المتذبذبين مجموعة من الصحفيين والكتاب .. من أمثال نجيب محفوظ، د. مصطفي محمود، د. فؤاد زكريا، وثروت أباظة، صالح جودت، أنيس منصور، جلال الدين الحمامصي، والأستاذ توفيق الحكيم الكاتب المسرحي الشهير.

والغريب أن جميع هؤلاء الكتبة اشتهروا بتأييدهم المطلق لعبد الناصر عندما كان يملك بيده مفاتيح السلطة، بل إن غالبيتهم حققوا مجدهم الأدبي والصحفي في ظل نظامه، وكانوا أكثر من غيرهم تمتعا بممارسة كامل الحرية في نقد جوانب التجربة الناصرية.

لكن توفيق الحكيم تفرد عن غيره من أفراد تلك النخبة بمكانة متميزة عند جمال عبد الناصر .. الذي وضعه في منزلة ومكانة الأب الروحي لثورة 23 يوليو، فهو الكاتب الذي مهد لظهور " البطل المنتظر" الذي سيحيى الأمة من رقادها .. في روايته "عودة الروح" عام 1933.

ووقف عبد الناصر إلي جوار توفيق الحكيم في مواجهة أحد وزراءه لأنه أعفي توفيق الحكيم من منصبه في دار الكتب، كما منحه جمال عبد الناصر عام 1958 " قلادة الجمهورية "، كما حصل على جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 1960، ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى في نفس العام.

وأهم من هذا كله .. ففي الفترة التاريخية من حكم عبد الناصر لم يمنع لتوفيق الحكيم عمل واحد من أعماله الأدبية أو النقدية. على العكس تماما، فقد مارس الحكيم نقده للنظام الناصري في روايته السلطان الحائر بين السيف والقانون في عام 1959، وبنك القلق عام 1966 .. وكان الموضوع المحوري للكتابين هو الدفاع عن قضية الديمقراطية وبشكل مباشر ونقدي للنظام الناصري .. يضاف إلي هذا أن توفيق الحكيم كان يتمتع بمميزات من بينها أن أبواب مكتب جمال عبد الناصر كانت مفتوحة له في أي وقت وبغير تحديد لموعد.

هذه العلاقة الفريدة والمتميزة جعلت توفيق الحكيم يتباهى ويفتخر بها.. ففي مقال له في جريدة الأهرام في 15/3/1965 _أي بعد 13 عاما من حكم جمال عبد الناصر_ كتب يقول:

" اخترته بالفعل منذ ثلاثين عاما يوم تصورت الزعيم الذي ننتظره ليعيد إلينا الروح ويجعل من شعبنا الزراعي شعبا صناعيا، ويصنع معجزة أخرى كالأهرام.

اخترته يومئذ لبلادنا وانتظرته، وظهر وعجبت للحلم الذي تجسد حقيقة بهذه السرعة وبهذه الروعة وبهذا الوضوح. ثم بدأ الحلم يواجه الواقع في تفصيلاته وتعقيداته…فكنت أتابع الزعيم على البعد في مواجهة الزوابع وأضع نفسي بالخيال موضعه. وأرسم في مخيلتي خططا للنجاة أو للفوز فإذا بي أفاجأ في أكثر الأحيان "بالزعيم" وقد خرج من الموقف أبرع وأحكم مما تصورت ورسمت.

وفى أحيان أخرى أوفق إلى رأى يعجبني في أمر من الأمور، فإذا بي، أجده قد سبقني إليه. وكان تفكيري وتفكيره على صله، مع أنني لم أقابله في حياتي أكثر من خمس دقائق.

ثم أجده أحيانا قد صدم الناس بقرار جرئ. فأخلو إلى نفسي أحلل في هدوء ظروفه ومراميه، فإذا بي أجد أنى لو كنت في موقفه لما فعلت غير ما فعل.

هذه الصلة الخفية بيننا على البعد ما سرها، سرها بسيط: وحدة الينبوع. الينبوع الصافي الذي هو قلب الوطن...من هذا القلب الصافي خرج هذا الزعيم كما خرج كل فرد من أفراد أمته. لهذا كان اندماج الناس فيه...وكان حبهم له...وكان انتصاره.

