النظام المصري.. بين السياحة ..
ومهمة المأذون ودور الحانــوتي
بقلم : محمد فؤاد المغازي


محمد فؤاد المغازي
النخبة التي تتولي صياغة الفعل السياسي في مصر اختارت لنفسها .. أو فرض عليها هذا الاختيار بفعل المصلحة المشتركة ودورها في إطار المشروع الغربي _ الصهيوني .. أن تبتعد وتبعد مصر عن أي مشاركة قد تجرها إلي نقض معاهدة كامب ديفيد التي حولت مصر من دولة وعاصمة للعرب .. إلي دولة شرق أوسطية .. وكيان باهت لا طعم له ولا دور ولا مستقبل.

كما التزمت النخبة الحاكمة في إدارة الحكم بغض الطرف .. فتركت الحبل على الغارب لكل الفئات الاجتماعية أن تصيغ قوانين مهنتها كما تشاء وتهوي وما يتناسب مع مصالحها فتلتهى بمشاكلها. فكرة جهنمية .. فقد استعانوا بمقولة آدم سميث ( دعه يعمل .. دعه يمر ) مع تحريف بسيط ( دعه يسرق .. دعه يهرب ) والأمثلة كثيرة ومطبقة في قطاعات (السكن، الصحة، المواصلات، التعليم، البنوك. الخ).

أما على مستوي العلاقات الدولية والإقليمية التزمت النخبة الحاكمة بعد اتفاقية كامب ديفيد بفلسفة المثل الشائع ( أمشي جنب الحيطة )، فمن بصق في وجهك ربنا ينتقم منه. ومن اعتدي علينا .. فربنا على الظالم. ومن قتل جنودنا في سيناء بدم بارد وبرصاص انطلق في اتجاه قلب مصر هو محض خطأ .. معلهش .. ومقبولة منك يا شارون!!

وطالما أن كل الأشياء أصبحت مستباحة فلماذا لا يأخذ الجراد هو الآخر نصيبه .. فليس هناك من يحاسب أو يحقق أو يعاقب!!

وهكذا .. حولت النخبة الحاكمة مصر من دولة إلي مؤسسة سياحية للخدمات الإقليمية والدولية .. فوفر عليها هذا الاختيار .. أن تظل مصر ملتزمة ومنفذة لما فرضته نصوص معاهدة كامب ديفيد في أن تبقي مصر دولة شرق أوسطية وفي هذا ما يؤمن الرضا والأمن للجميع .. للنخبة الحاكمة ولأطراف المشروع الغربي – الصهيوني.

بعد هذا الاختيار كان من الطبيعي أن تبتعد دولة السياحة وتبعد نفسها عن الدخول أو الاشتراك في صراعات تضر بمصالح النخبة .. وركزت جهودها على خلق أجواء مستقرة حتى وإن كانت مصطنعة .. لتؤمن لكل القادمين إلي دولة السياحة المتعة .. وتعد لهم برامج ومتطلبات الانبساط والانشراح.

إضافة إلي ذلك فإن تحويل مصر إلي دولة للسياحة يؤمن غطاء دعائي يساعد في ترويج إشاعة جلب رؤوس الأموال الأجنبية للاستثمار في مصر وطمأنته، ولأن رأس المال فضلا عن أنه جبان .. إلا أنه صاحب مزاج وإحساس مرهف يحب أن يستغل ويسرق في الأجواء الهادئة وهذا هو دور النخبة في تهيئة تلك الأجواء .. فهم في النهاية شركاء هذا الأجنبي في استغلال شعوبهم.

غير أن رقعة الصراع والاضطراب السائدة في المنطقة لا يمكن إخفائها مهما بلغت قدرة الحواة .. فعدم الاستقرار في المنطقة ظاهرة معروفة للجميع .. حتى داخل دولة السياحة نفسها فهي ليست أفضل حالا من غيرها .. وأن الادعاء من صاحب دولة السياحة أن دولته تعيش حالة من الاستقرار والهدوء هو ادعاء غير حقيقي .. وصادر عن كذاب.

ولأن القضية الفلسطينية هي بؤرة الصراع العربي ومحوره .. فإنها ستظل القضية المركزية الأولي لأمة العرب بغض النظر عن الرفض أو التأييد لتلك الحقيقة، فالإنسان ليس له رأي في وجود الطبيعة ولكن من المؤكد أن له رأيا ومنهجا في التعامل معها.