أما بالنسبة لي أنا...فأكثر من الحب. هناك الحلم...الحلم الذي تصورته والتصق بوجودي وتفكيري...نعم الحلم والأمل. ولم يتخلى إنسان عن حلمه أبدا."

أما نجيب محفوظ فما زلت أحتفظ له بحوار جري بين الشعب وجمال عبد الناصر، من نسج خيال روائي متمكن من صنعته .. فكتب يقول:



" الشعب: إني أحني رأسي حبا وإجلالا.
ناصر: تحية متقبلة ولكن لا تنسي ما سبق من قولي "أرفع رأسك يا أخي".
الشعب: إن عشرات التماثيل لن تجعلك في خلود الذكري.
ناصر : لا تنسوا تمثالين أقمتهما بيدي وهما "الميثاق" و "بيان 30 مارس".
الشعب: وراءك فراغ لن يملأه فرد.
ناصر: ولكن يملأه الشعب الذي حررته.
الشعب: سيبقي ذووك في صميم الأفئدة.
ناصر: أبنائي هم الفلاحون والعمال والفقراء.
الشعب: وجدت قرة عيني في توديع الكرة الأرضية لك.
ناصر: أما قرة عيني ففي استقلال الوطن العربي والحل العادل لأرضه الشهيدة.
الشعب: سيكون أحب الطرق إلي نفسي الطريق إلي مسجدك.
ناصر: طريقي الحق هو الطريق إلي العلم والاشتراكية.

وإذا كان نجيب محفوظ قد انقلب هو الآخر ونسي ما قاله عن الأرض العربية الشهيدة، ففي مقابلة أجراها معه صحفي اشتهر بالنفاق ويعرف في الوسط الصحفي في مصر بإسم " مستفيد فوزي " أن حل الصراع العربي _ الإسرائيلي هو تطبيق ما ورد في أغنية المطرب الشعبي أحمد عدوية ( سيب .. وأنا سيب ).

قد يعتقد القارئ أنني أستظرف أو أقول نكته، ويشهد الله أن هذا ما قاله بالفعل نجيب محفوظ .. رأيته بعيني .. وسمعته بأذني على شاشة التلفزيون .. حتى أن هذا الدعائي المنافق اعترته هو الآخر دهشة، وأراد أن يتأكد مما قاله نجيب محفوظ .. فأعاد السؤال وأعاد نجيب محفوظ الرد عليه بنعم " سيب .. وأنا سيب" وذكره مستفيد فوزي بأن هذه هي أغنية لأحمد عدوية أجابه نجيب محفوظ .. أعرف !!!!

كان الانقلاب الذي أقدمت عليها تلك الرموز من نخبة الأفاقين الليبراليين قد تركت أثرا سلبيا على أبناء جيلي، فجميعنا كنا تلاميذ لهم بشكل أو بآخر، وتأثرنا بما كتبوا، ولم يكن في كتاباتهم ما يشير ولو بالإيحاء أن ثورة يوليو وجمال عبد الناصر على هذا النحو السيئ، وبالصورة التي يروجون لها في زمان الثورة المضادة.

انقلبوا على أعقابهم وتركونا نتخبط أيهما نصدق؟ كتابات نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم وغيرهم في زمن عبد الناصر؟ أم كتابات نجيب محفوظ والحكيم وغيرهم في زمن السادات؟ النتيجة كانت حسرة شاملة لأبناء جيلي !!!

.......

انقسمت كتائب الأفاقين الليبراليين إلي مجموعتين .. مجموعة تقود الحملة على ثورة يوليو وقائدها رافعين شعار الديمقراطية. أما المجموعة الثانية فرفعت شعار الانفتاح الاقتصادي في مواجهة التنمية الاقتصادية الرائدة .. ناعتين إياها بالانغلاق الاقتصادي الذي فرضته ثورة يوليو وعبد الناصر على المجتمع المصري.

بدأ توفيق الحكيم مشاركته في الحملة الموجه ضد ناصر والناصرية بنشر كراسته صغيرة بعنوان "عودة الوعي" عام 1972 والتي ترتب على ظهورها ضجة إعلامية صاخبة. ففي هذا الكتيب لخص الحكيم موقفه من التجربة الناصرية والتي بدأت كما يذكر توفيق الحكيم: يوم الأربعاء 23 يوليو 1952 حتى يوم الأحد 23 يوليو 1973، فيصفها بأنها كانت مرحلة عاش فيها الشعب المصري فاقدا الوعي، مرحلة لم تسمح بظهور رأى في العلن مخالف لرأى الزعيم المعبود.

كما أشار الحكيم في كراسته "عودة الوعي " بأنه لا يكتب تاريخا، وإنما مشاهد ومشاعر استرجعها من الذاكرة، ويعترف بخطئه ويبرره بأنه قد سار خلف الثورة بدون وعي:

" العجيب أن شخصا مثلي محسوب على البلد هو من أهل الفكر قد أدركته الثورة وهو في كهولته يمكن أن ينساق أيضا خلف الحماس العاطفي، ولا يخطر لي أن أفكر في حقيقة هذه الصورة التي كانت تصنع لنا، كانت الثقة فيما يبدو قد شلت التفكير."

"...سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتى غاب عنا الوعي. اعتدنا هذا النوع من الحياة الذي جعلتنا فيه الثورة مجرد أجهزة استقبال، ويضيف كيف استطاع شخص مثلي أن يري ذلك ويسمعه وأن لا يتأثر كثيرا بما رأي وسمع ويظل علي شعوره الطيب نحو عبد الناصر. أهو فقدان الوعي. أ‎هي حالة غريبة من التخدير."؟

والسؤال: ألم يتحقق بالفعل تغيير في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمجتمع العربي في مصر، والمجتمع العربي بشكل عام؟

كيف يمكن لكاتب مهما بلغت خصومته أو عداءه أن يتجاهل ما تحقق على الأرض؟ لقد حققت الثورة نقلة نوعية في مجال القطاع الزراعي .. يشهد عليها معدل استصلاح الأراضي البور، وما طرأ من زيادة واضحة في الإنتاج القومي لقطاع الزراعي .. سوف أتعرض لها بالتفصيل في مقال لاحق.

كما بدأت مصر تعيش تغيرا تاريخيا في مجال القطاع الصناعي .. يشهد على ذلك زيادة أعداد المصانع الحديثة بمقياس زمانها، تضاعف نصيب الفرد في الطاقة، الزيادة العددية والمتصاعدة في طبقة العمال، زيادة الإنتاج الوطني في قطاع الصناعة الذي قفز ليصبح القطاع رقم واحد في صادرات مصر بعد أن كان هذا من نصيب قطاع الزراعة قبل قيام الثورة ..

ويتحول القطاع الصناعي الملحق بوزارة التجارة .. إلي وزارة مستقلة للصناعة تنشأ لأول مرة في تاريخ مصر !!!

لقد أنكر توفيق الحكيم كل هذا .. فلم يعد كما قال فاقدا للوعي فحسب، وإنما أيضا فاقدا للبصر، فالتغييرات الإيجابية التي شهدتها مصر كانت حقيقة لم ينكرها ألد أعداء مصر من غربيين وصهاينة!!!

وقد يفيد هنا أن أذكر القارئ بمقولة بن جوريون عندما سمع بأن مصر تتجه لبناء تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة .. فقال مقولته الشهيرة: " أن هذا أسوأ خبر سمعته في حياتي ".

كذلك أغفل توفيق الحكيم وعن عمد ما سبق وأن ردده في عام 1965، أنه كان يخلوا إلي نفسه ويحلل في هدوء كل ما يقدم عليه عبد الناصر سواء من ناحية الموضوع أو ما يتعلق بالمنهج، فيجد صواب قراره وصحة منهجه، وأنه _أي توفيق الحكيم_ لو أنه كان في موقع عبد الناصر لما فعل غير ما فعله عبد الناصر!!