من هنا لم يكن أمام النخبة الحاكمة في غير التسليم بتلك الحقيقة وعلى مضض .. نعم سلمت بتلك الحقيقة لكنها تعاملت معها بمنهج تمثيلي وليس عقائدي .. فالسماسرة لا عقيدة لهم ولا دين .. فاهتدوا إلي أن أنسب أشكال التعامل مع القضية الفلسطينية هي أن تتولي النخبة الحاكمة في دولة السياحة مهام المأذون السياسي .. فتحاول أن تحشر الفلسطينيون والإسرائيليون في لباس واحد ( استخدمت كلمة اللباس لموقعه في اللغة العربية الفصحى) .. بمعني جمعهم تحت غطاء واحد لا يهم ماذا يجري تحت الغطاء!!

وكانت النتيجة أن رفض الفلسطينيون الدخول في لباس الزوجية ولا قبلوا أن يعطوا ظهرهم للصهاينة .. ولا قبل الإسرائيليون بنفس الشئ .. على الرغم من أن اللواء الترزي رئيس جهاز المخابرات لدولة السياحة قد قام بنفسه وجرب أمامهم الوقوف تارة أمام الفلسطينيين وتارة أخري أمام الإسرائيليين .. ولم يشعر بشئ يصعب تحمله.

وتؤكد الأخبار أن المحاولات التي جرت بفرض إتمام الزواج بين الفلسطينيين والإسرائيليين باءت بالفشل .. فمطلب السلطة الفلسطينية أن يتم إشهار الزواج علنيا وأن يتولى قـريع قرع الدفوف، في الوقت الذي أصر فيه الصهاينة أن يكون الزواج بغير إعلان .. وبغير تعاقد رسمي، ورفضوا حتى فكرة الزواج العرفي لأنه يجبرهم على توقيع وثيقة الزواج .. وهكذا لم تحقق الجولات المكوكية للواء الترزي الوصول إلي أي اتفاق.

وعلينا في قريب الأيام أن لا نستغرب إذا ما ظهر المأذون السياحي على مسرح العراق غدا .. ليلعب نفس الدور بين المقاومة العراقية الباسلة وبين البوشيون( والبوشيون هو مصطلح أطلقه كاتب هذه السطور ) على مجموعة علاوي بوصفهم عملاء لبوش، واقرب الناس لقادة ما يسمي بالنظام العربي في لعب نفس الدور.

على كل الأحـــــــــوال..

لم يكتفي النظام المصري أن يقوم بمهمة المأذون لإتمام زواج غير شرعي، ولم يكتفي بتنظيم حركة المرور أمام الجوامع بعد صلاة كل جمعة، أو حول أسوار الجامعات، وإنما وسع دائرة إبداعاته ونشاطه فتوصل إلي خلق مهنة جديدة لدولة السياحة هي الأولي في تاريخ العلاقات الدولية فظهر المأذون الأعظم على المسرح السياسي في دور حانوتــــــــي سياحي.

ومنافسا للفنان العظيم المشهور أبو دم خفيف الأستاذ عبد الفتاح القصري .. فتخيلوا معي صاحبنا وهو يقف أمام مسجد عمر مكرم ووسط المعزيين يردد " إيه .. دنيـــــــــــــــا ".

قبل رحيل ياسر عرفات كنت واحدا من المؤمنين بأن الثورة الفلسطينية هي الوريث الشرعي للثورة 23 يوليو .. فكنت من المؤيدين للثورة ولياسر عرفات. ولكن بعد أن تراكمت الانحرافات وتحولت الثورة من ثورة إلي سلطة .. بقيت على وفائي للثورة واعترضت على السلطة وتوجهاتها خاصة بعد أن حول تجار أسلوا الصراع العربي _ الصهيوني .. إلي صراع فلسطيني _ إسرائيلي، ثم قزموه وصغروه أكثر فاستبعد مصطلح الصراع أصلا .. كما ورد على لسان أحد تجار أسلو الذي قال: بأن ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين ليس صراعا .. وإنما خلافا سياسيا .. وقد يكون لصاحب تلك المقولة غدا .. الأمر والسلطان كله !!

غير أن الطريقة التي جري التعامل بها مع ياسر عرفات بعد وفاته آلمتني كثيرا. فقد تسببت مراسيم دفنه ووداعه لمشاكل وإحراج لما يسمي بالنظام العربي. فكان المطلوب أن يواري جثمان ياسر عرفات في عاصمة حلمه القدس وفقا لوصيته .. لكن شارون رفض.