وكان من الطبيعي بعد انقلاب الحكيم على تراثه أن يتحول البطل الذي تنبأ بظهوره ليعيد الروح للأمة وينتشلها من رقادها ويصنع المعجزات التي تضاهي معجزة بناء الأهرامات، إلي صورة مختلفة تواكب المناخ الجديد، فتحول عبد الناصر في كراسة عودة الوعي إلي: "شخصية انفعالية غير سياسية، محركها الوحيد" الانفعال "ورد الفعل" والتهويش وأوقع البلاد في كوارث ومصائب، بدأت بتأميم القناة وحرب السويس وانتهت بهزيمة 1967…الخ.

وعلى الرغم من انقلاب توفيق الحكيم على ذاته وعلى الآخرين وهو في ذلك يتشابه في مواقفه وانتهازيته مع السادات، لكن ذاكرة العرب لم تسقط منها صورة السادات وهو يحني رأسه أمام تمثال نصفي لجمال عبد الناصر في بهو مجلس الأمة .. ولم تسقط من ذاكرة العرب مشهد سقوط توفيق الحكيم مغمي عليه وهو يحاول تأبين جمال عبد الناصر وبعد أن أفاق قرأ تلك الكلمات:

:" أعذرني يا جمال. القلم يرتعش في يدي. ليس من عادتي الكتابة والألم يلجم العقل ويذهل الفكر. لن أستطيع الإطالة، لقد دخل الحزن كل بيت تفجعا عليك. لأن كل بيت فيه قطعة منك. لأن كل فرد قد وضع من قلبه لبنة في صرح بنائك.

فأنت لم تكن بالزعيم المصنوع سلفا في مصنع السياسة تربصا للفرص .. بل كنت بضعة من جوهر شعبك النفيس صاغها بيده في دأب وحدب بعد طول معاناة وانتظار على مدى أحقاب. فإن يفقدك اليوم يفقد فيك نفسه وثمرة أمله. لذلك كان هذا الرشد الذي طاش من الرؤوس ساعة سماع نعيك. إنه ليس مجرد حب لشخصك. إنما هو الحرص على معنى يعيش به بلدك.

لقد جسد الشعب فيك صورة حريته، لقد جعل منك حيا تمثال الحرية لنا. فأسمح لنا وقد فارقتنا أن نقيم لك تمثالا عاليا في ميدان التحرير. ليشرف على الأجيال ويكون دائما رمزا للآمال، وما ينبغي أن تقيم هذا التمثال سلطة أو دولة. لكنه الشعب نفسه من ماله القليل يقيمه...وما أرخص المال إلى جانب فضلك يا جمال وخاصة _في أعياد العلم_ على الأدباء والعلماء والمفكرين والفنانين وستبقى دائما في ذاكرتنا."

بعدها كان توفيق الحكيم أول من دفع مبلغ خمسون جنيها _ والمعروف عن الحكيم أنه كان شديد البخل_ مساهمة في تكاليف إقامة تمثال لعبد الناصر عرفانا بالجميل .. ورمزا يشرف على الأجيال القادمة.!!

انهالت الردود والتعليقات تهاجم توفيق الحكيم. لكن أهم الردود على كراسة توفيق الحكيم جاء في كتاب للأستاذ محمد عودة بعنوان "الوعي المفقود"، يحلل فيه شخصية توفيق الحكيم وموقفه من القضايا الاجتماعية والسياسية واتخاذه دائما موقف لا يطاوله فيه أحد، وأنه لو أراد أن ينتقد أو يوجه لأمكنه ذلك، لكنه لم يفعل وآثر السلامة الذاتية وهذا يتفق مع طبيعته الشخصية والأدبية وهى مركبات تبعده عن فهم معني الثورة.

فالبطل الثوري غريب تماما في كل أدبه، وأبطاله جميعا تعادليون أو تلفيقيون يوازنون ويلائمون أو هم مجرد متفرجين أو هاربين يلوذون بمخبأ أو يرون كل شيء خفية .. لا أحد في أبطاله يواجه القضايا حتى النهاية، ولا أحد منهم يفكر أو يثق في قدرته علي صنع أو تغيير الحياة. والدراما المجيدة التي عايشها خلال عشرين عاما وبطلها التاريخي، يقعان تماما خارج قدرته علي الفهم والإدراك.

أما د.غالي شكري فيعري مواقف تلك النخبة المتقلبة من المشتغلين بالعمل الفكري والسياسي في مصر من التجربة الناصرية .. فجميعهم كانوا جزءا من التجربة الناصرية .. وأن الحكيم كان واعيا لأقصي الحدود.

ونحن نضيف إلي ما قاله د. غالي شكري أن توفيق الحكيم كان في الخمسينات من عمره .. عندما كتب يؤيد جمال عبد الناصر والثورة، بينما كتب وأيد الثورة المضادة وقائدها وهو يقترب من الثمانين من عمره !!!

كذلك كان توفيق الحكيم هو الذي كتب بخط يده في فبراير 1972 بيان المثقفين المؤيدين لحركة الطلاب. وهو البيان الذي كان من نتيجته فصل 111 كاتبا وصحفيا من أعمالهم. أما كاتب البيان فحظي بمقابلة الرئيس. ومنذ ذلك اليوم صدر "عودة الوعي" وغيره من التأييد للنظام الجديد بدءا بدعم مبادرة زيارة القدس المحتلة وانتهاء بالدعوة إلي "حياد مصر". وهي خاتمة مثيرة لشيخ رائد تجاوز الثمانين ولكنها ليست خاتمة الثقافة المصرية."

على أثر هذا البيان الذي انتقد فيه الحكيم السادات بشأن موقفه ومناوراته من قضية الحرب .. هاجمه السادات أمام الرأي العام فوصفه بأنه" رجل عجوز استبد به الخرف وانه يكتب بقلم يقطر بالحقد الأسود، وانه في مقابلته مع الدكتور حاتم أبدى آراء انهزامية. ثم أضاف أنها محنة أن رجل رفعته مصر لمكانته الأدبية إلى مستوى القمة ينحدر إلى الحضيض في أواخر عمره."

وهكذا يتبن للقارئ الفارق بين المكانة والنظرة والاحترام التي تعامل بها عبد الناصر مع توفيق الحكيم، وبين التوصيف والأسلوب الذي خاطب به السادات توفيق الحكيم .. ويتبين أيضا التناقض في موقف توفيق الحكيم نفسه، فقد أساء لمن أحسن إليه، وأساء لنفسه عندما نافق وأيد من أهانه!!!

أما موقف د. فؤاد زكريا أستاذ الفلسفة ورئيس مجلة الفكر المعاصر وهي منبر ثقافي كان يمكنه من خلالها أن يصرح وأن يطرح ما يشاء من رأي، لكنه مثل بقية النخبة الليبرالية الجبانة لم يكونوا على استعداد لدفع ثمن مواقفهم السياسية والفكرية .. فآثروا السلامة وانتظروا مناخ الثورة المضادة لكي يظهروا في كنفها فحولتهم.

كان دليل فؤاد زكريا على فشل التجربة الناصرية أنها:"…لم تقضى على الألقاب الموروثة لمرحلة ما قبل 1952" الباشا، البيك، صاحب المعالي..الخ...وأعتبر استقبال الشعب المصري لريتشارد نيكسون في القاهرة 1974، بأنه استفتاء شعبيا على رفض الشعب المصري للاشتراكية والثورة الناصرية عامة.

إلا أن أقسى التهم تلفيقا ووضاعة وكذبا قد وردت في كتاب "من وراء الأسوار" للصحفي الوفدي جلال الدين الحمامصي .. الذي ادعي أن ناصر اختلس لنفسه من أموال الدولة مبلغ 15 مليون دولار حولها لحسابه في بنوك في الخارج. لقد أثارت هذه التهمة الموجهة إلى الذمة المالية لعبد الناصر سخطا شعبيا داخل مصر، وسخطا أكثر في العالم العربي.

حول هذه الواقعة كتب هيكل:"ردا على هذه التهمة فان نظام السادات تحت ضغط شعبي رهيب لجماهير تريد أن تعرف الحقيقة، شكل لجنة تحقيق، وأظهر تقرير اللجنة، بأن الملك سعود قد تبرع للمجهود الحربي عقب الهزيمة العسكرية 1967 بمبلغ 5 مليون دولار، ثم رصدها في حساب التبرعات التي يشرف عليها رئيس الجمهورية، وانتقل هذا المبلغ إلى أشراف السادات.