وكان من المفروض أن تجري مراسيم دفنه ووداعه بما يتناسب مع دوره وموقعه السياسي، وهذا يطرح مشاركة من فحول العرب من الحكام .. لكن شارون رفض أن يجري هذا على أرض فلسطين، ولم يكن في مقدور فحول العرب أن يفعلوا شيئا في مواجهة رفض شارون.

لم يتبقى غير مخرجا وحيدا .. وحلا للمشكلة هو أن يتحول المأذون السياسي إلي حانوتي سياحي ولو بصفة مؤقتة .. فيتولى ترتيب جنازة سياحية لياسر عرفات.

واسترجعت الذاكرة .. أن دور الحانوتي السياسي ليس حالة عرضية أو جديدة على قيادة الثورة المضادة .. فقد تولاه لفترة حفيد ست البرين عندما سمح بدفن جثة الملك فاروق الذي تاجر بمصر ومارس فيها أبشع جرائمه وعهره، ثم تكرر المشهد والموقف مع شاة إيران الذي كان له دورا معاديا للعرب ومؤيدا للكيان الصهيوني .. أعترف بإسرائيل وأمدها بالنفط .. وسمح لطياريها بالتدريب في أجواء إيران .. وأخيرا استقبلت مصر وعلى غير رضا منها جثة الشاة لتدفن في ترابها الطاهر .. وأصبحت مصر وكأنها عزبة وُرِّثـَـتْ لحفيد ست البرين .. ومن بعده لأبن الست أم محمد.

منعت ترتيبات الجنازة السياحية على الشعب العربي في مصر أن يشارك في جنازة أحد أبنائه .. فياسر عرفات لم يكن الملك فاروق، ولا كان كشاة إيران .. وإنما كان ياسر عرفات واحدا من أطفال مصر ولد على أرضها، ورضع من صدر مصر، وتربي وتعلم في مدارس وجامعات مصر .. لهذا فلياسر عرفات وبغير مبالغة حق في عنق مصر .. لا يقارن بأحد من الغرباء .. فكما ربته وهدهدته ورعته كان عليها _ وكانت راغبة في ذلك _ أن تكرمه وفقا لتقاليدها .. وبحنان وحب الأم لولدها.

كان من حق ياسر عرفات على أمه أن تخرج بالملايين كي تستقبله .. وكان من حق الأم أن تضم ولدها إلي صدرها للمرة الأخيرة .. وتمسح عنه عرق وعذاب وقسوة الأيام والسنين .. فلم يكن من بين الحاضرين من له حقا في ياسر عرفات يوازي حق مصر .. ولا كان من بين من حضروا الجنازة السياحية حق في مصر مثلما كان لياسر عرفات .. بمن فيهم الحانوتي السياسي.

لكن ما العمل والدفن السياحي يتطلب إسقاط كل هذه الحقوق .. والتقيد فقط ببروتوكولات حكماء العرب وحكامهم .. فانتهت الجنازة السياحية باستبعاد كل من له حق .. فأضاعوا حق الأم .. وأضاعوا حق ولدها. كل هذا لكي تقتصر الجنازة السياحية على الحانوتي ورفاقه .. ولتتحول إلي غطاء سياسي لفحول العرب ممن حاصروه .. وخذلوه .. وأهانوه.

عزيزي القارئ ..

نعـــــم .. هذا هو دور النخبة الحاكمة في مصر .. إقامة الأعراس السياسية في أفخم الفنادق 7 نجوم .. مثل الفنادق التي تجري فيها أفراح وزواج أبناء الأثرياء اللصوص، ولا يهم بعد ذلك أن يتم الطلاق ثاني يوم فالطلاق مقدمة لعقد قران سياسي جديد وكله بثمنه وبثوابه .. وجنائز سياحية .. وهي دوامة وسيرك .. الدوامة مطلوب دورانها باستمرار .. والسيرك السياسي مطلوب أن يستمر في تقديم عروضه !!!

فترقبوا العروض المسرحية في الأيام القادمة بخصوص العراق في شرم الشيخ عاصمة دولة السياحة... وأخيرا .. معذرة لأستاذنا عبد الفتاح القصري فقد تطاولت عليه عندما شبهته وأسندت دوره إلي حانوتي عصري سمج ، وسياحي ثقيل الدم، بليد الإحساس، جاهل بأصول مهنة الحانوتي والحكم أيضا.

ما هي .. دنيـــــــــــــــا.<



محمد فؤاد المغازي

تاريخ النشر : 21.11.2004