أما القرض الذي قدمته السعودية وقيمته 10 مليون دولار فتم تحصيله بمعرفة وزارتي الاقتصاد والتجارة الخارجية والخزانة والبنك المركزي المصري."

وحول نفس الواقعة الملفقة والحقيرة .. فضح أحمد بهاء الدين أسم من كان يقف خلف هذا الكاتب الأفاق يشجعه:" أن الحملة الشرسة ضد ثورة يوليو وضد جمال عبد الناصر كانت قد وصلت في مصر إلي أقصاها. وكان هذا يلقي اشمئزازا شديدا من الرأي العام والصحافة في البلاد العربية بوجه عام. وكان الاعتقاد الشائع _وهو في تقديري صحيح تماما_ أن السادات هو مخطط وموجه هذه الحملة. وأنه يسخر صفحات الإعلام المصري لحزب الانتقام من الثورة ومن جمال عبد الناصر.

وكان كلما اشتدت الحملة وبدأت تحدث رد فعل مضاد، انتهز مناسبة في إحدى خطبه ليعلن أنه أمين على أسم عبد الناصر وسمعته وعائلته ولكن بطريقة لا يخفي على أحد أنها تمثيلية…وكانت إحدى قمم تلك الحملة هي اتهام عبد الناصر بأنه أختلس عشرة ملايين دولار!

أمر السادات بتشكيل لجنة لبحث الموضوع تحت ضغط الرأي العام، وحين تم التقرير الذي أكد براءة عبد الناصر من هذا الاتهام السخيف الرخيص، كان السادات يلقي خطابا في البرلمان، فأعلن أن التقرير يبرئ ناصر وأنه يودع التقرير أمانة مجلس الشعب ولم ينشر التقرير على الناس . فتلك كانت طريقته في بقاء الشبهة تحوم في الفضاء!

وفي زيارة السادات للكويت…انتهز نواب في البرلمان الكويتي من كل الاتجاهات الفرصة، ليرد كل منهم في تعليقه على أن نجاح الكويت في المفاوضات وفي امتلاك بترولها كله، أنه لابد في هذه المناسبة من ذكر جمال عبد الناصر الذي كان أول من قال: "بترول العرب للعرب" في وقت كان يبدو فيه هذا الكلام حديث خرافة… وكان جزء من هذه الخطابات مقصود به أن يسمع عنه السادات.

وفي الليل أقيمت للسادات مأدبة عشاء رسمية…وحدث حادث غريب مفاجئ. إذ تقدم إلي السادات أحد كبار القوم من الكويتيين وقال له على مسمع من الموجودين المحيطين يا سيادة الرئيس، نحن لا نقبل أن يقال في مصر أن جمال عبد الناصر قد اختلس عشرة ملايين جنيه وأنا شخصيا، ويشهد كل الأخوان الواقفين، كنت ضد جمال عبد الناصر، وكنت ضد حرب اليمن بالذات.

ولكن أن يقال أن جمال عبد الناصر الذي كانت خزائن مصر كلها في يديه، وخزائن العرب إذا شاء، قد اختلس عشرة ملايين دولار فهذا عار على الأمة العربية كلها. التي كان جمال عبد الناصر _شئنا أم أبينا_ رمزا لها في العالم كله.

وأنني اطلب من سيادتكم أن تقول لنا أي مبلغ ترون أنه في ذمة جمال عبد الناصر للخزانة المصرية، وسوف ندعو الشعب الكويتي للتبرع به وتسديده عنه. وسيجمع الشعب الكويتي أي مبلغ في أقل من 24 ساعة.

ويضيف أحمد بهاء الدين:"…كان رئيس اللجنة الذي اختير لفحص موضوع _الاختلاس_ وتقديم التقرير هو المرحوم د. علي الجريتلي…وقد قابلته وسألته عن التقرير وقال لي د. الجريتلي أنني لم أسمح لأحد في اللجنة أن يشاركني في العمل وقد قمت بنفسي بمتابعة كل الموضوع…وقد كنت واثقا من النتيجة فقد كان عبد الناصر أكثر كبرياء من أن يقبل بأي إفساد له.

ثم استطرد د. الجريتلي قائلا: بعد موت عبد الناصر بسنة تقريبا كنت في مقابلة مع رئيس البنوك السويسرية وإذا به يقول لي أن المخابرات الأمريكية والمخابرات الإسرائيلية قد "هلكتنا" شهورا طويلة. وسألته لماذا؟ فقال لي الرجل السويسري: لقد حاولوا بأي طريقة العثور على أي حساب باسم جمال عبد الناصر فلم يجدوا."

وبقراءة شهادة أحمد بهاء الدين يتكشف للجميع أن العداء لثورة يوليو وجمال عبد الناصر قد استقطب أطرافا محلية وإقليمية ودولية .. كانت تسعي جميعها في تلويث سمعة عبد الناصر، بغرض القضاء على تجربته، من هنا كانت محاولة السادات ومن خلفه فلول اللبراليين الأفاقين للإساءة لهذا الرمز وتلك التجربة .. أمرا ليس عفويا .. ولا هو تصفية حسابات لأن من قاموا بهذا لم يذكروا إساءة جرت لهم .. فجميعهم كانوا جزءا من التجربة، سواء من كان منهم يشارك في السياسية أو في صناعة الثقافة .. كان هدف ضرب التجربة الناصرية أمرا مدبرا ومقصودا لذاته .. يؤكده مواقف تلك النخبة تجاه أهم قضيتين .. قضية الصراع العربي _ الصهيوني، وموقفهم من قضية الصراع الاجتماعي في مصر.

في مواجهة حملة اللبراليين التلفقيين .. كتبت العديد من رموز اليسار دفاعا عن مصر وعبد الناصر. فكتب محمد فريد شهدي حول العلاقة التي تجمع بين عبد الناصر والعمال والفلاحين..

" أن جماهير العمال والفلاحين بالرغم من أنهم لم يتخيلوا يوما أن عبد الناصر كان واحدا منهم، أو ممثلا لطبقتهم، إلا أنهم شعروا بشكل عام وطاغ، أنه كان أقرب كل من حكموا مصر قبله إلي قلوبهم ووجدانهم .. يكفي أنه كان أول من قال لهم..نعم".

ويستعرض شهدي الأسباب التي جعلت عبد الناصر يقول للديمقراطية الليبرالية..لا. أن"...التراث التاريخي للنضال الديمقراطي في مصر، هو تراث محدود الأثر ومن ثم محدود التأثير علي الاحتواء التاريخي للعملية الاجتماعية، فالمناضلون المصريون كتبوا كثيرا عن الديمقراطية .. والحرية، وحرية العقيدة وحرية الفكر والصحافة، لمفكرين تحدثوا عن الديمقراطية طويلا .. رفاعة الطهطاوي، شبلي شميل، الأفغاني، النديم، الكواكبي، ولي الدين يكن، فرح أنطون، نقولا حداد. لكن الحديث كان مصبوغا بصبغة ليبرالية، لكن إلي أين يقود؟ وإلي أين قادت أصحابها؟

كانت الكلمات البراقة عن الحرية والديمقراطية لا تغير قيد شعره من الموقف الاجتماعي الصارخ لصاحبها والأمثلة كثيرة عندما تأسس الحزب الوطني عام 1919 احتشد فيه الكثيرين من مثقفي البرجوازية بل والمثقفين الإقطاعيين جنبا إلي جنب مع المثقفين اليساريين .. احتشدوا جميعا تحت رايات الليبرالية الحرية والديمقراطية للجميع. لكن ماذا تعني كلمة للجميع؟

هنا اختلفوا انشقوا وتسارع أمثال د. محمد حسين هيكل باشا ولطفي السيد إلي مواقعهم الطبقية يؤسسون حزبا لكبار الملاك العقاريين ويختارون له اسما ليبراليا "الأحرار الدستوريين" وواصلوا الحديث عن الحرية…وكانت مجلتهم "السياسة" نموذجا صارخا لهذا التناقض غير المفهوم.

هكذا فقدت الكلمة مغزاها في وجدان الشعب المصري…كان التراث الحزبي في مصر مخيبا للآمال…حتى حزب الوفد ذو تراث نضال ضد الاستعمار…استطاع عتاة الرجعيين أن يتسلقوا قمة الوفد، وكان هذا طبيعيا طالما أنه لا برنامج اجتماعي علي الإطلاق، وإنما حمل شعارات عامة مبهمة ومطاطة…ولقد أدي ذلك كله بالضباط الشبان إلي نبذ فكرة الحزبية وإلي معاداتها."

أما الأستاذ محمود أمين العالم، وهو واحد من أعلام النخبة الماركسية في العالم العربي قد وصف الانقلابيين على ناصر والناصرية قائلا:"إن أغلب هؤلاء الذين يشهرون اليوم أسلحتهم في وجه التجربة الناصرية، كانوا أكثر الناس تمجيدا لسلبياتها خاصة، وأكثر الناس استفادة منها عامة. فقد كانوا أداة من أدوات التخلف الديمقراطي والاجتماعي...باسم التباكي على الديمقراطية توجه اليوم أكثر الطعنات ضراوة إلى جمال عبد الناصر. إن هذه الطعنات تستهدف ثورة مصر والثورة العربية."

وفي جريدة السفير البيروتية كتب كريم مروه عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي اللبناني حول الهجوم على الناصرية قائلا:" تبلغ الحملة القائمة في مصر لتصفية منجزات الثورة مستوي الردة الحقيقية. وتجند في هذه الحملة قوي بيدها السلطة وقوي تستند إلي دعم السلطة…يتصدى في الإسهام في هذه الحملة أشخاص من أمثال الشقيقين علي أمين ومصطفي أمين اللذين أدين أحدهما بتهمة التجسس لأمريكا، وكانا طوال حياتهما التي سبقت الثورة يعملان في خدمة الملك فاروق…إن هذه الحملة ليست، بالطبع، حدثا عاديا.

فالثورة بقيادة ناصر، كانت المنطلق في تطور الحركة الثورية العربية خلال عشرين عاما…ولذلك فان التصدي لضرب منجزاتها يهم كل الذين تأثروا بها في كل أرجاء الوطن العربي، والذين قدروا أهمية الدور لعبته على الصعيد العالمي.

............

كانت المعركة التي تولي قيادتها نخبة من المنافقين الليبراليين ومعهم جماعة الإخوان تجري على أرضية رفع الشعارات وإلصاق التهم بدون دليل، وكانوا يدركون أن مناقشة قضية الديمقراطية سوف تستتبع بالضرورة مناقشة الواقع السياسي قبل الثورة .. وأهم من ذلك سوف تطرح قضية الديمقراطية الاجتماعية لأنها المدخل الحقيقي للديمقراطية السياسية، وهذا يجبرهم على الاعتراف بأن الديمقراطية الاجتماعية هي من صروح وإبداعات الناصرية والتي تميزت بها عن بقية التجارب الإنسانية المطبقة في العالم الثالث، وهذا ما لا يردون الخوض فيه أو الاعتراف به.

للمزيد من الاضطلاع .. راجع تلك المصادر:
_ عودة الوعي. توفيق الحكيم. _ محمد عودة. الوعي المفقود. القاهرة. 1975. _ د. غالي شكري. منديل الأمان. باريس. مجلة الوطن العربي. _ محمد عودة. الافتراء على الناصري..والجهل بالماركسية. القاهرة. 1976 _ محمد حسنين هيكل. لمصر..لا لعبد الناصر. _ محمد حسنين هيكل . خريف الغضب. _ أحمد بهاء الدين. حواراتي مع السادات. _ د. سمير أمين. الأمة العربية. القومية وصراع الطبقات. _ حمدي الكنيسي. قالوا في عبد الناصر. _ محمد فريد شهدي. تأملات في الناصرية. بيروت. 1973. _ محمود أمين العالم. 23 يوليو خمسة أبعاد. 1974. _ كريم مروة. دفاعا عن ثورة يوليو وعن تراث عبد الناصر. جريدة السفير. بيروت. 1974. د. فؤاد زكريا. كم عمر الغضب. هيكل وأزمة العقل العربي. الكويت. 1983.

محمد فؤاد المغازي

تاريخ النشر : 24.10.2004